شهد العقد العاشر من نهاية القرن العشرين سجالات عديدة تناولت مسألة العنف ومعناها، وما هي وسائل محاصرتها محلياً واقليمياً ودولياً؟ فتح النقاش باب تطوير القانون الدولي وحدود تشريع قانون يجيز للدول حق التدخل في شؤون الدول الأخرى. وجرى الاختلاف على الفكرة والتباسها القانوني مخافة أن تستخدم من قبل الدول الكبرى ضد الدول الصغرى. وتكرر السجال واحتد مراراً في منطقة البلقان البوسنة وكوسوفو، ومناطق افريقيا الكونغو وتشاد والصومال، وآسيا الوسطى القوقاز وتحديداً داغستان والشيشان. وأخيراً في تيمور الشرقية وغيرها من المناطق المتفجرة كالتيبت وكشمير. حتى الآن لم ينته النقاش، وما زالت الأسئلة مطروحة عن الجهة المخولة اعطاء صلاحيات التدخل، ومتى يكون؟ ومقدار استخدام القوة في الإطار القانوني وغيرها من المسائل المتعلقة بالمرجعية الدولية وحدود صلاحياتها في اختراق سيادة الدول بذريعة حماية حقوق الإنسان. عن هذه المسائل الخلافية يحاول الباحث شبلي ملاط تفسير حدودها القانونية في سياق قراءة أوجه أبعادها على المستويات الخلقية والأدبية والتاريخية والدستورية. اللاعنف ودولة القانون، اللاعنف والمعارضة الدستورية، اللاعنف ومستقبل المنطقة، كل هذه العناوين محاولة لمقاربة فكرة اللاعنف - وهي كلمة دخيلة على لغتنا، كما هي دخيلة على لغة الغرب، مستهجنة: non-violence. وكأن الانسان مفطور على العنف، في طبيعته غرباً وشرقاً، وهو الذي لم ينجح في سياق حضارته الكتابية على مر خمسة أو ستة آلاف سنة، أن يبتكر كلمة لمعنى، فاضطرها الى أن تكون مجرد نقيض للحال الراهنة، وهي حالة العنف. والجواب الأدبي أحد الأجوبة الممكنة، يرافقه، بنمطه الخاص ولغته الخاصة، الجواب الفلسفي - مثلاً في "لفياتان" توماس هوبس، "الإنسان ذئب للإنسان"، أو كارل ماركس "العنف قابلة التاريخ"، أو الجواب النفساني "شحنة من الموت" عند سيغموند فرويد، أو الجواب السياسي وهو جواب أمثال المهاتما غاندي وكمال جنبلاط. وكان جنبلاط تناول المعضلة وواجه الصعاب في تخطي الفكر والشعور، يقابله المهاتما الذي استشهد، مثل كمال جنبلاط، بل استشهدا بسبب نبذهما منطق الإذعان للعنف. قال غاندي: "وأرجو أنكم لن تظنوا عنفاً جسدياً، وإن كان بمرتبة دنيا، عندما تردُّون ولداً قسراً عن إقباله الى النار لو استطعتم إليه سبيلاً". هذا المثل قد يشكل أدق التناقضات بالنسبة الى المهاتما غاندي، كما ورد بقلمه في كتابه الشهير هند سواراج 1909، في الفصل الذي يتناول فيه القوة الباطشة brute force، وباللغة الفوجاراتية darugolo ومثل هذا التناقض، الوارد هنا في مثل بسيط، تطور في فلسفة غاندي عن اللاعنف ahimsa في رسالة عن النازية سنة 1938، يقر فيها "بأنه لو كان هنالك ضرورة لحرب مشروعة باسم الإنسانية ومن أجلها، حرب ضد المانيا لمنعها من العبث بجنس كامل، فالحرب في مثل هذه الحال مشروعة تماماً". ويستدرك قائلاً: "ولكنني لا أؤمن بالحرب، ومناقشة ايجابيات وسلبيات مثل هذه الحرب لا تدخل ضمن نطاقي وآفاقي". جامعة كامبريدج، 1996، الفصل السادس عشر. يبقى مطروحاً السؤال عما إذا كانت تجربة غاندي، كما تجربة العديد من أسلافه الروحيين، نجحت في حل المعضلة، وكفانا هذا الصيف خلافات مشؤومة بين الهند وباكستان رمزاً لإضاعة تعاليم المهاتما وأثرها في عالمنا المعاصر، تطل عليه كل شهر إبادة جماعية أخرى وعنف داخلي آخر ونزاعات خارجية لا هوادة لها. اللاعنف وجدية القانون هذا الشرخ بين حقيقة العنف المستشري، ومجاز اللاعنف الذي نتوق اليه، يحملنا الى العودة الى صلب موضوعنا عن جدل الاعتدال والثأر، جدل نتابعه الآن من زاوية رتيبة لا أدبية، زاوية القانوني الجاف. إلا أن القانون هو نفسه قالب فكري فاصل يذكره الناقد الانكليزي الشهير في القرن التاسع عشر ماثيو ارنولد "القوة حتى مجيء الحق"، ويدفعنا الى إيلائه الاهتمام الذي قد يجعله، في مساهمتنا، عنواناً أساسياً لردم الهوة بين نظرة ساذجة للاعنف، تنقصها أدوات التحقيق الفعلية، ومستقبل عملي ناجز يركز على الجدل بين العنف واللاعنف في محاولة الإنسانية تخطي الأول بالثاني. ولم يكن المفكر البريطاني سبّاقاً في هذه الاشارة البليغة. ألم يبادرنا حمورابي في نص وضعته المنطقة منذ 38 قرناً، أن قانونه ما انوجد سوى ليحمي الضعيف من القوي، وفي مقدمته الشهيرة: "فهو اسمي أنا، حمورابي، الأمير التقيّ الذي يحترم الآلهة، لإعلان القانون في البلاد، لئلا يطغى القوي على الضعيف، هو اسمي لفظه الآلهة أنوم وإنليل لبسط الفرح بين الناس." من مقدمة قانون حامورابي، 1850 ق.م.. القانون إذاً له مهمة أولى، أساسية، يكرسها دفاعه عن الضعفاء في المجتمع، وعندنا أن القانون الذي هو أيضاً ما يرتكز عليه أهل السلطة للدفاع عن شرعية إمساكهم بزمام الأمور. هذه إذاً الواجهة المتضاربة، مزاولة التاريخ المكتوب منذ حمورابي: لا يصلح القانون إلا في ما يأتي به معياراً للدفاع عن الضعيف، انما القانون هو ما يسنُّه القوي - بمعنى إمساكه بزمام الحكم وولايته فيه - حتى إذا كان قبل ذلك ضعيفاً. فالقانون ضالة الضعيف والمستضعف، وهو أيضاً عنوان القوي والمستقوي، حتى إذا صار الضعيف في مركز القوة، سنّ قانوناً جديداً، أو استأثر بالقانون القائم لمصلحته، يحكم به ويرسي شرعية مصلحته. القانون إذاً هو ضالة الضعيف الى أن يصبح قوياً، والقانون أسلوب القوي المفضل ومسلكه المأثور في الحكم. أما كيف يمكن تخطي هذه المعضلة الأولى، فلنا هنا قفزة تاريخية كبيرة تحملنا الى ملاحظة مهمة - بقدر ما هي بديهية - للفقيه الألماني الكبير ماكس فيبر، وهي عبارته الشهيرة عن استحواذ الدولة أو السلطة على العنف. ان السلطة في الدولة الحديثة لا يمكن تناولها، أو فهمها، إلا في ما هي وحدها حكر على العنف - الدولة حكر على العنف، لأن الدولة حكر على القانون، هي الدولة أول القانون وآخره، وأول العنف وآخره، وهي المفصل الحكم لا يضاهيها في دورها أحد. هي وحدها تسن القانون، وهي المسؤولة عن تطبيق القانون، مستعملة القسر coercion، والعنف عند الحاجة اليه لتطبيق القانون، وهي وحدها مشروعة باستعماله. هذا حق مطلق، فلا يستنسب لأحد، في الدولة الحديثة، أن يتناول القانون بيده - الدولة وحدها صاحبة العنف المشروع. كل من كان خارج اطارها لا يحق له مثل هذا الاستعمال. هذا إذاً من صميم معنى دولة القانون، فهي مرادف اللاعنف في معنى احتكارها للعنف - لا أحد غيرها مؤهل به - لأنها لا تلجأ الى العنف سوى في اطارات قانونية مسبقة ومحددة، ومن هنا عنوانها دولة للقانون. والمثل الأعلى في ذلك هو مثل الجلاّد، فالجلاّد مصون في القتل - والقتل يشكل أقصى درجة عنف - لأن الجلاّد رمز الدولة الأقصى، والدولة وحدها يحق لها أن تقتل، ولا تعمد الى القتل سوى في سياق قانوني غالباً ما يكون معقداً ومستطيلاً: مستنطق، هيئة اتهام، محكمة جنايات، تمييز، التماس عفو... فالجلاّد. الدولة تحتكر العنف، إلا أن العنف فيه استثناء. هنا بعض النتائج التي يمكننا متابعتها في طرحنا الثاني للمعضلة، بل الطرحين تكراراً: - القانون ضالة الضعيف ومرتكز القوي. - القانون وقف على الدولة، لأن العنف حكر عليها. أما الاستثناءات للطرح الثاني، فمنها ما رامها البعض قمة للحضارة الانسانية، عندما تقرر الدولة أن تتخلى عن حقها، الحكر في القصاص الأقسى، المتمثل في عقوبة الإعدام. وهنا ندخل في الجدل المتناهي عن مشروعية الإعدام على يد الدولة، ولن نتطرق الى هذا الموضوع الاستثناء بغير هذه الإشارة العابرة. انما هناك استثناء ثانٍ، وهو الدفاع المشروع، يوضحه القانون الجزائي في المجتمعات كافة، وهو السبب الذي متى انتفت شروطه كان كفيلاً بالسماح لمن يلجأ اليه أن يستعمل العنف حتى إذا اضطر الى الإجهاز على من اعتدى عليه. الاستثناء الثاني بأهمية القاعدة، ليس في تداعياته القانونية الداخلية، بل في الزخم الذي يرافقه منذ عقد تقريباً في النقاشات الحادة المرتبطة بقواعد القانون الدولي العام. ولا يمكن مقاربة مفهوم الدفاع المشروع في القانون الدولي من دون القاعدة الرديفة التي ترافقه في اطار "واجب إسعاف كل من كان في حالة الخطر"، الذي نجده في كتب القانون الجزائي مدخلاً الى الآفاق الأخرى التي تنفتح اليوم على موضوع اللاعنف، وفيه انه من غير القانوني، بل انه يستوجب العقاب "من وجد بمواجهة شخص في حال الخطر، وكان بوسعه إغاثته أو إسعافه... من دون أن يعرض نفسه للخطر... وامتنع بمحض إرادته عن ذلك". ويعاقب الجاني في القانون اللبناني بشهر في الحبس وبالغرامة، فيما يعاقب نظيره في فرنسا بمدة حبس قد تصل الى 5 سنوات. المادة 567 من قانون العقوبات اللبناني، والمادة 223-6 من القانون الجنائي الفرنسي الجديد. ويمكن توصيف هذه المعضلة القانونية الثالثة الناتجة من هاتين القاعدتين في القانون الجزائي المحلي من طريق الطرح الآتي: - حكر العنف على الدولة لا يمنع استعمال الفرد للعنف في أحوال الدفاع المشروع، بل يفرض عقاباً في جرائم الامتناع لمن أخلَّ بواجباته القانونية في مساعدة المواطن الذي يجد نفسه في حال الخطر الداهم. وإذا كان هذا الطرح معقداً في بنائه اللغوي، قد يكون مفيداً متابعة بعض تجلياته الملحة على مستوى الكوارث التاريخية الحاضرة: إن جرم الامتناع هو الذي استحدث عنواناً أساسياً للجدل المتصاعد عالمياً عن ضرورة تدخل المجتمع الدولي في النزاعات الداخلية أو الدولية إذا أفرزت حال خطر داهم لجماعة بشرية، كما حصل هذه السنة في كوسوفو وتيمور الشرقية. وليس غائباً على أحد أن هذا التضارب القوي بين مبدأ التدخل الإنساني، يقابل المبدأ السابق تاريخياً، الذي لا يزال رائجاً، وهو مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة سيدة، وأن هذا التضارب القوي، الذي ترجح الكفة فيه بشكل متصاعد نحو مبدأ التدخل الإنساني، هو عنوان المعضلة القانونية الثالثة المتصلة بسلطة القانون الدولي واللاعنف. وما نراه كل يوم على ازدياد، ولا تزال النظرية ناقصة في الإلمام بقواعده، هو الارتباك الناجم من تداعي مبادئ مشروعة في القانون الداخلي - الدفاع المشروع كما ضرورة الدفاع عن أشخاص في حال خطر داهم - عند تطبيقها في النزاعات العالمية. والتأرجح بين مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية - بما فيها من طريق العنف كما في كوسوفو أو العراق - ومبدأ ضرورة التدخل لمساعدة الضعفاء المهددين في حقهم بالعيش، هو الاطار القانوني العام الذي انسكبت عليه كل الدراسات في حقل القانون الدولي العام المعاصر، تبحث عن المعيار المناسب، ولا تزال تفتقده. وإذا انتقلنا بهذا الطرح الثالث الى الحقل الكوني بأصعب عناوينه على الاطلاق وهي الحرب، فلا بد من التعرض الى الظاهرة الفريدة الأخرى التي واكبت هذه المعضلة في مداها القانوني الصرف، وهنا أيضاً لا بد من الاشارة السريعة لما يحمل الموضوع من تشعبات، هي تفعيل سلطة القانون الجنائي الدولي لمعاقبة مجرمي الحرب في اطار محاكم جنائية دولية أنشئت لهذا الغرض كما في يوغوسلافيا السابقة وفي روندا أو دائمة في سياق مؤتمر روما في صيف 1998. وفي تطور لافت هذه السنة على الساحة الدولية، استعمال ما يسمى بالصلاحية الكونية لتوقيف ومحاكمة من ارتكب عملاً فاحشاً يخالف الحقوق الأساسية التي تكرسها معاهدات دولية أو القانون الجنائي الداخلي. والمثل الأوفى في هذا الموضوع هو الحكم البريطاني على الرئيس الشيلي السابق اغستو بينوشي. هذا السرد السريع يحتاج، وفي سياق حديثنا عن اللاعنف ودولة القانون، أن نتوقف قليلاً لطرح معضلة رابعة ترافق العملية القانونية منذ العصور الغابرة، وهي من صلب حس الإنسان الفطري بالعدالة، يعبر عنها المثل الشائع عن عدم ارتياح المرء لمعاملة البعض بالدسم والمرق فيما يعامل البعض الآخر بالصيام. ألم يطرح القانوني المالكي الكبير، القاضي شهاب الدين بن ابي الدم هذه المعضلة ببلاغة فقه القرن الثالث عشر: "وأصل هذا الخلاف: أن العدالة هي تتبعض أم لا؟ المشهور في المذهب: أنها لا تتبعض، وان من كان عدلاً في درهم فهو عدل في ألف". ابن أبي الدم، كتاب أدب القضاء، ص 96. في القانون الداخلي لا تتبعض العدالة، ودولة القانون مرادف لتطبيق شرطها الشامل، وتطبيقه على الجميع. من الناحية النظرية، هذه حقيقة أساسية، إلا أنها تترافق عملياً مع عقبات نعرفها جميعاً: ماذا إذا كان القضاء، وهو وحده مخول تطبيق القانون، بطيئاً أو متباطئاً؟ ماذا عن القانون المسن استثنائياً ولمرة واحدة؟ ماذا عن مشكلة تحقيق العدالة في الشؤون الانتخابية، وادعاء التساوي في الاقتراع أو بين صوت أرسطو وصوت راعي الضأن الأمّي في حقله وبين مرشح ثري تضخم صوته الملايين ومواطن متواضع صوته ملزم لادلائه في يوم الاقتراع؟ أسئلة كلها شائكة ولا جواب سهلاً لها عملياً. أما في القانون الدولي، فحدث ولا حرج عن مشكلة المقياس المزدوج، وتطبيق قرارات مجلس الأمن في كوسوفو والتغاضي عنها في جنوبلبنان، وإنزال الجيوش في تيمور الشرقية وليس في التيبت، والتحرك في العراق وليس في الشيشان... فطرح تبعّض أو تبعيض العدالة وهو المستعصي بحد ذاته، يلتقي مع مشكلة العنف واستعماله دولياً وداخلياً، مما يجعل الباحث لاهثاً وراء مقاييس تبدو وكأن التاريخ يسبقها دائماً. لكن التاريخ مستعجل وملح، لا ينتظر مقاييس القانوني، خصوصاً وأن الأدب كان أشار، على لسان الشاعر الفرنسي الكبير روني شار، استحالة الانتظار. من وراء الخلفية الفلسفية والأدبية والسياسية البالغة التعقيد، هناك إذاً أربع أطروحات - أربعة استنتاجات -، كل منها قوام معضلة شائكة، يجدر بالاجتهاد، بعد الإمام بمعالمها الكثيرة، أن يرجّح الكفة التي تصلح فيها ناموساً خلقياً أزلياً لمسار الانسانية الحضاري الى اللاعنف. فالاستنتاج الأول هو ضرورة ترجيح كفة مقاربة القانون على أساس أنه مرجع وضالة أضعف الناس في المجتمع، وان كان القانون أيضاً معيار السلطة. فصحة تطبيقه مرهونة بسؤال دائماً ملح عن دور القانون في الدفاع عن المستضعف، أي في التوفير له أسلوباً حضارياً مقنناً يمنع عنه العنف في مختلف أشكاله. ومن التطبيق البديهي لهذا الاستنتاج ضرورة فتح القضاء الدستوري للمواطن على مصراعيه. الاستنتاج الثاني أنه في دولة يكون العنف دائماً حكراً عليها، لا يصلح استعمال العنف فيها إلا في آخر المطاف - وإن كان أحياناً مداهماً كما في توقيف القاتل أو قرارات العجلة - أي بعد مسار قانوني واضح المعالم ومستقيم، عنوانه الأساسي هو اللاعنف، وهنا ندخل في عالم القانون الوضعي المعهود في تجلياته المتعددة على المستويات الثلاثة التي حاولت تحديدها: التداول السلمي في السلطة، والتمثيل الانتخابي الحر والمتصل، ودفاع القضاء عن حقوق الانسان. وفي اكتمال هذه المستويات وتعميقها تبرز حضارة دولة القانون العليا وينكفئ العنف حتى ينغلق في خانة الاستثناء المطلق. والاستنتاج الثالث ناجم عن البحث في ترسانة القانون الجزائي المحلي عما يجدر تصديره عالمياً لمعالجة حال العنف المستشرية على هذا الكوكب. وأشرنا تحت هذا العنوان بترجيح كفة مبدأ الاسعاف الاجتماعي وهو واجب التضامن، بل ضرورة الإلحاح عليه تصديراً وتعميماً، وهو المبدأ الذي تجدر ترجمته دولياً بحق التدخل الانساني - بل بواجب التدخل الانساني المسلّح ان لزم الأمر - لانقاذ قوم من إبادة تهددهم. والاستنتاج الرابع مرتبط بالعلاقة الدقيقة بين ذاك القانون الجزائي المعهود وإفرازاته الدولية الجديدة، بالمحاولات الحثيثة في العالم، وان كانت في أولها، لاستحداث نمط قانوني جديد يدرأ الخلل - أي العنف - في العلاقات الدولية وفي المجتمعات التي هي اليوم غير متكافئة، فيفرض بحزم، وبتؤدة وتدرج، دولة القانون مبسوطة على العالم بآليات قضائية فعالة، فيثبت المقياس الواحد على الشعوب، وعلى الأفراد. وريثما تستقر المعمورة على أنظمة ثابتة وحضارية في دولة القانون داخلها ومن حولها، لا بد من اعتبار المسار الى اللاعنف في أول الطريق، بل ضرورة العنف أحياناً بحسب معايير قانونية ثابتة، حاولنا الاحاطة بنزر يسير منها، على الدرب الطويل الى حضارة عالمية لا تتبعض فيها العدالة فيرتاج اليها ضمير البشر. * محام لبناني وبروفسور في كلية الحقوق، الجامعة اليسوعية. والمقال مقاطع من محاضرة القيت في اهدن في 23 أيلول سبتمبر الجاري.