كتاب ايلان بابه "التطهير العرقي في فلسطين" الذي تنشر "الحياة" فصولاً منه، يكشف المسكوت عنه حول دور التطهير العرقي في إنشاء إسرائيل. ويدحض المؤلف الأفكار الرائجة عن ان نزوح الفلسطينيين من أرضهم يعود الى اختيار طوعي أو الى وعود الجيوش العربية بأن النازحين سيعودون ما ان تكمل عملياتها ضد ما سمي آنذاك "العصابات الصهيونية". تصدر الطبعة العربية من الكتاب في أواسط الشهر المقبل عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأنجز الترجمة أحمد خليفة. والمؤلف ايلان بابه من المؤرخين الإسرائيليين الجدد وأستاذ في جامعة حيفا وناشط في مؤسسات أبحاث من اجل السلام. "الحياة" نشرت خمس حلقات، وهنا السادسة: لم تتخطَّ حملة تدمير المدن الفلسطينيةالقدس، التي تحولت بسرعة من"المدينة الخالدة"، كما يصفها كتاب لسليم تماري، إلى"مدينة أشباح". قصفت القوات اليهودية الأحياء العربية الغربية ثم هاجمتها واحتلتها في نيسان أبريل 1948. وكان عدد من السكان الأثرياء والقاطنين في الأحياء الفخمة قد غادر المدينة قبل عدة أسابيع،. والباقون طردوا من منازلهم التي لا تزال شاهدة على الجمال المعماري لأحياء النخبة الفلسطينية التي بدأت تبني بيوتها خارج أسوار البلدة القديمة منذ نهاية القرن التاسع عشر. وقد بدأ بعض هذه التحف الفنية بالاختفاء في الأعوام الأخيرة، إذ تضافرت حمّى العقارات، وجشع المقاولين لتحول هذه المناطق السكنية الجميلة إلى شوارع تملأها فيلات قبيحة وقصور باذخة لليهود الأميركيين الأثرياء الذين يميلون إلى التقاطر إلى المدينة في شيخوختهم. عندما جرى"تطهير"هذه المناطق واحتلالها كانت القوات البريطانية لا تزال موجودة في فلسطين، لكنها ظلت بعيدة ولم تتدخل. إنما في منطقة واحدة فقط، قرر قائد بريطاني التدخل، وكان ذلك في الشيخ جرّاح، وهو أول حي فلسطيني بني خارج أسوار البلدة القديمة، وكانت تقيم فيه العائلات العريقة الرئيسة، مثل آل الحسيني والنشاشيبي والخالدي. كانت التعليمات الصادرة إلى القوات اليهودية في نيسان 1948 واضحة جداً:"عليكم القيام باحتلال الحي وتدمير جميع منازله."وبدأ الهجوم في 24 نيسان 1948، لكن البريطانيين أوقفوه قبل إنجاز المهمة. ولدينا شهادة بالغة الأهمية على ما حدث في الشيخ جرّاح من أمين سر الهيئة العربية العليا، د. حسين الخالدي، الذي كان يقيم هناك، إذ كانت برقياته اليائسة غالباً ما يتم اعتراضها من الاستخبارات الإسرائيلية، وهي محفوظة في الأرشيفات الإسرائيلية. ويذكر الخالدي أن قوات القائد البريطاني أنقذت الحي، عدا 20 منزلاً نجحت الهاغاناه في نسفها. ويبين هذا الموقف البريطاني المتصدي كم كان مصير كثير من الفلسطينيين اختلف لو أن القوات البريطانية تدخلت في أمكنة أُخرى، كما كانت تلزمها بذلك بنود صك الانتداب وشروط قرار التقسيم الصادر عن الأممالمتحدة. امتناع البريطانيين من التدخل كان القاعدة، كما تبين ذلك مناشدات الخالدي الشديدة القلق والتوتر في ما يتعلق بأحياء القدس الأُخرى، خصوصاً تلك الموجودة في الجزء الغربي من المدينة. وكانت هذه المناطق تتعرض لقصف متكرر منذ اليوم الأول من كانون الثاني يناير. وهنا، خلافاً للشيخ جرّاح، قام البريطانيون بدور شيطاني حقاً، إذ جردوا القلة من السكان الفلسطينيين التي كانت تمتلك أسلحة من أسلحتها، ووعدوا أن يحموا الناس من الهجمات اليهودية، ولكن، فوراً، نكثوا الوعد. يخبر الدكتور الخالدي، في إحدى برقياته في أوائل كانون الثاني، الحاج أمين، الموجود في القاهرة، كيف أنه في كل يوم تقريباً يتظاهر حشد غاضب من المواطنين أمام منزله باحثاً عن قيادة، ومطالباً بالمساعدة. ويضيف أن الأطباء أخبروه أن المستشفيات تغص بالمصابين، وأن الأكفان التي لديهم لا تكاد تكفي الموتى، وأن فوضى عارمة تعم المدينة، والناس مصابون بذعر شديد. لكن الأسوأ كان في طريقه إليهم. فبعد أيام قليلة من الهجوم المجهَض على الشيخ جرّاح، تعرضت أحياء القدس الشمالية والغربية لقصف متواصل بمدافع الهاون من عيار 3 إنشات، التي استخدمت في قصف حيفا. وحده حي شعفاط صمد، ورفض الاستسلام، وسقط حي القطمون في الأيام الأخيرة من نيسان. ويتذكر يتسحاق ليفي، رئيس استخبارات الهاغاناه في القدس:"في أثناء"تطهير"القطمون، بدأ النهب والسرقة. وشارك فيهما الجنود والمواطنون سواء بسواء. اقتحموا البيوت وأخذوا الأثاث، والملابس، والأدوات الكهربائية، والأطعمة." وكانت المحصلة الإجمالية للتطهير العرقي في منطقة القدس الكبرى"تطهير"ثمانية أحياء وتسع وثلاثين قرية فلسطينية، وطرد سكانها إلى الجزء الشرقي من المدينة. القرى أزيلت من الوجود، لكن بعض أجمل بيوت القدس لا يزال قائماً- تقطن فيه عائلات يهودية استولت عليه فور إخلائه من سكانه- شواهد باقية على المصير المأسوي لمُلاّك هذه البيوت. عكا وبيسان واصلت حملة تدمير المدن الفلسطينية اندفاعها، فاحتُلت عكا على الساحل، وبيسان في الشرق في 6 أيار مايو 1948. في بداية أيار برهنت عكا مرة أُخرى أن نابليون لم يكن وحده من اكتشف أن من الصعب إخضاعها"وعلى رغم الازدحام الشديد الناجم عن تدفق اللاجئين الهائل من مدينة حيفا المجاورة إليها، والقصف اليومي العنيف، فشلت القوات اليهودية في قهر المدينة الصليبية. غير أن مصدر مياهها المكشوف، الواقع على بعد عشرة كيلومترات إلى الشمال منها، من ينابيع الكابري، المسحوبة عبر قناة عمرها 200 عام، كان بمثابة عقب أخيل بالنسبة إليها. ويبدو أنه جرى خلال الحصار تلويث المياه بجراثيم التيفوئيد. وقد رفع مبعوثو الصليب الأحمر الدولي المحليون إلى مركزهم الرئيس تقارير بذلك، ولم يتركوا أدنى شك بمن يشتبهون: الهاغاناه. وتصف تقارير الصليب الأحمر تفشياً مفاجئاً لمرض التيفوئيد، بل حتى تشير، على الرغم من لهجتها الحذرة، إلى تسمّم خارجي كتفسير وحيد له. في 6 أيار 1948، عقد اجتماع طارئ في مستشفى عكا اللبناني، الذي كان تابعاً للصليب الأحمر. وحضر الاجتماع البريغادير بيفريدج رئيس الخدمات الطبية البريطانية، والكولونيل بونيت من الجيش البريطاني، والدكتور ماكلين من الخدمات الطبية، والسيد دو مورون مندوب الصليب الأحمر في فلسطين، وموظفون حكوميون يمثلون المدينة، وذلك لمناقشة أمر المرضى السبعين الذين قضى عليهم الوباء. وتوصلوا إلى نتيجة فحواها أن الإصابة بالمرض مصدرها من دون شك مياه ملوثة، وليس الازدحام الشديد أو الأوضاع غير الصحية كما ادعت الهاغاناه. وأكد ذلك أن المرض أصاب أيضاً خمسة وخمسين جندياً بريطانياً نقلوا إلى مستشفى بور سعيد في مصر. "لم يحدث قط شيء كهذا في فلسطين"، أخبر البريغادير بيفريدج دو مورون. وما إن تم تحديد القناة مصدراً للوباء حتى تحول الناس إلى الآبار الأرتوازية والمياه المستمدة من المحطة الزراعية الموجودة شمالي عكا. كما أُخضع اللاجئون من عكا، الموجودون في مخيمات شمالي المدينة، لفحوص طبية منعاً لانتشار الوباء. مع تدهور المعنويات جرّاء وباء التيفوئيد والقصف العنيف، استجاب الناس للدعوة المنطلقة من مكبرات الصوت التي كانت تصرخ بهم:"استسلموا أو انتحروا. سنبيدكم حتى آخر رجل فيكم". وروى الملازم بوتيت، وهو مراقب فرنسي تابع للأمم المتحدة، أنه بعد سقوط المدينة بيد القوات اليهودية، تعرضت لحملة نهب منظمة واسعة النطاق قام بها الجيش، وشملت الأثاث، والملابس، وأي شيء قد يكون مفيداً للمهاجرين اليهود الجدد، أو من شأن أخذه أن يثني اللاجئين عن العودة. جرت محاولة مشابهة لتسميم مصادر مياه غزة في 27 أيار ، لكنها أُحبطت. وقبض المصريون على يهوديين، دافيد حورِن وديفيد مِزْراحي، بينما كانا يحاولان تلويث آبار المياه في غزة بجراثيم التيفوئيد والديزنطاريا. وأخطر الجنرال يادين بن- غوريون، رئيس حكومة إسرائيل وقتئذ، بالحادثة، وسجّلها هذا في يومياته من دون تعليق. وأعدم المصريون اليهوديين لاحقاً، ولم تصدر عن الإسرائيليين احتجاجات رسمية. كان إرنست دافيد بيرغمان مع الأخوين كاتسير، جزءاً من فريق عمل على تطوير قدرة إسرائيل البيولوجية الحربية، شكّله بن- غوريون في الأربعينات، ودُعي بالاسم الملطَّف"سِلْك الهاغاناه العلمي". وقد عُيّن إفرايم كاتسير مديراً له في أيار 1948، وأعيدت تسميته فأصبح يُدعى"حِيمدْ"الأحرف الأولى في كلمتي"حِيلْ مادَعْ"، أي"سلاح العِلْم". ولم يساهم هذا السلاح بصورة رئيسة في حملات سنة 1948، لكن إنتاجه المبكر دل على الطموحات التي ستسعى إسرائيل لتحقيقها في المستقبل في مجال الأسلحة غير التقليدية. في الوقت الذي احتُلت عكا تقريباً، احتل لواء غولاني مدينة بيسان. وعلى غرار صفد، هوجمت المدينة بعد احتلال قرى كانت تقع في جوارها. وكانت القوات اليهودية، بعد نجاحها في احتلال حيفا وطبرية وصفد، واثقة بنفسها وفعالة جداً. وقد حاولت، مُسلّحة بالخبرة التي اكتسبتها بالطرد الجماعي، أن ترغم السكان على الرحيل بسرعة بإنذارهم بمغادرة بيوتهم خلال عشر ساعات. وسُلّم الإنذار إلى"أعيان المدينة"، أي إلى قلة من اللجنة القومية المحلية. ورفض هؤلاء الأعيان ذلك، وحاولوا على عجل تخزين مواد غذائية استعداداً لحصار طويل"وجهّزوا بعض الأسلحة، وفي الأساس مدفعان جلبهما إلى المدينة متطوعون، من أجل صد الهجوم الوشيك. بعد قصف يومي عنيف، بما في ذلك قصف جوي، قررت لجنة بيسان المحلية الاستسلام. وكانت الهيئة التي اتخذت القرار مؤلفة من القاضي المحلي، وأمين سر البلدية، وأغنى تاجر في المدينة. واجتمعوا ببالتي سيلا وزملائه لمناقشة شروط الاستسلام قبل الاجتماع، طالب الأعضاء بالسماح لهم بالسفر إلى نابلس لمناقشة الاستسلام، لكن طلبهم رُفض. وفي 11 أيار ، أصبحت المدينة تحت السيطرة اليهودية. وتذكّر بالتي سيلا بصورة خاصة المدفعين القديمين البائسين اللذين كان مأمولاً منهما حماية بيسان: مدفعان فرنسيان مضادان للطائرات من مخلّفات الحرب العالمية الأولى، يمثلان المستوى العام للأسلحة التي كانت في حيازة الفلسطينيين والمتطوعين العرب عشية دخول الجيوش العربية النظامية فلسطين. بعد الاجتماع مباشرة، كان في استطاعة بالتي سيلا وزملائه الإشراف على"الطرد المنظَّم"لسكان المدينة. بعضهم تم ترحيله إلى الناصرة - وقتها كانت لا تزال مدينة فلسطينية حرة، لكن وضعها هذا تغير بعد فترة وجيزة - والبعض الآخر إلى جنين، لكن الغالبية طُردت إلى ما وراء الضفة الأُخرى لنهر الأردن القريب. ويتذكر شهود عيان حشوداً من بيسان، مذعورة ومهيضة الجناح، تتجه مسرعة نحو نهر الأردن، ومن هناك إلى مخيمات أقيمت على عجل في الأراضي الأردنية. لكن، بينما كانت القوات اليهودية مشغولة بعمليات أُخرى في الجوار، نجح عدد قليل جداً منهم في العودة"إذ كانت بيسان قريبة جداً من الضفة الغربية ونهر الأردن، وبالتالي كانت عودتهم متسللين من دون أن ينكشف أمرهم سهلة نسبياً. وقد نجحوا في البقاء حتى منتصف حزيران ، وعندئذ حمّلهم الجيش الإسرائيلي تحت تهديد السلاح في شاحنات وطردهم إلى ما وراء نهر الأردن مرة أُخرى. خراب يافا كانت يافا آخر مدينة يجري احتلالها، وحدث ذلك في 13 أيار، قبل يومين من انتهاء الانتداب. وعلى غرار كثير من المدن الفلسطينية، كان ليافا تاريخ طويل يرجع إلى العصر البرونزي، وتراث روماني وبيزنطي مثيران للإعجاب. وكان القائد المسلم، عمروبن العاص، هو من احتل المدينة سنة 632، وأكسبها صفتها العربية. وكانت يافا الكبرى تشتمل على أربع وعشرين قرية عربية وسبعة عشر مسجداً"لم يبق منها سوى مسجد واحد، بينما اختفت القرى جميعها من الوجود. في 13 أيار هاجم 5000 جندي تابعين للهاغاناه والإرغون المدينة، بينما حاول متطوعون عرب بقيادة ميشال العيسى، وهو مسيحي محلي، الدفاع عنها. وكان بين المتطوعين وحدة استثنائية مكوّنة من 50 مسلماً من البوسنة، وعدد من أفراد الجيل الثاني من فرسان الهيكل Templars، وهؤلاء مستعمرون ألمان جاؤوا البلد في منتصف القرن التاسع عشر كمبشرين دينيين وقرروا الآن أن يدافعوا عن مستعمراتهم استسلم فرسان آخرون في الجليل من دون قتال، وطردوا بسرعة من مستعمرتين جميلتين، فالدهايم وبيت لحم، غربي الناصرة. إجمالاً، كان ثمة في يافا قوة دفاعية أكبر مما كان لدى الفلسطينيين في أي موقع آخر: 1500 متطوع في مقابل 5000 جندي يهودي. وصمدت المدينة ثلاثة أسابيع في وجه الحصار والهجوم الذي بدأ في أواسط نيسان وانتهى في أواسط أيار. وعندما سقطت طُرد جميع سكانها البالغ عددهم 50.000 نسمة"بمساعدة"وساطة بريطانية، الأمر الذي يعني أن هروبهم كان أقل فوضوية مما كان عليه الهروب في حالة حيفا. ومع ذلك، لم يخل الأمر من مشاهد مروعة تذكّر المرء بما حدث في ميناء حيفا في الشمال: حرفياً، أناس يُدفعون إلى البحر في أثناء محاولة الحشود الصعود إلى قوارب الصيد الصغيرة التي كانت ستنقلهم إلى غزة، بينما كانت القوات اليهودية تطلق النار فوق رؤوسهم لتسريع طردهم. وبسقوط يافا، تم للقوات اليهودية إخلاء جميع مدن وبلدات فلسطين الرئيسة وطرد سكانها. ولم تقع عيون الغالبية الساحقة من سكانها - من جميع الطبقات والمذاهب الدينية والمهن- على مدنها مرة أُخرى. غير أن الأكثر تسيّساً بينهم سيقومون بدور تكويني في عودة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى الظهور في صيغة منظمة التحرير الفلسطينية، وبالمطالبة أولاً وقبل كل شيء بحق العودة. التطهير يستمر بحلول نهاية آذار كانت العمليات العسكرية اليهودية دمرت الكثير من أرياف يافا وتل أبيب. وكان هناك تقسيم واضح للعمل بين الهاغاناه والإرغون. وبينما كانت الهاغاناه تتحرك بطريقة منظمة من مكان إلى آخر وفقاً لخطة موضوعة، تُركت للإرغون حرية القيام بعمليات متفرقة في القرى الواقعة خارج نطاق الخطة الأصلية. وهذا يفسر كيف وصلت الإرغون إلى قرية الشيخ مونِّس أو مونيس، كما تسمى اليوم في 30 آذار وطردت سكانها بالقوة. واليوم سيجد المرء حرم جامعة تل أبيب الأنيق ممتداً فوق بقايا القرية، بينما تحوّل أحد المباني القليلة الباقية إلى ناد لأساتذة الجامعة. ولو لم يكن هناك تفاهم ضمني بين الهاغاناه والإرغون، لربما كان في الإمكان إنقاذ الشيخ مونس. فقد كان رؤساء القرية بذلوا جهداً كبيراً لإقامة علاقات ودية مع الهاغاناه لتفادي طرد سكانها، لكن"المستعربين"الذين أبرموا المعاهدة اختفوا كلياً عندما حضرت الإرغون وطردت سكان القرية برمتهم. وكانت العمليات التي نفذت في الريف في نيسان متصلة في شكل أوثق بتدمير المدن الفلسطينية. فالقرى الواقعة بالقرب من المراكز الحضرية كانت تُحتل ويُطرد سكانها، وأحياناً تتعرض لمجازر، في حملة إرهابية مصمَّمة لتمهيد الأرض لاحتلال ناجح للمدن. اجتمعت الهيئة الاستشارية مرة أُخرى يوم الأربعاء في 7 نيسان 1948، وقررت طرد سكان القرى الواقعة على طريق تل أبيب - حيفا، وطريق جنين - حيفا، وطريق القدس - يافا، وتدميرها كلها. وفي نهاية الأمر، لم ينج من التدمير والطرد سوى حفنة ضئيلة من هذه القرى. وهكذا، في الوقت الذي محت الإرغون الشيخ مونس، احتلت الهاغاناه ست قرى في هذه المنطقة خلال أسبوع. وكانت أولاها خربة عزّون التي احتُلت في 2 نيسان ، وتبعتها خربة لِدْ، وعرب الفقراء، وعرب النفيعات، وعرب ظهرة الضميري، وجميعها طُهّرت في 10 نيسان ، وشركِس في 15 منه. وبحلول نهاية الشهر كان تم احتلال وتدمير ثلاث قرى أُخرى في جوار يافا وتل أبيب: خربة منشية، وبيار عدس، ومِسْكة الكبيرة. وهذا كله جرى قبل أن يدخل أي جندي عربي نظامي فلسطين. وبعد القرى الأخيرة المذكورة يصبح من الصعب تتبع الخطى التالية، سواء على معاصري الأحداث أو على المؤرخين اللاحقين. إنما بين 30 آذار و15 أيار احتُلت 200 قرية وطرد سكانها. وهذه حقيقة يجب تكرارها لأنها تقوّض الخرافة الإسرائيلية بأن العرب هربوا عندما بدأ"الغزو العربي". إن نصف القرى العربية تقريباً كان هوجم قبل أن تقرر الحكومات العربية أخيراً، وعلى مضض كما نعرف، إرسال قواتها. وسيتم محو تسعين قرية أُخرى بين 15 أيار و11 حزيران يونيو 1948، عندما وُضعت الهدنة الأولى أخيراً موضع التنفيذ. يتذكر شهود عيان في الجانب اليهودي أنهم كانوا يعتقدون بوضوح خلال نيسان أن الجيش الإسرائيلي كان في استطاعته أن يفعل أكثر. وفي مقابلة حديثة [نسبياً- المترجم] أجراها مؤرخون رسميون مع بالتي سيلا، ويمكن العثور عليها في أرشيفات الهاغاناه في تل أبيب، استخدم لغة عاطفية لاستحضار جو الحماسة المفرطة. وكان بالتي سيلا أحد أفراد القوات اليهودية التي احتلت مدينة بيسان"طهرتها"، والتي أُمرت بطرد العشائر البدوية الكبيرة التي كانت تقطن في تلك المنطقة منذ قرون. يقول سيلا في المقابلة: بعد أن"طهرنا"المنطقة من العشائر البدوية بقي جرح بيسان المتقيح استخدم المفردة في لغة الييديش التي تعني ذلك fanunkel: ملوَّثاً بقريتين، فرونة والسامرية. لم يبد عليهما أنهما كانتا خائفتين، واستمرتا في زراعة حقولهما واستخدام الطرقات. سيرين كانت واحدة من القرى التي احتُلت خلال هذه الهجمات في الشرق. وتلخص قصتها المصير الذي لاقته عشرات من القرى التي طردت القوات اليهودية سكانها في مرج ابن عامر وسهل بيسان، حيث يبحث المرء اليوم عبثاً عن أي أثر للحياة الفلسطينية التي كانت مزدهرة هناك. قرية سيرين احتُلت سيرين في 12 أيار 1948. كانت تقع بالقرب من بيسان في واحدة من أراضي الجِفتلك. وكانت هذه الأراضي، التي يشار إليها أحياناً باسم أراضي"المدَوَّر"، تخص اسمياً السلطان العثماني، بيد أن الفلاحين الفلسطينيين كانوا هم الذين يزرعونها. اشتهرت سيرين بكونها نموذجاً رائعاً للنظام التعاوني القائم على التشارك في الأرض، والذي تمسّك به القرويون، وهو يرجع إلى العهد العثماني. ولم ينجح في القضاء عليه تحول الزراعة المحلية إلى الطرائق الرأسمالية، ولا الاندفاع الصهيوني للحصول على الأراضي. وكان في القرية ثلاثة بساتين غنية بأشجار الفواكه وكروم الزيتون، تمتد على أكثر من 9000 دونم من الأرض المزروعة من مجموع 17.000 دونم. وكانت الأراضي ملكاً للقرية كمجموع، وحصة العائلة من المحاصيل ومساحة الأرض تتقرر بناء على حجم العائلة. وكان لسيرين علاقات جيدة بالجميع. وقد كانت العائلة الرئيسة، عائلة الزعبي، موعودة بحصانة للقرية من جانب الوكالة اليهودية، لأنها كانت تنتمي إلى عشيرة متعاونة. فالمختار مبارك الحاج الزعبي، الذي كان شاباً متعلماً، وعلى علاقة وثيقة بأحزاب المعارضة، كان صديقاً لرئيس بلدية حيفا، شبتاي ليفي، منذ يوم كانا يعملان في شركة البارون روتشيلد. وكان متأكداً من أن سكان القرية، البالغ عددهم 700 نسمة، سيُجنَّبون المصير الذي لاقته القرى المجاورة. لكن كان هناك في القرية عشيرة أُخرى، حمولة أبو الهيجاء، التي كانت أكثر ولاء للمفتي السابق، الحاج أمين الحسيني، وللحزب العربي الفلسطيني. وبحسب ملف الهاغاناه لسنة 1943 الخاص بقرية سيرين، فإن وجود هذه العشيرة هو الذي حكم عليها بالهلاك. ولحظ الملف أن في سيرين عشرة أشخاص من حمولة أبو الهيجاء شاركوا في ثورة 1936، وأن"أياً منهم لم يُعتقل أو يُقتل، وأنهم يحتفظون ببنادقهم." كانت القرية تعاني بين حين وآخر جرّاء الخصومات بين الحمولتين الرئيستين. لكن، كما حدث في أنحاء فلسطين كافة، فإن الأمور تحسنت بعد الثورة العربية الكبرى. ومع حلول نهاية الانتداب كانت القرية تجاوزت الانقسامات التي مزقتها خلال فترة الثلاثينات العاصفة. وأمل مختار سيرين بأن تتعزز حصانة القرية أيضاً جرّاء وجود عشيرة مسيحية صغيرة فيها كانت على علاقة ممتازة ببقية السكان. وكان أحد أفرادها معلم القرية، وكان يربي تلاميذ الصف البالغ عددهم 40 تلميذاً، من دون أي أثر لتحامل سياسي أو ارتباط عشائري. وكان صديقه المفضل الشيخ محمد المصطفى، إمام الجامع المحلي وحارس الكنيسة المحلية والدير اللذين كانا موجودين أيضاً داخل القرية. هذا العالم الصغير من التعايش الديني والانسجام تم تدميره تماماً خلال ساعات قليلة معدودة. لم يقاتل القرويون. جمعت القوات اليهودية المسلمين- من الحمولتين- والمسيحيين معاً وأمرتهم بالتوجه إلى نهر الأردن وعبوره إلى الجانب الآخر. ومن ثم نسفت المسجد والكنيسة والدير والبيوت كافة. ولم تلبث الأشجار في البساتين أن جفت وماتت. اليوم، يحيط سياج من الصبار بالأنقاض التي كانت ذات يوم قرية سيرين. ولم ينجح اليهود قط في تكرار نجاح الفلسطينيين في التشبث بالتربة الوعرة في الوادي، لكن الينابيع القائمة في الجوار لا تزال هناك - منظر موحش يبعث خلوه من البشر الرهبة في النفس. إلى الغرب من سيرين، في مرج ابن عامر عيمك يزراعيل، فعل فوزي القاوقجي كل ما في وسعه للحد من الاحتلالات اليهودية، وشن عدة هجمات فاشلة على الكيبوتس اليهودي الوحيد الموجود في المنطقة، مِشْمار هَعيمِكْ. وفي واحدة من المرات التي تعرض فيها الكيبوتس للقصف بواسطة المدفع الوحيد الذي كان في حيازة القاوقجي، قتلت قذيفة مباشرة ثلاثة أطفال. وهذه المأساة المروعة سيجدها المرء مذكورة في كتب التاريخ الرسمية باعتبارها الحادثة الوحيدة العدائية التي وقعت في هذه المنطقة. لم تساهم القرى المجاورة كثيراً في الجهود التي بذلها جيش الإنقاذ لينقل أخباراً طيبة من جبهة القتال إلى جامعة الدول العربية التي أرسلته. وفي الواقع، كثير منها وقّع معاهدات عدم اعتداء مع الكيبوتسات المجاورة له. لكن هجوم جيش الإنقاذ على مِشْمار هَعيمك أشعل الغضب والرغبة في الانتقام في نفوس أعضاء الكيبوتسات، وبالتالي لم تعد تلك القرى آمنة من العدوان المتمادي في السهل. وحث أعضاء الكيبوتسات القوات اليهودية على مواصلة التطهير العرقي الذي بدأته في شرق المنطقة. وكان كثير من الكيبوتسات في هذا الجزء من الجليل تابعاً للحزب الصهيوني الاشتراكي"هَشومير هَتْسَعير"، الذي حاول بعض أعضائه اتخاذ موقف أكثر إنسانية. وفي تموز يوليو، اشتكى عدد من أعضاء مبام البارزين إلى بن - غوريون ما اعتقدوا أنه توسيع"لا لزوم له"لعملية التطهير. وسارع بن - غوريون إلى تذكير هؤلاء الكيبوتسيين من أصحاب الضمير أنهم هم أنفسهم كانوا مسرورين من انطلاق المرحلة الأولى في المنطقة في نيسان السابق. وفي الحقيقة، لو كنتَ يهودياً صهيونياً في سنة 1948، لكان معنى ذلك شيئاً واحداً، وشيئاً واحداً فقط: الالتزام الكامل بتطهير فلسطين من العرب. في حيفا وحواليها اكتسبت عملية التطهير العرقي زخماً شديداً، وشكلت سرعتها القاتلة نذيراً بالدمار الآتي. خمس عشرة قرية- بعضها صغير لا يتعدى عدد سكان القرية فيه 300 نسمة، وبعضها كبير جداً، يتجاوز عدد سكان القرية فيه ال5000 نسمة - طُرد سكانها بسرعة الواحدة تلو الأُخرى. أبو شوشة"أبو زريق"عرب الفقراء"عرب النفيعات"عرب ظهرة الضميري، بلد الشيخ"الدامون"خربة الكساير"خربة منشيّة"الريحانية"خربة الشركس"خربة سعسع"وعرة السريس"ياجور"هذه القرى كلها مسحت من خريطة فلسطين داخل قضاء ملآن بالجنود البريطانيين، ومبعوثي الأممالمتحدة، والمراسلين الأجانب. ولدينا سجلات تشتمل على إدانات لفظية من ساسة صهيونيين من تلك الفترة أقلقهم الأمر، وزودت"المؤرخين الجدد"بمادة عن الأعمال الوحشية لم يجدوها في أية مصادر أرشيفية أُخرى. وتبدو اليوم وثائق الشكوى هذه أقرب إلى محاولة من جانب ساسة وجنود"حسّاسين"لإراحة ضمائرهم. وهي تشكل جزءاً من عاطفة إسرائيلية يمكن وصفها بعبارة"يطلقون النار ويبكون"، التي نستعيرها من عنوان مجموعة أقوال يُفترض أنها تعبر عن ندم أخلاقي لجنود إسرائيليين شاركوا في عمليات تطهير عرقي ضيقة النطاق في حرب حزيران 1967. وقد دُعي الضباط والجنود المعنيون وقتئذ من جانب الكاتب الإسرائيلي الشهير عاموس عوز وأصدقائه إلى ممارسة"طقس تبرئة"Exoneration في"البيت الأحمر"قبل أن يُهدم.