أينما جلت بنظري، رأيت خرائب سود. ثمة آلاف الأفواه اللامجدية تطالب بالمزيد، وتنتشي بفورات الدمار، مثلما تغتذي على إيقاع العنف المتصاعد. ذاكرتي امتلأت بالمقابر. بت، مثل ملايين العراقيين، أخشى أن أمد يدي الى التلفون، لئلا تنهال علي الجثث من هذا الأثير. نلعن ماركوني، اديسون، وكل مبتكري اختراعات الحداثة على أعباء هذا التواصل الكثيف. يقول أحد منظري العولمة ان وسائل الاتصال الحديثة ضغطت الزمان والمكان ضغطاً كثيفاً. لعله نسي ان يضيف"ونحن محشورون"بين فكي كماشة الانضغاط هذا. العنف يخترقنا، يلج علينا البيوت، على إيقاعه نصحو في الغداة، وعلى هدهداته نغفو في العشي. قبل قرنين ونيف زار فيلسوف ألمانيا الأول عصر ذاك، عمانوئيل كانط مقبرة هولندية، يتصدرها نُزُل يحمل اليافطة التالية: نحو سلام دائم! تلك كانت حالة الأموات، فهم يرقدون في"سلام دائم"، بلا حروب، بلا اقتتال، بلا ضرائب، بلا منازعات. هذا الموات الدائم بدا، في نظر كانط، واقعاً مراً، أما السلام الدائم فهو، في عرفه، مطلب الأحياء لا الموتى. ابتدع الفيلسوف الألماني جملة من الحلول للخروج من الموات الدائم الى السلام الدائم، كان بينها إنشاء دولة عالمية، او إن تعذر إنشاء اتحاد للشعوب، أو اتحاد للأمم، يتسع ليشمل، رويداً رويداً، كل أصقاع المعمورة. ونعرف ان الأممالمتحدة لم تنشأ إلا بعد قرن وثلاثة أرباع القرن من ذلك، وأن مطلب الحكومة العالمية يدور في أذهان المفكرين منذ فترة، وبخاصة ما يُعرف ب"بيان ستوكهولم". فالحاجة تشتد الى ضبط ولجم الدول باعتبارها اكبر الهيئات الحديثة امتلاكاً لوسائل العنف الجيوش الدائمة وأكثرها قدرة على اقتناء احدث وسائل التدمير بما تتوافر عليه من موازنات هائلة، بل هي اكثرها مواربة ومخاتلة في اسناد حق التصرف بهذه الوسائل الى حفنة صغيرة من الأفراد، وإخفاء هذا الواقع باسم الوطن والأمة، والمصالح العليا، أو باسم قداسة مزعومة، او حقوق لا تمس. لعل القرن الحادي والعشرين مرشح لأن يكون أقل سفكاً للدماء من سابقه، على رغم انه دشّن اعوامه الأولى بثلاثة حروب جديدة ما تزال مستعرة: الإرهاب العالمي، أفغانستانالعراق. لكن القرن العشرين دشن تبلور ايديولوجيات تسعى سعياً حثيثاً الى إبدال العنف التدميري، بعنف آخر سلبي، أو اللاعنف، اعظم ابتكارات المهاتما غاندي. استمد غاندي اللاعنف من نزعات التصوف الروحي في الإسلام والمسيحية والبوذية والهندوسية، إذ وجد فيها، بحسب تعبيره، أسساً أخلاقية عميقة للاعنف. كما استمد اللاعنف من التأملات الأخلاقية لعدد من المفكرين بينهم الروائي الروسي ليو تولستوي، صاحب سفر"الحرب والسلم". لم يستطع غاندي حل مشكلة العنف، فالحضارة البشرية تمارسه جماعياً، أما اللاعنف فهو الممارسة الجزئية في المجتمع. لا ريب في ان غاندي فشل في درء العنف الطائفي في بلاده، لكنه أفلح في إخراج الامبراطورية البريطانية من شبه القارة الهندية من دون إطلاق خرطوشة واحدة. غير ان الأهم من ذلك انه ترك إرثاً فلسفياً عظيماً يجده المرء مبثوثاً في سيرته الذاتية المنشورة عامي 1927 و 1929 بعنوان: سيرتي الذاتية، أو تجربتي مع الحقيقة. وتقوم فكرته اصلاً على مبدأ نجد حاضنته في كل الأديان والفلسفات اللاهوتية والوضعية: الامتناع عن إنزال الأذى بأي كائن. على رغم الاعتراف بهذا المبدأ في كل الشرائع والمدونات القانونية، ثمة ايضاً استثناءات لا حصر لها تكاد تلغي هذا المبدأ الروحي والأخلاقي السامي. لكن فلسفة"الامتناع عن الإيذاء"لا تعني القعود السلبي عن أخذ الحقوق، بل اعتماد وسائل إنسانية، لا تقف إلا عند حدود العنف الجسدي والتدمير المادي. ذلك هو حدها الفاصل لجهة الوسائل. أما الأغراض فلا حد لها، وهي تبدأ من المنازعات الفردية، الى النزاع الاقتصادي، فالنزاع الديني، والنزاع السياسي، فالوطني. ترك غاندي، كما كانط من قبله، إرثاً عظيماً وجدناه متجسداً في إهاب قادة فكر ورأي من طراز رفيع: مارتن لوثر كينغ داعية الحقوق المدنية الأميركي، أو نيلسون مانديلا المحامي الشاب الذي قضى قرابة اربعة عقود في السجن ليخرج منه منهياً نظام الفصل العنصري بالتفاوض السلمي، أو الأسقف ديزموند توتو، مبتدع ومطبق فلسفة"الحقيقة والمكاشفة"للتصالح العرقي في جنوب افريقيا، بعيداً من فكرة الثأر الجنونية. هل يصعب على حضارتنا العربية - الإسلامية ان تبتدع كائناً مثل غاندي، أو داعية لا عنف وتسامح مثل مانديلا وتوتو؟ هذا التساؤل مشروع امام أورام العنف النامية على جسد حضارتنا. فالنزاعات تطوقنا، من خارج الدار، والنزاعات تمور في داخله. وعلى رغم ان كل الحضارات توصلت الى إدراك ان العنف هو معلم قديم من معالم الهمجية، وأن التماس اللاعنف هو دالة على الخروج من عالم الحيوان، فإننا معشر العرب والكرد والفرس، ما نزال نرى في إنماء العضلات واستعراضها، شأناً من شؤون الفحولة وعلامة من علامات الرجولة، في المجتمع كما في السياسة. وبينما تعترف أمم لا عد لها بأنها ضعيفة عسكرياً، وتفضل أروقة الديبلوماسية على ساح الوغى، نجد نحن، الأضعف منها، حرجاً في الإفصاح عن ذلك. فنرجسية الفحول أرق من ان تسمح بخدشها بمثل هذه الاعترافات. بل ان هذه النرجسية تدفع دفعاً الى اختلاق مكامن قوة لا وجود لها إلا في الخيال. ومقابل تلكئنا المستديم، نجد الحضارات الأخرى طورت علماً كاملاً اسمه"حل النزاعات"، وهو يدرس في معظم جامعات العالم، وتقام له مراكز أبحاث خاصة. في المقابل، لم أجد جامعة واحدة تعنى بهذا الحقل أو تدرجه في منهجها الأكاديمي. فالقائمون على المؤسسات الأكاديمية ينتمون إلى جيل غابر عاش على معسول الشعارات الحربية، أو ينتمي إلى جيل جديد يعيد إنتاج اليوتوبيات القتالية ببلادة. والمؤسي ايضاً ان ادبيات حل النزاعات، وهي ادبيات اللاعنف، تتوسع كمّاً ونوعاً في أوروبا خصوصاً، من دون ان نجد صدى لها في ترجمات دور النشر العربية مثلاً. أجد في هذا التلكؤ الفكري والأكاديمي نوعاً من عيّ، حتام يستمر ذلك؟