تدويل الأزمة اللبنانية صار امراً مفروضاً ومتمادياً، الى حد التدخل الدولي في تفاصيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية: تفاصيل النصاب القانوني لجلسة مجلس النواب، وتفاصيل مواصفات الرئيس العتيد، وصلاحياته، فضلاً عن علاقته المحتملة مع سورية، وموقفه من سلاح"حزب الله"، والقرارات الدولية ذات الصلة بالصراع مع إسرائيل والوجود الفلسطيني في لبنان. قبل مؤتمر اسطنبول، وبعده، أسرع الموفدون الأوروبيون والأميركيون والروس، ومعهم مندوبو الأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام لجامعة الدول العربية، ليبحثوا مع فرقاء الأزمة اللبنانية - وهم كثر تبعاً للتعددية الطائفية - تفاصيل حكومية ورئاسية، واقتصادية واجتماعية وسياسية، وربما ما يتعلق بانتقال الأشخاص وأمنهم الشخصي. هذا إضافة الى بحث المسائل الأكثر تعقيداً كالأمن على الخط الأزرق الجنوبي، وأمن المخيمات الفلسطينية، وسلاح المقاومة الذي صار مادة رئيسة في جدول أعمال المؤتمرات واللقاءات الخاصة بلبنان، والموصول اصلاً بقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1559، والقرار اللاحق الرقم 1701 بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز يوليو 2006. ناهيك عن المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. ماذا تعني هذه الجلبة؟ تعني في الدرجة الأولى أهمية لبنان ربطاً بأزمات الشرق الأوسط، وليس لبنان في حد ذاته كبلد مستقل وموحد ذي سيادة. وإلا ما معنى العبارة الممجوجة التي تكررت على ألسنة الموفدين الدوليين منذ بداية الأحداث المدمرة في العام 1975، وهي الدفاع عن وحدة لبنان وسيادته واستقلاله، من دون ان تجد لها تطبيقاً على ارض الواقع؟ دُمّر لبنان الوطن والدولة، وتفكك الشعب اللبناني مللاً ونحلاً وجماعات. ولا جدوى هنا من البحث عن اسباب الدمار، وعما اذا حصل لعوامل داخلية ذاتية أو لعوامل إقليمية ودولية. العاملان الداخلي والخارجي عطلا قيام الدولة اللبنانية، ولا يزالان يحولان دون استقرار هذا البلد الصغير الذي قال عنه الإرشاد الرسولي الفاتيكاني انه"وطن الرسالة". أي رسالة هذه مع الشحن الطائفي والغرائزي؟ اي رسالة مع سارقي اموال الشعب، أي المال العام، الذين أثروا على حساب الناس؟ اي رسالة مع انحدار الخطاب السياسي الى مستوى الفوضى"غير الخلاقة"و"غير البنّاءة"؟ اي رسالة مع انتظار الإشارات السياسية من وراء البحار، وكأننا في سنة 1860 عندما اجتمعت الدول الأوروبية الست لتصوغ علاقات مشبوهة مع الطوائف في إطار ما سمّي"المسألة الشرقية"؟ اخطأ اللبنانيون، ولا يزالون، في التعامل مع قضاياهم الوطنية عندما هبط قسم منهم الى وحول العصبيات. وأخطأ نظام الحكم في دمشق عندما لم يؤسس لتكامل بين الشعبين والدولتين في إطار"العلاقات المميزة"كما تحدث اتفاق الطائف. اما الدول الأخرى - البعيدة والقريبة - فإنها تدافع عن مصالحها، وتتعامل مع لبنان الجسر، أو لبنان الساحة، لا لبنان الوطن ولبنان الدولة. اليوم، تعصف رياح التدويل من كل صوب، وتطاول الحياة اللبنانية في تفاصيلها السياسية والاقتصادية والمالية والثقافية والتعليمية والخدماتية. صرنا مركباً مخلّعاً في بحر من التدويل، وحامت الشكوك حول مصير الكيان اللبناني. ما خطورة هذا المعطى؟ خطورته في انه يأتي مع انهيار وحدة العراق، وتهديده بالتقسيم ولو تحت عنوان الفيديرالية، ومتى كانت الفيديرالية قائمة على أساس طائفي ومذهبي في بلد موحد بأرضه وشعبه المتداخل اجتماعياً؟ ويتعاظم الخطر مع ربط أمن لبنان بالأمن الإقليمي الشرق أوسطي، من أفغانستان شرقاً الى المغرب العربي مروراً بالملف النووي الإيراني والمشكلة الكردية وقضية فلسطين وتعقيدات القرن الافريقي... هذه نتيجة واحدة من نتائج التدويل، فكيف اذا جاء متمادياً؟ وإذا توغّل اللبنانيون في خيار التدويل، وسط ضعف عربي إقليمي غير مسبوق، فمن يضمن إبعاد شبح توطين الفلسطينيين؟ أليس أمن اسرائيل عنواناً أبرز في ملف التدويل منذ العام 1975؟ وأمن إسرائيل يعني سيطرتها على المجال الإقليمي المحيط. * كاتب لبناني