كتاب ايلان بابه "التطهير العرقي في فلسطين" الذي تنشر "الحياة" فصولاً منه، يكشف المسكوت عنه حول دور التطهير العرقي في إنشاء إسرائيل. ويدحض المؤلف الأفكار الرائجة عن ان نزوح الفلسطينيين من أرضهم يعود الى اختيار طوعي أو الى وعود الجيوش العربية بأن النازحين سيعودون ما ان تكمل عملياتها ضد ما سمي آنذاك "العصابات الصهيونية". تصدر الطبعة العربية من الكتاب في أواسط الشهر المقبل عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأنجز الترجمة أحمد خليفة. والمؤلف ايلان بابه من المؤرخين الإسرائيليين الجدد وأستاذ في جامعة حيفا وناشط في مؤسسات أبحاث من اجل السلام. "الحياة" نشرت حلقتين، وهنا الثالثة : في 10 كانون الأول ديسمبر 1947، كان عزرا دانين ونائبه يهوشواع جوش بالمون مختفيين عن الأنظار، وقد افتتحا اجتماع"الهيئة الاستشارية"بإخبار الحاضرين أن النخبة الحضرية الفلسطينية أخذت تترك بيوتها وتنتقل إلى مساكنها الشتوية في سورية ولبنان ومصر. وكان ذلك ردة فعل نموذجية من جانب النخب الحضرية في أوقات الأزمات - الذهاب إلى مكان آمن ريثما يهدأ الوضع. مع ذلك، فإن المؤرخين الإسرائيليين، بمن فيهم المؤرخون التصحيحيون الجدد مثل بِني موريس، فسروا هذا الخروج التقليدي الموقت بأنه"هروب طوعي"كي يقولوا لنا إن إسرائيل ليست مسؤولة عما آل إليه أمرهم. لكنهم عندما تركوا، كان في نيتهم العودة إلى بيوتهم لاحقاً، وما منعهم من العودة هم الإسرائيليون: إن منع الناس من العودة إلى بيوتهم بعد إقامة قصيرة في الخارج هو عملية طرد مثل أي عمل آخر موجه ضد سكان محليين بهدف طردهم. وأخبر دانين الحاضرين أن هذا هو المثل الوحيد الذي استطاعا اكتشافه في ما يتعلق بمغادرة فلسطينيين إلى ما وراء الحدود المعيَّنة للدولة اليهودية في قرار الأممالمتحدة، باستثناء عشائر بدوية عدة انتقلت إلى أمكنة قريبة من قرى عربية خوفاً من تعرضها لهجمات يهودية. ويبدو أن دانين كان مصاباً بخيبة أمل من جراء ذلك، لأنه طالب في الوقت نفسه باتباع سياسة أشد عنفاً بكثير، على رغم حقيقة أنه لم يكن هناك مبادرات أو نيات هجومية من ناحية الفلسطينيين. وتابع شارحاً للهيئة الاستشارية الفوائد التي ستنجم عن مثل هذه السياسة: قال له مخبروه إن أعمال عنف ضد الفلسطينيين سترعبهم،"الأمر الذي سيجعل أي مساعدة من العالم العربي غير مجدية"، وهذا ما يعني ضمناً أن القوات اليهودية سيكون في وسعها أن تفعل بهم ما تشاء. "ماذا تعني بأعمال عنف؟"استفسر بن - غوريون. "تدمير وسائط النقل حافلات الركاب، والشاحنات التي تنقل المحاصيل الزراعية، والسيارات الخاصة... وإغراق القوارب التي يستعملونها للصيد في يافا، وإغلاق دكاكينهم، ومنع المواد الخام من الوصول إلى مصانعهم". "كيف ستكون ردة فعلهم؟"سأل بن - غوريون. "ردة الفعل الأولية قد تكون أعمال شغب، لكنهم في نهاية المطاف سيفهمون الرسالة". وهكذا فإن الهدف الرئيسي كان ضمان أن يصبح السكان تحت رحمة الصهيونيين، كي يمكن حسم مصيرهم. ويبدو أن بن- غوريون أعجبه الاقتراح، وكتب إلى شاريت بعد ثلاثة أيام شارحاً له الفكرة العامة: إن المجتمع الفلسطيني في المنطقة اليهودية سيكون"تحت رحمتنا"، وسيكون في استطاعة اليهود أن يفعلوا بهم ما يشاؤون، بما في ذلك"تجويعهم حتى الموت". وكان يهودي سوري آخر، إلياهو ساسون، هو من حاول، إلى حد ما، أن يقوم بدور محامي الشيطان في الهيئة الاستشارية، وبدا أن لديه شكوكاً تجاه المقاربة الشديدة العداء التي كان دانين وبالمون يشرحانها. كان هاجر إلى فلسطين سنة 1927، وربما كان الشخص الأكثر إثارة للفضول، وأيضاً الأكثر تناقضاً، في الهيئة الاستشارية، ففي سنة 1919، قبل أن يصبح صهيونياً، انضم إلى الحركة القومية العربية في سورية. وكان دوره الرئيسي في الأربعينات من القرن الماضي هو التحريض على اتباع سياسة"فرِّقْ تَسُدْ"داخل المجتمع الفلسطيني، وأيضاً في الدول العربية المجاورة. لكن محاولاته زرع الشقاق بين المجموعات الفلسطينية لم تبق لها أهمية بعد أن اتجهت القيادة الصهيونية نحو تطهير عرقي شامل لفلسطين بأسرها. وكان اجتماع 10 كانون الأول آخر اجتماع يقوم فيه ساسون بمحاولة لإقناع زملائه بأنه على رغم الحاجة إلى"خطة شاملة"كما سمّاها - أي اقتلاع السكان الفلسطينيين - فإن من الفطنة عدم اعتبار جميع السكان العرب أعداء، والاستمرار في استخدام تكتيكات"فرِّق تَسُدْ". وكان فخوراً جداً بدوره، في الثلاثينات، في تسليح المجموعات الفلسطينية المسماة"عصابات السلام"، والتي كانت مكوَّنة من خصوم الزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني. وقد قاتلت هذه الوحدات ضد التشكيلات [المسلحة] الوطنية الفلسطينية خلال الثورة العربية. وأراد ساسون الآن استخدام تكتيكات"فرِّق تَسُدْ"لتجنيد عشائر بدوية موالية. نشاطات مبكرة لم ترفض الهيئة الاستشارية فكرة استيعاب مزيد من المتعاونين"العرب"فحسب، بل ذهبت إلى حد اقتراح التخلي عن فكرة"الرد الانتقامي"بكاملها، وأيد معظم المشاركين في الاجتماع"الانهماك"في حملة تخويف منهجية. ووافق بن - غوريون، وشُرع في تطبيق السياسة الجديدة في اليوم التالي للاجتماع. كانت الخطوة الأولى حملة تهديدات منسقة جيداً. فكانت وحدات خاصة تابعة للهاغاناه تدخل القرى بحثاً عن"المتسللين"إقرأ:"متطوعين عرباً" وتوزع منشورات تحذر السكان المحليين من التعاون مع جيش الإنقاذ. وكانت أي مقاومة لهذه التعديات تنتهي في العادة بإطلاق القوات اليهودية النار عشوائياً وقتل عدد من القرويين. وكانت الهاغاناه تسمي هذه الغارات"الاستطلاع العنيف"هَ - سِيور هَأَليم. والفكرة في الجوهر هي دخول قرية غير محصنة قبيل منتصف الليل، والبقاء فيها بضع ساعات، وإطلاق النار على كل من يجرؤ أو تجرؤ على مغادرة البيت، ومن ثم المغادرة. عمل القصد منه إظهار القوة أكثر مما كان عملاً تأديبياً، أو هجوماً انتقامياً. في كانون الأول 1947، اختيرت قريتان غير محصنتين: دير أيوب وبيت عفّا. وإذا ما سُقْتَ اليوم سيارتك في اتجاه الجنوب الشرقي من مدينة الرملة وقطعت مسافة قدرها نحو 15 كم، خصوصاً في يوم شتائي عندما تخضرّ شجيرات الرَّتَم الشائكة الصفراء عادة، والتي تغطي سهول فلسطين الداخلية، فإنك ستصادف منظراً غريباً، صفوفاً طويلة من الأنقاض والحجارة في حقل مكشوف تحيط بساحة مربعة متخيّلة كبيرة نسبياً"إنها أنقاض السياجات الحجرية لدير أيوب، وبينها أنقاض سور حجري منخفض بُني سنة 1947 لأسباب جمالية أكثر منه لحماية القرية، التي كان يقطن فيها نحو 500 نسمة. وكان سكان هذه القرية في معظمهم من المسلمين، ويعيشون في بيوت حجرية أو طينية على شاكلة البيوت المنتشرة في المنطقة. وكانوا قبل الهجوم اليهودي مباشرة يحتفلون بافتتاح مدرسة جديدة تسجل فيها عدد لا يستهان به من التلاميذ، 51 تلميذاً، وتحقق كل ذلك بفضل الأموال التي جمعوها من بعضهم البعض، والتي كانت كافية أيضاً لدفع راتب المعلم. لكن ابتهاجهم سرعان ما تبدد عندما دخلت سرية مؤلفة من عشرين جندياً يهودياً القرية - التي كانت، مثل كثير من القرى في ذلك الوقت، لا تمتلك أية آلية للدفاع - وشرعوا في إطلاق النار عشوائياً على البيوت. وقد هوجمت القرية لاحقاً ثلاث مرات قبل أن يجرى إخلاؤها بالقوة في نيسان أبريل 1948، ومن ثم تدميرها كلياً. وقامت القوات اليهودية بهجوم مشابه في كانون الأول على بيت عفّا في قطاع غزة، لكن سكانها تمكنوا من صد الهجوم. وتبع ذلك كله عمليات تدمير في مناطق محدودة في أماكن متفرقة من أرياف فلسطين ومدنها. واتسمت النشاطات في الريف في البداية بالتردد. اختيرت ثلاث قرى في الجليل الأعلى الشرقي: الخصاص والناعمة وجاحولا، لكن العملية أُلغيت، ربما لأن القيادة العليا اعتقدت أنها طموحة أكثر من اللازم. غير أن قائد البالماح في الشمال، يغآل ألون، تجاهل الإلغاء جزئياً، وأراد أن يجرب مهاجمة قرية واحدة على الأقل، واختار الخصاص. كانت الخصاص قرية صغيرة يقطن فيها بضع مئات من المسلمين ومئة مسيحي، يعيشون بسلام معاً في موقع طوبوغرافي فريد في القسم الشمالي من سهل الحولة، على مصطبة طبيعية عرضها نحو مئة متر، نجمت قبل آلاف السنين عن التقلص المتدرج لبحيرة الحولة. وكان الرحالة الأجانب يخصّون هذه القرية بالذكر لجمال موقعها الطبيعي على ضفاف البحيرة، ولقربها من نهر الحاصباني. هاجمت القوات اليهودية القرية في 18 كانون الأول 1947، وشرعت في نسف البيوت في سواد الليل، بينما كان سكانها يغطون في النوم. فقُتل جراء ذلك خمسة عشر قروياً، بمن فيهم خمسة أطفال. وأصاب الحدث مراسل"نيويورك تايمز"، الذي كان يتابع الأحداث عن كثب، بالصدمة. وذهب إلى قيادة الهاغاناه مطالباً بتفسير ما جرى. وأنكرت هذه في البداية وقوع العملية، لكن، عندما أصر المراسل على طلبه، اضطرت في النهاية إلى الاعتراف، وأصدر بن - غوريون اعتذاراً علنياً درامياً، مدعياً أن العملية لم يكن مصادقاً عليها. لكن بعد أشهر، في نيسان، أدرجها في قائمة العمليات الناجحة. عندما اجتمعت اللجنة الهيئة الاستشارية يوم الأربعاء 17 كانون الأول ، انضم إليها يوحنان راتنر وفريتس آيزنشتاتر عيشت، وهما ضابطان كان بن - غوريون عيّنهما لوضع"استراتيجيا قومية"قبل أن يبتكر الهيئة الاستشارية. وتوسع المجتمعون في مناقشة ما يمكن استخلاصه من عملية الخصاص الناجحة، وطالب بعضهم بمزيد من العمليات"الانتقامية"يشتمل على تدمير قرى، وطرد سكان، وإحلال مستوطنين يهود محلهم. وفي اليوم التالي لخص بن - غوريون ما جرى في الاجتماع أمام لجنة الدفاع، وهي الهيئة الرسمية الأوسع التابعة للمجتمع اليهودي، والمسؤولة عن شؤون الدفاع. ويبدو أن الجميع اهتزوا طرباً لدى سماعهم ما قيل لهم، بمن في ذلك ممثل حزب اليهود المتدينين المتعصبين، أغودات يسرائيل، الذي قال:"لقد بُلّغنا أن لدى الجيش القدرة على تدمير قرية كاملة وطرد سكانها جميعاً"هيا، لنفعل ذلك!"وأقرت اللجنة تعيين ضباط استخبارات لكل عملية مشابهة. وسيكون لهؤلاء دور حاسم في تنفيذ المراحل التالية للتطهير العرقي. استهدفت السياسة الجديدة أيضاً الأماكن الحضرية في فلسطين، واختيرت حيفا لتكون الهدف الأول. ومن المثير للاهتمام أن هذه المدينة اختيرت من جانب المؤرخين الإسرائيليين المنتمين إلى التيار المركزي ومن جانب المؤرخ التصحيحي بِني موريس كمثال لوجود نية حسنة صهيونية صادقة تجاه السكان المحليين. أمّا الحقيقة فكانت في نهاية سنة 1947 أبعد ما تكون عن ذلك. فمنذ اليوم التالي لتبني الأممالمتحدة قرار التقسيم، تعرض ال75.000 فلسطيني في المدينة لحملة إرهابية اشتركت في شنها الإرغون والهاغاناه. ولمّا كان المستوطنون اليهود جاؤوا المدينة في العقود المتأخرة، فإنهم بنوا مساكنهم في أعالي الجبل، وبالتالي فإنهم كانوا يقطنون، من ناحية طوبوغرافية، فوق الأحياء العربية، وكان في استطاعتهم أن يقصفوها ويقتنصوا سكانها بسهولة. وشرعوا في ذلك مراراً وتكراراً منذ أوائل كانون الأول. كما استخدموا وسائل أُخرى لإرهاب السكان: كانت القوات اليهودية تدحرج براميل مملوءة بالمتفجرات وكريات حديدية ضخمة في اتجاه المناطق السكنية العربية، وتصب نفطاً ممزوجاً بالبنزين على الطرقات وتشعله. وعندما كان السكان الفلسطينيون المذعورون يخرجون من بيوتهم راكضين بغية إطفاء تلك الأنهار المشتعلة، كان اليهود يحصدونهم بالمدافع الرشاشة. وفي المناطق التي كان فيها عرب ويهود ما زالوا يتعاملون مع بعضهم البعض، كانت الهاغاناه تُحضر إلى الكاراجات الفلسطينية سيارات بحجة إصلاحها، مملوءة بالمتفجرات وأدوات التفجير، ومن ثم تفجرها فتنشر الموت والفوضى. وكانت تقوم بهذا النوع من الهجمات وحدة خاصة تابعة للهاغاناه، هَشَاحَر "الفجر"، مكونة من"مستعربين""أي يهود متنكرين كفلسطينيين. وكان العقل المدبر لهذه الهجمات شخص يدعى داني أغمون، كان يرئس وحدات"الفجر". ويلخص المؤرخ الرسمي للبالماخ، في موقعه في شبكة الإنترنت، ما جرى آنذاك على النحو التالي:"كان الفلسطينيون [في حيفا] يعيشون منذ كانون الأول تحت وطأة حصار وتخويف."لكن الأسوأ سيأتي لاحقاً. وقد وضع اندلاع العنف المبكر نهاية حزينة لتاريخ طويل نسبياً من التعاون والتضامن بين العمال في مدينة حيفا المختلطة، وكان الوعي الطبقي جرى كبحه في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي من جانب القيادة القومية لكل من الطرفين، خصوصاً من جانب اتحاد العمال اليهودي، لكنه ظل يحفز العمال على القيام بنشاطات مطلبية مشتركة ضد أرباب العمل ويحملهم على التعاون في أوقات الانكماش الاقتصادي والشدة. أدت الهجمات اليهودية في المدينة إلى تفاقم التوتر في منطقة كان العمال اليهود والعرب يعملون فيها جنباً إلى جنب: في منشآت مصفاة شركة نفط العراق في منطقة خليج حيفا. وبدأ الأمر بإلقاء زمرة تابعة للإرغون قنبلة على مجموعة كبيرة من الفلسطينيين كانت في انتظار الدخول إلى المنشآت. وادعت الإرغون أن ذلك كان رداً انتقامياً على هجوم سابق قام به عمال عرب على زملاء لهم يهود. وكانت تلك ظاهرة جديدة في موقع صناعي كان العمال العرب واليهود معتادين فيه العمل المشترك من أجل الحصول من مستخدميهم البريطانيين على شروط عمل أفضل. لكن قرار التقسيم الصادر عن الأممالمتحدة ألحق ضرراً جدياً بالتضامن الطبقي، وبدأت التوترات تتفاقم. وكان إلقاء القنابل وسط التجمعات العربية من اختصاصات الإرغون، وفعلت ذلك مراراً قبل سنة 1947. إلاّ إن هذا الهجوم بالتحديد جرى بالتنسيق مع قوات الهاغاناه كجزء من مخطط جديد لإلقاء الرعب في قلوب سكان حيفا ودفعهم إلى الهروب من المدينة. وخلال ساعات، رد العمال الفلسطينيون على الهجوم بأعمال شغب، وقتلوا عدداً كبيراً من العمال اليهود - 39 شخصاً - في واحدة من أسوأ الهجمات الفلسطينية المضادة، وكانت آخرها، لأن سلسلة الاشتباكات المعتادة المكوّنة من فعل وردة فعل توقفت بعد ذلك. أمّا اللجنة القومية في حيفا، التابعة للفلسطينيين، فقد ظلت تناشد البريطانيين مرة بعد أُخرى [التدخل لحمايتهم - المترجم]، مفترضة، خطأً، أنه نظراً إلى كون حيفا آخر محطة في عملية الجلاء البريطاني، فإن في استطاعتها الاعتماد على حماية البريطانيين، على الأقل إلى أن يرحلوا. وعندما لم يحدث ذلك، بدأ أعضاء اللجنة القومية يبعثون برسائل يائسة إلى أعضاء الهيئة العربية العليا داخل فلسطين وخارجها، طالبين النصح والمساعدة. ووصلت مجموعة صغيرة من المتطوعين إلى المدينة في كانون الثاني ، لكن بعض الأعيان وقادة المجتمع كان أدرك وقتها أن مصيره حُسم في لحظة تبني الأممالمتحدة قرار التقسيم: الطرد على يد جيرانهم اليهود. هؤلاء الجيران الذين كانوا هم أنفسهم من دعاهم في البداية، في الفترة العثمانية، إلى المجيء والبقاء معهم، فوصلوا بائسين ومفلسين من أوروبا، وشاركوهم العيش في مدينة كوزموبوليتانية مزدهرة - إلى أن صدر قرار التقسيم المشؤوم. على هذه الخلفية يجب أن يتذكر المرء خروج نخبة حيفا البالغ عدد أفرادها نحو 15.000 شخص، وكثيرون منهم تجار ناجحون أدى خروجهم في ذلك الوقت إلى تعطيل التجارة والأعمال، ووضع عبء إضافي على كاهل الشرائح الفقيرة في المدينة. "هذا ليس كافياً"، صرح يوسف فايتس قائلاً عندما اجتمعت الهيئة الاستشارية يوم الأربعاء، في 31 كانون الأول 1947، قبل ساعات قليلة فقط من مذبحة بلد الشيخ. واقترح علانية ما كان سجّله سراً في يومياته أوائل الأربعينات:"أليس الآن هو الوقت الملائم للتخلص منهم؟ لماذا نستمر في ترك هذه الأشواك بيننا وهي خطر علينا؟"وبدت ردات الفعل الانتقامية، في نظره، طريقة قديمة للتعامل مع الوضع لأنها لا تتضمن الهدف الرئيسي المتمثل في مهاجمة القرى واحتلالها. وكان فايتس عُيّن عضواً في الهيئة الاستشارية لأنه كان رئيس دائرة الاستيطان في الصندوق القومي اليهودي، ولأنه كان في الهيئة أدى دوراً حاسماً في توضيح أفكار"الترانسفير"الغامضة لأصدقائه وترجمتها إلى سياسة فعلية. وقد شعر بأن النقاش الجاري فيشأن المستقبل يفتقر إلى غاية، إلى توجه كان رسم معالمه في الثلاثينات والأربعينات. "الترانسفير"، كتب في سنة 1940،"لا يخدم هدفاً واحداً فحسب - تقليل عدد السكان العرب - بل يخدم أيضاً غرضاً ثانياً لا يقل أهمية عن الأول، وهو إخلاء الأرض التي يزرعها العرب حالياً وتحريرها من أجل الاستيطان اليهودي."ومن ثم، خلص إلى القول:"الحل الوحيد هو ترحيل العرب من هنا إلى الدول المجاورة. يجب ألاّ نترك حتى قرية واحدة أو عشيرة واحدة." وكانت تلك الجلسة الوحيدة للهيئة الاستشارية التي يتوافر لدينا محضر لها، موجود في أرشيف الهاغاناه. وأعد فايتس من أجل هذه"الحلقة الدراسية الطويلة"مذكرة موجهة إلى بن - غوريون شخصياً، حضّ فيها الزعيم على المصادقة على خططه لترحيل السكان الفلسطينيين عن المناطق التي أراد اليهود احتلالها، وعلى جعل الأعمال المتصلة بذلك"حجر الأساس للسياسة الصهيونية."ومن الواضح أنه كان يشعر بأن المرحلة"النظرية"في ما يتعلق بخطط"الترانسفير"انتهت، وحان أوان تطبيق الأفكار. وفي الواقع، غادر فايتس الحلقة الدراسية الطويلة وفي حيازته إذن بإنشاء زمرة صغيرة تابعة له تحت اسم"لجنة الترانسفير"، وأتى إلى الاجتماع التالي حاملاً خططاً فعلية. في الحقيقة لم يكن هناك معارضة تستحق الذكر، وهذا ما يجعل الحلقة الدراسية الطويلة جلسة محورية بالغة الأهمية. فنقطة الانطلاق التي تقبلها الجميع، كانت أن التطهير العرقي ضروري. أمّا بقية المسائل، أو بالأحرى المشكلات، فكانت ذات طبيعة سيكولوجية أو لوجستية. فالأيديولوجيون مثل فايتس، والمستشرقون مثل ماخنس، والجنرالات مثل ألون، شكوا من أن جنودهم لم يستوعبوا بعد، كما يجب، الأوامر السابقة التي صدرت إليهم بتوسيع العمليات إلى ما هو أبعد من الأعمال الانتقامية المعتادة. والمشكلة الرئيسة، في نظرهم، كانت أن الجنود بدوا عاجزين عن التخلي عن الأساليب القديمة في الردود الانتقامية."إنهم ما زالوا ينسفون بيتاً هنا وبيتاً هناك"، اشتكى غاد ماخنس، زميل دانين وبالمون، الذي أصبح، ويا للعجب، المدير العام لوزارة الأقليات الإسرائيلية في سنة 1949 إذ بدا، على الأقل، وهذه نقطة في مصلحته، كأنه شعر بشيء من الندم على سلوكه في سنة 1948، واعترف صراحة في سنة 1960 بأنه"لولا الاستعدادات [العسكرية الصهيونية] المكشوفة ذات الطبيعة الاستفزازية، لكان من الممكن تفادي الانزلاق إلى الحرب [في سنة 1948]". لكن وقتئذ، في كانون الثاني 1948، بدا نافد الصبر من كون القوات اليهودية ما زالت منهمكة في البحث عن"أفراد مذنبين"في هذا المكان أو ذاك، بدلاً من إلحاق الضرر في شكل فعال. شرح ألون وبالمون لزملائهما التوجه الجديد: هناك ضرورة لسياسة أكثر شراسة في المناطق التي ظلت"هادئة فترة أطول من اللازم."ولم يكن ثمة حاجة إلى إقناع بن - غوريون، إذ أعطى في نهاية الحلقة الدراسية الطويلة الضوء الأخضر للقيام بسلسلة كاملة من الهجمات الاستفزازية والفتاكة على قرى عربية، بعضها كردود انتقامية، وبعضها الآخر غير ذلك. والقصد هو التسبب بأقصى ما يمكن من الأضرار وقتل أكثر ما يمكن من القرويين. وعندما سمع أن المراحل الأولى المقترحة لتنفيذ السياسة الجديدة كانت جميعها في الشمال، طلب القيام بعمل تجريبي في الجنوب أيضاً، على أن يكون محدداً، لا عاماً. وهنا تكشّف بن - غوريون فجأة عن أنه كاتب حسابات حقود. فقد حضّت على القيام بهجوم على مدينة بئر السبع، والسعي بصورة خاصة الى قتل نائب المحافظ، الحاج سلامة بن سعيد، وشقيقه، اللذين رفضا في الماضي التعاون مع الخطط الصهيونية للاستيطان في المنطقة. وشدد بن - غوريون على أنه لم يعد هناك ضرورة للتمييز بين"البريء"و"المذنب"، إذ حان الوقت لإلحاق أذى مصاحب collateral. وتذكّر دانين بعد أعوام أن بن - غوريون شرح معنى"أذى مصاحب"بقوله:"كل هجوم يجب أن ينتهي باحتلال، ودمار، وطرد". أمّا بالنسبة إلى المزاج"المحافظ"السائد في صفوف جنود الهاغاناه، فقد أوضح يغئيل يادين، رئيس هيئة أركان الهاغاناه - وبعد 15 أيار 1948 رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي - أن الوسيلة للتقدم [في حل هذه المشكلة - المترجم] تكمن في تبني مصطلحات جديدة صريحة، وفي تلقين عقائدي أشد قسوة. وكان نائبه، يغآل ألون، أكثر نزوعاً إلى الانتقاد. فقد انتقد الهيئة الاستشارية بصورة غير مباشرة لأنها لم تصدر أوامر صريحة بالقيام بهجوم شامل في بداية كانون الأول."لقد كان في استطاعتنا وقتها أن نحتل يافا بسهولة، وكان يجب أن نهاجم القرى الموجودة حول تل أبيب. يجب أن نقوم بسلسلة من العقوبات الجماعية حتى لو كان هناك أطفال يعيشون في البيوت [المهاجمة]."وعندما حاول إلياهو ساسون، بمساعدة رؤوفين شيلواح، أحد مساعديه لاحقاً شخصية بارزة في حقل الاستشراق الإسرائيلي، أن يلفت الانتباه إلى أن الاستفزاز من شأنه أن ينفّر الفلسطينيين المسالمين، أو الذين يكنون الود لليهود، أجابه ألون بنفاد صبر قائلاً:"الدعوة إلى السلام ستكون ضَعْفاً!"وأبدى موشيه دايان آراء مشابهة، واستبعد بن - غوريون أي محاولة للتوصل إلى اتفاق في يافا، أو في أي مكان آخر. كان غياب جهة واضحة منسِّقة مصدر قلق للعسكريين في الهيئة الاستشارية. وذُكر أن قوات متحمسة تهاجم أحياناً قرى في مناطق ترغب القيادة العليا موقتاً في تجنب حدوث استفزازات فيها. ونوقشت في الحلقة الدراسية الطويلة حادثة معينة جرت في حي روميما في القدس الغربية. وكانت تلك المنطقة في المدينة هادئة جداً إلى أن قرر قائد محلي في الهاغاناه أن يرعب الفلسطينيين في الحي بحجة أن صاحب محطة وقود هناك كان يشجع قرويين على مهاجمة السيارات اليهودية المارة. وعندما قتل الجنود صاحب المحطة، ردت قريته، لفتا، بهجوم على حافلة ركاب يهودية. وأضاف ساسون أنه اتضح أن التهمة كانت كاذبة. لكن هجوم الهاغاناه هذا كان فاتحة لسلسلة من الهجمات ضد قرى فلسطينية واقعة على المنحدرات الغربية لجبال القدس، وموجهة بصورة خاصة ضد قرية لفتا التي، حتى بشهادة استخبارات الهاغاناه، لم يحدث أن هاجمت أي قافلة على الإطلاق. قرية لفتا، كانت واحدة من أوائل القرى التي تعرضت للتطهير العرقي. وكانت [في زمن بعيد - المترجم] مكان إقامة قاسم أحمد، قائد ثورة 1834 ضد حكم إبراهيم باشا المصري، والتي يعتبرها بعض المؤرخين أول ثورة وطنية فلسطينية. وكانت القرية مثالاً رائعاً للهندسة المعمارية الريفية، بشوارعها الضيقة المتوازية مع منحدرات الجبل. وقد تجلى ازدهارها النسبي، مثل كثير من القرى الأُخرى، خصوصاً في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، في تشييد بيوت جديدة، وتحسين الطرقات والأرصفة، بالإضافة إلى مستوى معيشي أعلى. وكانت لفتا قرية كبيرة، يقطن فيها 2500 نسمة، معظمهم مسلمون، وعدد قليل منهم مسيحيون. وكان من مظاهر رخائها المستجد مدرسة للبنات تعاون عدد من القرى على تمويل بنائها في سنة 1945. كانت الحياة الاجتماعية في لفتا تدور حول مركز تجاري، اشتمل على ناد ومقهيين. وكان يجذب إليه المقدسيين أيضاً. وكان أحد المقهيين هدفاً للهاغاناه عندما شنت هجومها في 28 كانون الأول 1947. وقد أمطر اليهود المسلحون بالرشاشات المقهى بالرصاص، بينما أوقف أفراد من عصابة شتيرن حافلة ركاب بالقرب من المكان وبدأوا إطلاق النار عليها عشوائياً. وكانت تلك أول عملية لعصابة شتيرن في الريف الفلسطيني. كانت هذه هي النتيجة النهائية للحلقة الدراسية الطويلة. فمع أن القيادة الصهيونية اعترفت بضرورة أن تكون الحملة منسقة وخاضعة للإشراف، إلاّ إنها قررت تحويل كل مبادرة غير مصادق عليها إلى جزء عضوي من الخطة، مانحة إياها مباركتها بعد وقوعها.