كتاب ايلان بابه "التطهير العرقي في فلسطين" الذي تنشر "الحياة" فصولاً منه، يكشف المسكوت عنه حول دور التطهير العرقي في إنشاء إسرائيل. ويدحض المؤلف الأفكار الرائجة عن ان نزوح الفلسطينيين من أرضهم يعود الى اختيار طوعي أو الى وعود الجيوش العربية بأن النازحين سيعودون ما ان تكمل عملياتها ضد ما سمي آنذاك"العصابات الصهيونية". تصدر الطبعة العربية من الكتاب في أواسط الشهر المقبل عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأنجز الترجمة أحمد خليفة. والمؤلف ايلان بابه من المؤرخين الإسرائيليين الجدد وأستاذ في جامعة حيفا وناشط في مؤسسات أبحاث من اجل السلام. "الحياة" نشرن امس حلقة أولى، وهنا حلقة ثانية: المؤرخ الشاب، المتخرج في الجامعة العبرية، بن- تسيون لوريا، كان موظفاً في الدائرة التعليمية التابعة للوكالة اليهودية، وقد أشار إلى أنه سيكون من المفيد جداً إعداد سجل مفصل للقرى العربية، واقترح أن يقوم الصندوق القومي اليهودي بإعداد السجل."هذا سيساعد جداً في تحرير البلد"، كتب في رسالة إلى الصندوق. وكان موفقاً في اختياره الصندوق للقيام بالمهمة، إذ إن مبادرته إلى إشراك الصندوق القومي اليهودي في التطهير العرقي المتوخّى أدت إلى ضخ مزيد من الزخم والحماسة في العمل على خطط الطرد التي تم وضعها لاحقاً. كانت المهمة الرئيسية رسم خرائط القرى، لذا تم تجنيد خبير طوبوغرافي من الجامعة العبرية، كان يعمل في دائرة رسم الخرائط الانتدابية، للعمل في المشروع. واقترح هذا الخبير القيام بمسح فوتوغرافي جوي للقرى، وأطلع باعتزاز بن- غوريون على خريطتين جويتين لقريتي السنديانة وصبّارين الخريطتان موجودتان حالياً في أرشيف دولة إسرائيل، وهما كل ما تبقى من هاتين القريتين بعد سنة 1948. ومن ثم دُعي أفضل المصورين المحترفين في البلد للانضمام إلى المبادرة. كما تم تجنيد يتسحاق شيفر من تل أبيب، ومارغو ساديه، زوجة يتسحاق ساديه، قائد البالماح وحدات الكوماندو التابعة للهاغاناه. وأُخفي مختبر تحميض الأفلام في منزل مارغو خلف واجهة شركة لري المزروعات، إذ كان لا بد من إخفائه عن السلطات البريطانية التي كان من الممكن أن تعتبره مجهوداً استخباراتياً غير شرعي موجهاً ضدها. ومع أن البريطانيين كانوا على علم مسبق به، إلاّ إنهم لم ينجحوا قط في اكتشاف المخبأ السري. وفي سنة 1947، نُقلت دائرة رسم الخرائط بكاملها إلى"البيت الأحمر". كانت المحصلة النهائية لجهود الطوبوغرافيين والمستشرقين ملفات لكل قرية من قرى فلسطين، عمل الخبراء الصهيونيون على استكمالها بالتدريج، بحيث أصبح"الأرشيف"مكتملاً تقريباً في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي. وتضمن ملف كل قرية تفصيلات دقيقة عن موقعها الطوبوغرافي، وطرق الوصول إليها، ونوعية أراضيها، وينابيع المياه، ومصادر الدخل الرئيسية، وتركيبتها الاجتماعية - الاقتصادية، والانتماءات الدينية للسكان، وأسماء المخاتير، والعلاقات بالقرى الأُخرى، وأعمار الرجال من سن 16 إلى سن الخمسين، ومعلومات كثيرة أُخرى. ومن فئات المعلومات المهمة كان هناك مؤشر يحدد درجة"العداء"للمشروع الصهيوني، بناء على مدى مشاركة القرية في ثورة 1936. وكانت هناك قائمة بأسماء الذين شاركوا في الثورة، والعائلات التي فقدت أشخاصاً في القتال ضد البريطانيين. وأُعطي الأشخاص الذين زُعم أنهم قتلوا يهوداً اهتماماً خاصاً. هذه الأجزاء الأخيرة من المعلومات نجم عنها في سنة 1948 أشد الأعمال وحشية في القرى، وقادت إلى إعدامات جماعية وتعذيب للضحايا. أدرك الأعضاء النظاميون في الهاغاناه، الذين كُلّفوا جمع المعلومات من خلال رحلات"استطلاعية"إلى القرى، منذ البداية، أن المهمة لم تكن تمريناً أكاديمياً في الجغرافيا. وكان واحداً من هؤلاء موشيه باسترناك، الذي شارك في إحدى رحلات الاستطلاع وجمع المعلومات المبكرة في سنة 1940، وروى بعد أعوام: "كان علينا أن ندرس البنية الأساسية للقرية العربية. ويعني ذلك البنية وما هي أفضل طريقة لمهاجمتها. في الكليات الحربية علمونا كيف نهاجم مدينة أوروبية حديثة، وليس قرية بدائية في الشرق الأدنى. لا نستطيع أن نقارنها القرية العربية بقرية بولندية أو نمسوية. القرية العربية، خلافاً للقرى الأوروبية، كانت مبنية طوبوغرافياً على هضاب. وذلك يعني أنه كان يتعين علينا أن نجد الوسيلة الأفضل للاقتراب من القرية من الأعلى، أو دخولها من الأسفل. وكان علينا أن ندرب"عربنا"المستشرقين الذين كانوا يشغّلون شبكة من المتعاونين على الطريقة الأفضل للتعامل مع المخبرين". ويتذكر باسترناك أنه في سنة 1943 كان هناك إحساس متنام بأنه أصبحت لديهم أخيراً شبكة من المخبرين تستحق التسمية. ويرجع الفضل في ذلك، بصورة رئيسية، إلى شخص واحد هو عزرا دانين، الذي سيقوم بدور قيادي في التطهير العرقي في فلسطين. كان تجنيد عزرا دانين، الذي أُخذ من عمل ناجح في مجال زراعة الحمضيات، هو ما نقل العمل الاستخباراتي وتنظيم ملفات القرى إلى مستوى جديد من حيث الكفاءة. وتتضمن الملفات في فترة ما بعد سنة 1943 وصفاً مفصلاً للزراعة وتربية الحيوانات، وللأراضي المزروعة، ولعدد الأشجار في المزارع، ولنوع وجودة الفواكه في كل بستان وحتى كل شجرة مفردة، ولمعدل مساحة الأرض بالنسبة إلى كل عائلة، ولعدد السيارات، ولأصحاب الدكاكين، وللعاملين في الورشات، ولأسماء الحرفيين في كل قرية ونوع مهاراتهم. وفي وقت لاحق، أضيفت إلى ذلك تفصيلات دقيقة جداً عن كل حمولة وانتماءاتها السياسية، والفوارق الطبقية بين الأعيان والعامة، وأسماء الموظفين العاملين في دوائر الحكومة الانتدابية. ومع اكتساب عملية جمع المعلومات قوة دفع تلقائية، يجد المرء مع حلول سنة 1945 مزيداً من التفصيلات، مثل وصف المساجد في القرى وأسماء الأئمة فيها، مع صفات مثل"هو رجل عادي"، بل حتى وصفاً دقيقاً لغرف الاستقبال داخل بيوت هذه الشخصيات. ومع اقتراب فترة الانتداب من نهايتها، أصبح جمع المعلومات موجهاً بصراحة نحو المعطيات ذات الطابع العسكري، مثل: عدد الحراس معظم القرى لم يكن لديه أي حراس، وكمية الأسلحة الموجودة ونوعيتها بصورة عامة قديمة، أو لا وجود لها. وجنّد دانين يهودياً ألمانياً اسمه يعقوب شمعوني، أصبح لاحقاً أحد أهم المستشرقين الإسرائيليين، وعينه مسؤولاً عن مشاريع خاصة داخل القرى، لا سيما الإشراف على عمل المخبرين. وأطلق دانين وشمعوني على أحد هؤلاء لقب"أمين الصندوق"هَ- غِزْبار. وأشرف هذا الشخص، الذي أثبت أنه نبع معلومات لجامعي المعطيات من أجل الملفات، على شبكة المتعاونين من سنة 1941 حتى سنة 1945. وانكشف أمره في سنة 1945 وقتل على يد ناشطين فلسطينيين. وليس بعيداً من قرية الفريديس والمستوطنة اليهودية"القديمة"زِخْرون يعقوف، حيث يوجد اليوم طريق يصل الطريق الساحلية الرئيسية بمرج بن عامر عيمك يزراعيل عبر وادي الملح، توجد قرية للشباب نوع من المدارس الداخلية للشبيبة الصهيونية تدعى شيفيا. وفي هذا المكان بالذات، كانت الوحدات الخاصة الموضوعة في تصرف مشروع ملفات القرى تتدرب في عام 1944، وتنطلق منه في رحلاتها الاستطلاعية. وكانت شيفيا آنذاك شديدة الشبه بقرية تجسس خلال الحرب الباردة: يهود يتجولون متحدثين بالعربية، ويحاولون محاكاة ما يعتقدون أنها طرائق عيش العرب المعتادة وسلوك الريفيين الفلسطينيين. في عام 2002، تذكّر واحد من أوائل المجندين للتدرب في هذه القاعدة العسكرية الخاصة مهمته الاستطلاعية الأولى لقرية أم الزينات في عام 1944. كان الهدف تفحّص القرية وجلب معلومات مثل أين يقطن المختار، وأين يقع الجامع، وأين يسكن أغنياء القرية، ومن كان نشيطاً في ثورة 1936. لم تكن هذه مهمة خطرة جداً لأن القائمين بها كانوا يعرفون أنهم يستطيعون استغلال أصول الضيافة العربية التقليدية، بل إنهم حلّوا ضيوفاً في بيت المختار نفسه. وعندما لم ينجحوا في يوم واحد في جمع المعلومات التي كانوا يبحثون عنها، طلبوا استضافتهم مرة أُخرى. وكُلّفوا أن يحصلوا في زيارتهم الثانية على معلومات عن خصوبة الأراضي، التي يبدو أن نوعيتها الجيدة أدهشتهم كثيراً. وقد دُمِّرت أم الزينات في عام 1948، وطرد جميع سكانها، مع أنه لم يصدر عنهم قط أي استفزاز. وخلال المراحل المبكرة للتطهير العرقي حتى أيار 1948، كان بضعة آلاف من المقاتلين الفلسطينيين غير النظاميين يواجهون عشرات الآلاف من الجنود اليهود المدربين جيداً. وفي المراحل التالية، لم تواجه قوة يهودية، عديدها ضعف عديد الجيوش العربية مجتمعة تقريباً، أية صعوبة في استكمال إنجاز المهمة. على هامش القوة العسكرية اليهودية الرئيسية نشطت مجموعتان متطرفتان: الإرغون يشار إليها عادة بالعبرية بتسمية إيتْسِلْ، وعصابة شتيرن ليحي. والإرغون منظمة انشقت عن الهاغاناه عام 1931، وكان يقودها في أربعينيات القرن الماضي مناحيم بيغن. وكانت طورت سياسات خاصة بها معادية جداً للوجود البريطاني وللسكان المحليين على السواء. أمّا عصابة شتيرن، فكانت فرعاً من الإرغون انشق عنها عام 1940. ومع الهاغاناه، شكلت المنظمات الثلاث جيشاً موحَّداً خلال أيام النكبة مع أنها لم تعمل دائماً بانسجام وتنسيق. وكان جزء مهم من المجهود العسكري الصهيوني هو تدريب وحدات الكوماندو الخاصة، البالماح، التي أنشئت عام 1941، في الأصل، لمساعدة الجيش البريطاني في الحرب ضد النازيين في حال وصول هؤلاء إلى فلسطين. لكن سرعان ما وُجّهت حماستها ونشاطاتها إلى العمل ضد الفلسطينيين. في عمليات التطهير العرقي اللاحقة، كانت قوات الهاغاناه والبالماح والإرغون تحتل القرى، وبعد احتلالها بفترة وجيزة كانت تسلمها الى قوات أقل قدرة قتالية، الى وحدات من سلاح الميدان "حيش"بالعبرية الذي أنشئ عام 1939، وكان يشكل الذراع اللوجستية للقوات اليهودية. وتتحمل هذه الوحدات الإضافية مسؤولية ارتكاب عدد من الأعمال الوحشية التي رافقت عمليات التطهير. شكلت هذه القوى المسلحة مجتمعة قوة حربية ضخمة بما فيه الكفاية لتعزز ثقة بن - غوريون بقدرة المجتمع اليهودي على أن يرث الدولة الانتدابية، ويستولي على معظم الأراضي الفلسطينية والأملاك والثروات الموجودة فيها. كان موشيه شاريت، وزير خارجية الدولة اليهودية"غير الرسمي"، خارج البلد خلال الأشهر السابقة لإعلان قيام الدولة. وكان يتسلم بين حين وآخر رسائل من بن - غوريون توجهه إلى أفضل الطرق للعمل من أجل الحصول على دعم عالمي ويهودي لدولة يهودية مستقبلية تواجه خطر الإبادة، وفي الوقت نفسه تطلعه على حقائق الواقع الفعلي على الأرض. بدأ تبادل الرسائل برسالة أرسلها بن - غوريون في كانون الأول ديسمبر 1947 إلى شاريت بغية إقناعه بتفوق اليهود عسكرياً في فلسطين:"نستطيع أن نجوّع عرب حيفا ويافا إذا أردنا ذلك". إن هذه الثقة في ما يتعلق بقدرة الهاغاناه على احتلال فلسطين بأسرها، بل احتلال ما هو أكثر منها، ستستمر طوال مدة القتال. وعندما يتعلق الأمر بإعادة تركيب جزء من عملية تاريخية مرتبط بتحولها من أيديولوجيا نظرية إلى واقع ملموس، هناك خياران نستطيع، نحن المؤرخين، أن نختار أحدهما في حالة فلسطين عام 1948: الخيار الأول هو أن نلفت انتباه القارئ إلى ثبات القادة الصهيونيين- من هيرتسل إلى بن - غوريون - على رغبتهم في إخلاء الدولة اليهودية العتيدة من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، ومن ثم نبين الارتباط الوثيق بين هذه الرغبة وبين عمليات الطرد الفعلية التي ارتكبت عام 1948. وتتجسد هذه المقاربة بوضوح في عمل المؤرخ نور الدين مصالحة، الذي رسم بدقة فائقة أصل أحلام"الآباء المؤسسين"الصهيونيين وخطط الطرد لديهم. وأوضح كيف أن الرغبة في إزالة العرب من فلسطين كانت من الدعامات الأساسية للفكر الصهيوني منذ لحظة ظهور الحركة الصهيونية على المسرح السياسي بشخص تيودور هيرتسل. أما بن - غوريون فبلور أفكاره بوضوح في هذه المسألة عام 1937. يقول كاتب سيرته، ميخائيل بار - زوهر:"في المناقشات الداخلية، في التعليمات لمساعديه، تمسك العجوز بموقف واضح: من الأفضل أن يبقى أقل عدد ممكن من العرب داخل أراضي الدولة". أمّا الخيار الآخر المتاح للمؤرخ - المترجم فهو التركيز على التطورات التراكمية في عملية صنع القرار، وإظهار كيف أن القرارات المتخذة، في اجتماع بعد اجتماع، في شأن الاستراتيجيا والوسائل، اندمجت بالتدريج إلى أن شكلت خطة تطهير عرقي منهجية وشاملة. وسأستخدم كلا الخيارين. إن السؤال المتعلق بما يجب فعله بالسكان الفلسطينيين في الدولة اليهودية العتيدة أصبح يناقَش بتركيز شديد في الأشهر الأخيرة القريبة من نهاية الانتداب، وأخذت فكرة جديدة تعاود الظهور في أروقة السلطة الصهيونية:"الميزان". وهو مصطلح يشير إلى"الميزان الديموغرافي"بين العرب واليهود في فلسطين. وكان ميله في غير مصلحة غالبية يهودية، أو سيطرة يهودية حصرية على البلد، يوصف بأنه كارثي. وكان الميزان الديموغرافي، سواء داخل حدود الدولة التي عرضتها الأممالمتحدة على اليهود، أو داخل الحدود التي عينتها القيادة الصهيونية نفسها، كان في نظر القيادة اليهودية كارثة وشيكة الوقوع. وكان رد فعل القيادة الصهيونية تجاه هذا المأزق من نوعين: نوع للاستهلاك العام، ونوع للحلقة الضيقة من المقربين الذين جمعهم بن - غوريون حوله. فالسياسة العلنية التي شرع هو وزملاؤه في الإفصاح عنها في هيئات مثل"مجلس الشعب"المحلي "البرلمان"اليهودي في فلسطين كان محورها الحاجة إلى تشجيع هجرة يهودية كثيفة إلى البلد. أمّا في الأطر الضيقة، فقد كان القادة يعترفون بأن الهجرة مهما تعاظم شأنها فإنها لن تكون أبداً كافية لموازنة الغالبية الفلسطينية، وأن هناك حاجة إلى وسائل أُخرى إضافة إلى الهجرة. وكان بن - غوريون وصف هذه الوسائل عام 1937 عندما ناقش مع أصدقاء له مسألة فقدان غالبية يهودية صلبة في دولة مستقبلية، فأخبرهم أن"واقعاً"كهذا - الغالبية الفلسطينية في البلد - سيرغم المستوطنين اليهود على استخدام القوة لتحقيق"الحلم": فلسطين يهودية محضة. وبعد عشرة أعوام، في 3 كانون الأول ديسمبر 1947، في خطاب له أمام كبار أعضاء حزب مباي حزب عمال أرض إسرائيل، لخص بصورة أوضح كيف يجب التعامل مع حقائق لا يمكن قبولها، مثل قرار التقسيم الصادر عن الأممالمتحدة: هناك 40 في المئة من غير اليهود في المناطق المخصصة للدولة اليهودية. إن هذه التركيبة ليست أساساً متيناً لدولة يهودية، ويجب أن نواجه هذا الواقع الجديد بكل قسوته ووضوحه. إن ميزاناً ديموغرافياً كهذا يطرح علامة استفهام في شأن قدرتنا على المحافظة على سيادة يهودية... فقط دولة 80 في المئة من سكانها على الأقل يهود يمكن أن تكون قابلة للحياة ومستقرة. في 2 تشرين الثاني نوفمبر، أي قبل شهر تقريباً من تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار التقسيم، وأمام هيئة مختلفة هي اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، صرح بن - غوريون للمرة الأولى بمنتهى الوضوح أن التطهير العرقي يشكل وسيلة بديلة، أو متممة، لضمان أن تكون الدولة الجديدة يهودية محضة. أخبر الحاضرين أن الفلسطينيين داخل الدولة اليهودية يمكن أن يصبحوا طابوراً خامساً، وبما أن الأمر كذلك فإنه"يمكن اعتقالهم جماعياً أو طردهم، ومن الأفضل طردهم". لكن كيف يمكن تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي؟ يجزم سمحا فلابان أن غالبية القادة الصهيونيين كان يمكن ألاّ تذهب إلى حد الطرد الجماعي. بكلمات أُخرى: لو أن الفلسطينيين امتنعوا من مهاجمة أهداف يهودية بعد أن تبني قرار التقسيم، ولو أن النخبة الفلسطينية لم تهجر المدن، لكان من الصعب على الحركة الصهيونية أن تنفذ تطلعها إلى فلسطين مطهرة عرقياً. مع ذلك، فقد قبل فلابان أن الخطة"دالِتْ"كانت خطة رئيسية لتطهير فلسطين عرقياً. وخلافاً للتحليل الذي يقدمه بِني موريس في الطبعة الأولى من كتابه عن نشوء مشكلة اللاجئين، لكن، بما ينسجم تماماً مع التغيير الذي أدخله على وجهة التحليل في الطبعة الثانية، فإن الخطة الرئيسية لتطهير فلسطين عرقياً، الخطة"دالِتْ"، لم تنشأ من فراغ. فقد برزت بصفتها الخطة النهائية استجابة لمنحى تطور الأحداث بالتدريج على الأرض، ومن خلال نوع من سياسة ردود فعل آنية تبلورت شيئاً فشيئاً مع مرور الوقت. لكن تلك الاستجابة كانت دائماً راسخة بقوة في الأيديولوجيا الصهيونية وهدفها المتمثل في الدولة اليهودية المحضة. وهكذا، فإن الهدف الرئيسي كان واضحاً منذ البداية - إزالة العرب من فلسطين - بينما تطورت الوسائل لتحقيقه على أكمل وجه ممكن مع الاحتلال العسكري الفعلي للأراضي الفلسطينية التي ستصبح دولة إسرائيل اليهودية الجديدة. والآن، بعد أن أصبحت المساحة محدَّدة والتفوق العسكري مؤكَّداً، كانت الخطوة الرابعة للقيادة الصهيونية، في اتجاه استكمال تطهير فلسطين، توفير الوسائل الفعلية الملموسة التي من شأنها أن تمكنهم من إزاحة هذه الكتلة الكبيرة من السكان. ففي الأراضي التي ستتكون منها مساحة دولتهم اليهودية الكبرى العتيدة، كان يعيش في أوائل كانون الأول 1947 مليون فلسطيني من مجموع السكان الفلسطينيين البالغ عددهم 1.3 مليون نسمة، بينما كان المجتمع اليهودي أقلية مكونة من 600.000 نسمة. الانزعاج من حياة طبيعية أعلنت الهيئة العربية العليا إضراباً لمدة ثلاثة أيام ونظمت تظاهرات جماهيرية احتجاجاً على قرار الأممالمتحدة بالتقسيم. ولم يكن هناك أي جديد في هذا النوع من ردود الفعل: كان رد الفعل الفلسطيني المألوف تجاه سياسات اعتبروها ضارة أو خطرة قصير الأمد وغير فاعل. وأفلت بعض التظاهرات من السيطرة وتوجه إلى مناطق يهودية تجارية، كما حدث في القدس حين هاجم متظاهرون دكاكين يهودية وسوقاً. لكن، وقعت أحداث أُخرى لم تكن لها، بحسب جهاز الاستخبارات اليهودي، أية علاقة بقرار الأممالمتحدة. فعلى سبيل المثال، نُصب كمين لحافلة ركاب يهودية، وهو حدث أجمعت كتب التاريخ اليهودي كلها تقريباً على أنه شكل بداية حرب 1948. وقامت بهذا العمل عصابة أبو كشك، وكانت دوافعه عشائرية وإجرامية أكثر مما كانت جزءاً من جدول أعمال قومي. وفي أي حال، بعد ثلاثة أيام لاحظ المراسلون الصحافيون الأجانب، الذين كانوا يتابعون التظاهرات والإضرابات، معارضة متنامية بين الناس العاديين للاستمرار في الاحتجاج، ورغبة واضحة في العودة إلى الحياة الطبيعية. ففي نهاية المطاف، كان قرار الأممالمتحدة بالنسبة إلى معظم الفلسطينيين فصلاً كئيباً، لكن ليس جديداً، في تاريخهم. فعلى مر القرون، انتقلت فلسطين من يد إلى أُخرى، أحياناً امتلكها غزاة أوروبيون أو آسيويون، وأحياناً امتلكتها أجزاء من إمبراطوريات إسلامية. أمّا الناس فاستمرت حياتهم، إلى حد ما، من دون تغيير: زرعوا أراضيهم، أو مارسوا تجارتهم حيثما كانوا، واستسلموا إلى الوضع الجديد إلى حين حدوث تغيير ما مرة أُخرى. وبالتالي، انتظر القرويون وسكان المدن، سواء بسواء، بصبر، ليروا ما سيعني لهم أن يكونوا جزءاً من دولة يهودية، أو أي نظام قد يحل محل الحكم البريطاني. ولم يكن لدى معظمهم أي فكرة عما ينتظرهم، أو أن ما كان وشيك الحدوث سيشكل فصلاً لا سابق له في تاريخ فلسطين، وليس مجرد انتقال من حاكم إلى آخر، وإنما سيشكل طرداً فعلياً للسكان. في كانون الأول 1947 كان الفصل الأكثر مراوغة في تاريخ التطهير العرقي في فلسطين. كان رد الفعل المعتدل في العواصم العربية المحيطة بفلسطين محط ترحيب لدى الهيئة الاستشارية لبن - غوريون، لكن رد الفعل الفلسطيني اللامبالي، والمتقاعس تقريباً، أزعجهم. في الأيام الثلاثة الأولى التالية لتبني قرار التقسيم، كانت مجموعة مختارة من أعضاء الهيئة الاستشارية تجتمع يومياً، لكنها ما لبثت أن استرخت إلى حد ما، ثم عادت إلى مألوف عادتها في الاجتماع كل عصر أربعاء في إطار اجتماعات القيادة العليا الأسبوعية، وإلى الاجتماع الإضافي للمجموعة المصغرة في اليوم التالي عادة في منزل بن - غوريون. وقد خُصّص أول اجتماع عقد في كانون الأول لتقويم المزاج والنيات الفلسطينية. وبلّغ"الخبراء"الحاضرين أن الفلسطينيين، على رغم دخول المتطوعين المبكر إلى البلد رويداً رويداً، بدوا تواقين إلى الاستمرار في حياتهم الطبيعية. لكن العودة السريعة إلى الحياة الطبيعية ورغبة الفلسطينيين في الابتعاد عن التورط في حرب أهلية أربكتا القادة الصهيونيين الذين كانوا مصممين على خفض عدد الفلسطينيين داخل دولتهم اليهودية العتيدة بصورة جذرية، إن لم يكن التخلص منهم كلياً. كانوا في حاجة إلى ذريعة، وكان من الأصعب عليهم اختلاقها لو أن رد الفعل الفلسطيني المعتدل ظل مستمراً. لكن، لپ"حسن حظهم"، وسع جيش المتطوعين العرب في وقت ما نشاطاته ضد القوافل والمستوطنات اليهودية، وبذلك سهّل على الهيئة الاستشارية وضع سياسة الاحتلال والطرد في إطار شكل مبرر من أشكال الرد"الانتقامي"، أي"تَغْمول"tagmul بالعبرية. لكن الهيئة الاستشارية كانت بدأت منذ كانون الأول 1947 باستخدام الكلمة العبرية"يوزما"مبادرة لوصف الاستراتيجيا التي كانت تنوي اتباعها حيال الفلسطينيين القاطنين في أراضي الدولة اليهودية التي كانت تتطلع إليها. وكلمة"مبادرة"تعني العمل ضد السكان الفلسطينيين من دون انتظار ذريعة لرد انتقامي على اعتداء من جانبهم. ومع مرور الوقت، ستختفي بصورة متزايدة، وفي شكل واضح، الذرائع للقيام بالردود الانتقامية. كان بالتي سيلا عضواً في الوحدات التابعة لجهاز الاستخبارات، والتي ستقوم بدور حاسم في تنفيذ عمليات التطهير العرقي. وكانت واحدة من مهماتها تقديم تقرير يومي عن المزاج العام، أو الاتجاهات، في أوساط السكان الريفيين في فلسطين. وقد أذهل سيلا، الذي كان ينشط في السهول الشمالية الشرقية للبلد، الفارق الواضح في رد فعل المجتمع في كل من الطرفين حيال الواقع السياسي الجديد الآخذ في التكون حولهم. المزارعون اليهود في الكيبوتسات والمستوطنات، حولوا أماكن إقامتهم إلى مواقع عسكرية مستعدة للدفاع والهجوم. أمّا القرى الفلسطينية، فقد"واصلت حياتها كالمعتاد". وفي الواقع استقبله الناس في القرى الثلاث التي زارها - عين دور ودبورية وعين ماهل - كما كانوا يستقبلونه دائماً، وحيّوه كزبون محتمل لإجراء مقايضة، أو متاجرة، أو لتبادل النكات والأخبار.