تثير الاتصالات الديبلوماسية والأمنية المتنامية بين واشنطن وتجمع ما يسمى بالرباعية العربية مصر والسعودية والأردن والإمارات العديد من التساؤلات في المنطقة، أغلبها يحمل "عقلية المؤامرة" التي باتت تسيطر على النخبة السياسية ورجل الشارع المهمش في ظل غياب المعلومات. فمنذ مطلع هذا العام عقد اجتماعان شبه علنيين بين وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس والمسؤولين عن اجهزة الاستخبارات في الدول الأربع. وفي الخلفية اليومية تغيّر واضح في دور المسؤولين الأمنيين في مجال إدارة السياسة الخارجية بالتوازي مع قادة الدول، كما يظهر من خلال الاتصالات التي تجريها مصر مع الفلسطينيين لحل قضية الأسرى الى جانب قنوات الاتصال بين الرياض وكل من واشنطن وطهران وخط المحادثات بين واشنطنوعمان وتل أبيب. أجواء القلاقل السياسية التي ضربت المنطقة منذ انهيار العراق قبل اربع سنوات كانت من بين العوامل التي قلبت المعادلة لصالح تقدم دور الأجهزة الأمنية على الساحتين الداخلية والخارجية، إذ باتت الأولوية لضمان الأمن وصار الأمني يقود السياسي وليس العكس. ويطال الجدل الدائر في العواصم العربية بعد لقاءات رايس بالرباعية الامنية العربية بعدين. فمن جهة، هناك مخاوف مشروعة من أن هذه الاجتماعات تؤشر الى مرحلة جديدة من التقاء السياسات الاميركية - العربية على أولوية محاكاة الهم الاسرائيلي - الاميركي بينما تتراجع الحقوق الوطنية العربية والأمن إلى مصاف القضايا الفرعية. وبالمقابل هناك من يرى ضرورة عكس التغيير الحاصل في مرجعيات السياسة الخارجية العربية من خلال فصل السلطات وتعزيز العمل المؤسساتي وتحقيق إصلاحات اقتصادية وسياسية تقوي الجبهة الداخلية الهشة. فلماذا هذا التحول؟ يرى متابعون لطريقة صناعة القرار السياسي أن مديري أجهزة الاستخبارات العربية إجمالا يقودون مسارا موازيا للديبلوماسية العلنية لكنّه أكثر عمقا وأقل تعرضا للاهتزازات أو الاجتهادات غير المبنية على معطيات ووقائع. كما أن المسار الأمني - الاستخباراتي يرتبط بمرجعية وحيدة تقدّم إلى صانع القرار معطيات دقيقة، فيما يعرض السياسيون إطارا للوقائع لا يغوص في تفاصيل القضايا المطروحة. تزامن اللقاءان غير المسبوقين اللذين سبقت الاشارة اليهما بين رايس والمسؤولين الامنيين مع شروع دول"الاعتدال"العربي بمراجعة مواقفها تجاه الملفات العالقة في لبنانوفلسطينوالعراق. وكذا قيام الإدارة الأميركية بمراجعة تكتيكية لسياساتها تجاه المنطقة عقب سلسلة انهيارات عمّقها صعود المحافظين الجدد المتحالفين مع إسرائيل، قبل ست سنوات، إلى حلقات صناعة القرار العليا في مقدمتهم نائب الرئيس ديك تشيني ومساعده إليوت أبرامز. الاجتماع الأول بين رايس ورؤساء الأجهزة الأمنية عقد في عمان مطلع العام الحالي بعد أن أطلق بوش استراتيجيته الأخيرة للتعاطي مع ملف العراق في محاولة بائسة بحثا عن حل مشرف بما يضمن جدولة خروج قواته من مستنقع الفشل السياسي والعسكري الذي أضحى عاملا رئيسيا يتحكم بالأجندة السياسية والشعبوية للولايات المتحدة. وكان لا بد من مراجعة مع رايس تقنع الأمنيين قبل أن تعتمد الحكومات مواقف سياسية تعكس ذلك. الاجتماع الثاني عقد في أسوان أواخر الشهر الماضي عشية قمة الرياض العربية التي أعادت إطلاق مبادرة سلام 2002 المرتكزة إلى حل الصراع العربي - الإسرائيلي من خلال إقامة دولة فلسطينية مستقلة وتسوية ملف اللاجئين الشائك مع انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية كافة مقابل تطبيع العلاقات مع الدولة العبرية والاعتراف بحقها في الوجود. بين واشنطن وعواصم"الاعتدال"، جال وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس في عمّان وتل أبيب والقاهرة، العواصم الثلاث التي تحتفظ بقنوات اتصال أمنية وديبلوماسية رغم فتور العلاقات السياسية بين الطرفين العربيين والدولة العبرية. لضمان نجاح كل من التحول في سياسة بوش تجاه العراق ومسعى العرب لإطلاق هجوم السلام الأخير، لا بد من تعاون الطرفين على قاعدة جديدة ضمن أسس استراتيجية اشمل تسعى لتحجيم إيران ومحاربة الإرهاب الذي بات يهدد واشنطن وحلفاءها العرب. لكن أجندة أميركا - التي ظلّت رهينة الملف العراقي منذ العام 2003 - تختلف عن أولويات دول المنطقة التي ترى في تسوية القضية الفلسطينية مفتاح حل مختلف أزمات المنطقة والسلاح الأقوى في مواجهة انتشار الإرهاب"القاعدي"من المغرب وحتى البحرين. جزء كبير من نجاح استراتيجية بوش تجاه العراق يعتمد على تعاون دول الجوار الأكثر تضررا من طيش الديبلوماسية الأميركية بعد أن شكّل انهيار العراق أهم عوامل عدم الاستقرار السياسي في هذه المنطقة منذ قيام دولة إسرائيل قبل ستة عقود. بالمقابل يعتمد نجاح حملة السلام العربية بشكل كبير على واشنطن ومدى استعدادها لفرض تسوية مستغلة ضعف رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت المكبّل بتداعيات الحرب على لبنان وقضايا فساد وتحرش جنسي. على الإدارة الأميركية أن تدرك أن الحملة العربية قد تكون آخر طلقة بعد تشكيل حكومة وحدة وطنية في فلسطين قد تمكّن الرئيس الفلسطيني محمود عباس من الإمساك بملف التفاوض مع إسرائيل وبالتالي دحض مزاعم تل ابيب التي تروّج لعدم وجود شريك سلام. لكن لا بد من وضع شروط دقيقة وبرامج زمنية لضمان نجاح معادلة"تعاون العرب مع أميركا لتحقيق نصر في العراق مقابل تعاون أميركا مع العرب لتحقيق نصر في فلسطين". الرباعية العربية مثلا مستعدة لدعم الجهود الاميركية في العراق لكن ضمن استراتيجية واضحة ومبنية على جدول زمني محدد. فهي تريد ضمانات بأن حكومة نوري المالكي العراقية التي تحتمي وراء الادارة الأميركية لن تقود البلاد إلى احتمالات التشظي إلى كانتونات عرقية وطائفية لأنها أصبحت جزءاً من المشكلة وليس الحل. كما تريد ضمانات واضحة في ما يتعلق بالملف الفلسطيني. وبالنسبة الى ايران ترغب الرباعية العربية وأميركا في تقليم أظافرها. لكن الاختلاف هو حول الطريقة. إذ يريد أغلب العرب، والكلام لرسميين، محاصرة نفوذ إيران بالوكالة لدى"حماس"و"الجهاد الإسلامي"الفلسطينيين و"حزب الله"اللبناني. وتتناقض هذه الرؤية المتدرجة مع مخاوف من مخططات استراتيجية أميركية - اسرائيلية لشن حرب تكتيكية ضد إيران على أمل إعادة عقارب ساعة برنامجها النووي الى الوراء. مثل هذه المغامرة غير المحسوبة، من منظور عربي، تهدد بنسف أسس الاستقرار على امتداد المنطقة، وتدمير الاقتصاديات وشحن خلايا إرهابية نائمة داخل وخلف الحدود الإقليمية. وينصح العرب باستمالة عناصر قيادية معتدلة في إيران والتركيز على دعم حركات المعارضة المشتّتة على أمل تغيير معادلة القيادة من الداخل في زمن تشتد فيه معاناة الشعب بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية. إذن يتمحور الاختلاف الأميركي - العربي حول التكتيك. ولا بد للطرفين المتقابلين أن يتحاورا حول الأسس والتفاصيل التي تتطلب تداخلا بين السياسة والأمن. ولا بد لتناغم الرباعية الأمنية والسياسية وتقديم موقف موحّد لزعمائهم في المنطقة وفي واشنطن. اللقاءات الأمنية أحرجت الدول العربية لجهة التوقيت عشية القمة العربية. لكنّ هذه الدول ترفض الربط بين السياسات العربية البينية وبين التنسيق الاستراتيجي المتواصل مع واشنطن. سياسي يتابع ملف هذه الاتصالات قال ل"الحياة"إن على المراقبين أن"يتفهّموا انه عندما يلتقي مديرو الأمن والاستخبارات في تجمع الرباعية مع رايس فان ذلك لا يعني أنهم يعملون عندها أو يتفقون مع كل ما تقوله". وفي رأي هذا السياسي تظل معادلة"العراق مقابل فلسطين"أساس الحوار والعمل للثنائية السياسية والأمنية العربية الجديدة اذ تبقى اميركا بحاجة الى دعم العالم العربي. ستثبت الأيام والأشهر القادمة في ما إذا كانت هذه الدول نجحت في رسم مسافة فاصلة عن الإملاءات الأميركية لا سيما أن السياسة الخارجية الأميركية باتت في أمس الحاجة لتعاون العرب - مع أنها ما زالت تضع القضية الفلسطينية في المقعد الخلفي. * صحافية اردنية