بات واضحاً ان إقرار نظام المحكمة ذات الطابع الدولي، لمقاضاة المتهمين بالاغتيالات في لبنان، لم يعد يواجه مشكلة جدية في مجلس الامن. إذ أن أياً من الدول الدائمة العضوية لن يستخدم الفيتو ضده، وسيتوفر عدد الاصوات اللازمة لإقراره. لقد تحول مجلس الأمن بديلاً عن المؤسسات اللبنانية. واصبح لبنان محكوما برزمة من القرارات الدولية التي تطاول وضعه كبلد كان يستمد الحكم فيه شرعيته من وجود عسكري سوري مباشر. وتطاول وضعه كبلد مجاور مواجه لاسرائيل ويخضع جزء من ارضه لاحتلالها. وتطاول ايضاً بعضاً من صلاحيات قضائه. أي ان الذهاب الى مجلس الامن لإقرار المحكمة الدولية يأتي في إطار المنطق السياسي الذي صدر فيه القرار 1559 والقرار 1701، اي العجز الداخلي عن ايجاد صيغة دستورية تعالج المشكلات الجوهرية التي يعانيها البلد نتيجة الانقسام العميق فيه. المحمكة الدولية شكلت العنوان الأبرز في الأزمة الاخيرة. ومنها نشأت الازمة الحكومية والرئاسية والتشريعية. وعليها انقسم اللبنانيون وتبادلوا كل انواع الاتهامات. وفي مواجهتها جرت الاعتصامات التي ما تزال مستمرة، وجرت التظاهرات التي كادت تنزلق الى مواجهات عنيفة. وعندها تعثرت الحلول والوساطات، الداخلية والعربية. كل ذلك منع إقرارها داخليا على نحو مقصود او غير مقصود. لقد قام معارضو المحكمة وهم الاقلية النيابية بكل ما في وسعهم، من حشود وضغوط وتحركات وإطلاق التحذيرات لمنع إقرار نظامها. وفي المقابل استخدم المطالبون بها وهم الغالبية النيابية، كل الترسانة القانونية والتعبوية والسياسية لاعتماد النظام في الداخل. جاء نقل المسألة الى مجلس الأمن في سياق قرار دولي سابق يتعلق بالتحقيق الدولي في جرائم الاغتيال وبتشكيل محكمة ذات طابع دولي، وهو القرار الذي يحكم موافقة الاسرة الدولية على نظام هذه المحكمة. والمسألة حالياً تتعلق بكيفية تعامل الاطراف اللبنانية مع هذا التطور الذي يأتي في سياق قانوني دولي إلزامي. فتدويل إقرار نظام المحكمة لا يتعلق بفعالية أي طرف داخلي ولا يوضع في خانة انتصار فريق على آخر، وإنما في خانة عجز اللبنانيين عن تفعيل عمل مؤسساتهم. لكنه قد يشكل احدى الفرص القليلة لسد هذا العجز، ومنع تحوله مواجهة مفتوحة. إن ترحيل المشكلة الى مجلس الامن يعفي كتلا نيابية تقاطع الحكومة بسبب المحكمة من إحراج تواجهه مع حلفائها، داخليين او إقليميين. فهي فعلت كل ما في وسعها لتمنع عن نفسها كأس المساهمة في إقرار هذه المحكمة ومنعها من المرور في مناطق مؤثرة فيها. وأيضاً يتحول التدويل ورقة في يديها، لأنها لا تستطيع أن ترفض ما لم يتمكن من رفضه أعضاء دائمو العضوية في مجلس الامن. في هذا المعنى يمكن الانتقال، مع هذا الترحيل، الى الجانب الداخلي من الأزمة. فالحكومة الراهنة، وبغض النظر عن الألقاب التي ألصقت بها، لم تعد هي المسألة لأنها تحولت حكومة تصريف أعمال بفعل الاستحقاق الرئاسي بعد شهور قليلة، وليس بفعل مقاطعتها. أي أن المحكمة التي رُحلت الى مجلس الامن والحكومة التي باتت لتصريف الأعمال، لم تعُودا جوهر الأزمة التي تنتقل منذ الآن الى الإنتخابات الرئاسية. من الواضح، أنه من دون الغالبية النيابية لا يمكن انتخاب رئيس جديد. ومن الواضح ايضاً أنه من دون الأقلية النيابية لا يمكن تأمين نصاب لانتخاب هذا الرئيس. والمأزق كامل في حال التوجه الى معركة غالب ومغلوب. وقد تنتهي الولاية الحالية من دون انتخاب رئيس، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من خطر فراغ لن يسده إلا العنف. وقد لا يكون أمام الحريصين على السلم الاهلي إلا التوافق على الرئيس المقبل، رغم صعوباته. لأن هذا التوافق هو الذي يضمن تأمين الأقلية للنصاب وتصويت الغالبية، ويمنع الانشقاق الكبير. ولأنه يعيد دورة المؤسسات الشرعية الى عملها. فتقر الأكثرية، في مبادرة سياسية، بأن هذه الحكومة لتصريف الاعمال، وتقر الأقلية بأن على المجلس النيابي أن يستعيد دورة انعقاده، وان يعود الحوار بين الاطراف لتوفير فرص مثل هذا التوافق. لأن ذلك وحده البديل عن المواجهات في الشارع. الحرب الأهلية مثل الهزيمة لا أب شرعيا لها. لكن من يرفض حالياً التوجه الى توافق على الرئيس المقبل يطلق الرصاصة الأولى في هذه الحرب.