أول ذكر لمفهوم «الكرامة» – Dignity في العصر الحديث ( وبالمعنى الحديث أيضا ) ورد في كتاب الفيلسوف الإيطالي «بيكو دي لاميراندولا» ( 1463 – 1494 ) «خطبة في كرامة الإنسان» – Oration on The Dignity of Man، يقول : «إن الخالق الأعظم قد أعطى الإنسان مكانة مرموقة، كما أعطاه حرية الاختيار، ووضعه في وسط العالم ليرى كل ما يحيط به من كائنات، ولما كان الإنسان لم يخلق كائنا ملائكيا ولا كائنا أبديا، فإن السبيل ميسر أمامه ليهبط بنفسه إلى درك الحيوانية أو يسمو بنفسه إلى الذروة السماوية، فمصيره ومستقبله رهن اختياره الحر». وبعد خمسة قرون تقريبا جاء في مقدمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1984: «أن الاعتراف بكرامة جميع أفراد العائلة الإنسانية، وبحقوقهم المتساوية وغير القابلة للمساومة، هو ما يمثل أساس الحرية، والعدالة، والسلم في العالم. وهو ما يؤكد أن مفهوم الكرامة بالمعنى الحديث، لم يعد مفهوما أخلاقيا وحسب، وإنما أصبح مفهوما قانونيا أيضا، فهو: المبدأ الأساسي الذي يشمل المساواة بين الأفراد جميعا، ويمنع في الوقت نفسه – جميع أشكال التمييز بينهم، أو المعاملة اللا إنسانية أو المهينة التي تمس كرامتهم». هكذا اختفى المفهوم التقليدي للكرامة الذي يستند إلى فكرة العرق والسلالة أو المكانة الاجتماعية الطبقية أو العقيدة والإيديولوجيا، وأصبح جميع البشر متساوين في الكرامة، وأصبح الشرط الأساسي لكل إنسان كي يمتلك كرامته، هو: اعترافه بكرامة الآخر أيضا، أيا كان هذا الآخر. في كتاب الفيلسوف الكندي »توماس دو كونيك»، المعنون ب الكرامة الإنسانية، تعريف عبقري للكرامة، يقول فيه: الكرامة تعني أن الإنسان فوق كل ثمن. فكل ما له ثمن، كما قال الفيلسوف الألماني إمانويل كانط، يمكن تغييره بشيء آخر، معادل له في القيمة، في حين أن ما يفوق أي ثمن.. له قيمة مطلقة. ولأن الكرامة هي قيمة مطلقة وليست نسبية، فهي كلٌ »واحد صحيح»، لا يتجزأ، ولا ينقسم، ولا يتناقض بين باطن وظاهر.. داخل وخارج، فكرامة الإنسان داخل وطنه تنعكس بالضرورة على صورته في الخارج، فضلا عن تعامل هذا الخارج أيضا معه. كما أن الاستهانة بكرامته في الداخل لا تدفع الآخرين فقط إلى الاستهانة به، وإنما تجعله هو أيضا يستعذب هذه الإهانة والمهانة. هذه الفكرة المحورية لا تعتبر أن الأخلاق في خدمة السياسة، وإنما ترى أن السياسة يجب أن تخدم مُثلاً عليا أخلاقية، تتجاوز بها معطيات الفطرة والطبيعة، وأهم هذه المثل جميعا «السلام». كيف؟ بُذلت جهودٌ فلسفية عديدة لبلوغ السلام العالمي، ومنها محاولة الفيلسوف الألماني إمانويل كانط عام 7971، التي تأثر فيها بكتاب «دوسان روبير» الفرنسي «مشروع السلام الدائم»، الذي تعرّف عليه من خلال مؤلفات «جان جالوروكر» كما يقول «أنطون هينين» في التعريف بكتاب كانط. وأوضح «هينين» أن كانط أكد دائماً أن حالة السلام بين الناس ليست من فعل الطبيعة أو الفطرة، وإنما ينبغي أن تصنعها إرادة البشر، أي أنها ترتبط بالفعل الإرادي، بحيث يتوجب على البشر أن يعينوا سلوكهم بشكل تصبح معه قوانين السلوك لكل فرد بموجب ضرورة القانون، وأن تقوم حرية الفرد إلى جانب حرية الآخر وفقاً لفكرة الحق أو القانون. ويؤكد كانط أن الحرية إذا كانت مبنية على هذا الأساس تصبح في مأمن، فلا تتهددها الأخطار الناجمة عن اختلاف اللغات أو الأديان أو الأعراق، لأن الالتزام الشخصي الحر، فضلاً عن كونه قيمة أخلاقية في حد ذاته، ينمّي حركة التقارب بين الشعوب، ويحفز القوى الفاعلة على التسابق إلى الأفضل. ويعرّف كانط «الحق» في كتابه «فلسفة الحق» بأنه «مجموعة الشروط، التي تستطيع حرية الفرد بواسطتها أن تتوافق مع حرية الآخر، وفق قانون عام للحرية». وهكذا فإن مفهوم السلام يتضمن في طياته علاقة «الأنا والآخر»، أو قل إن العلاقة وثيقة بين ثقافة السلام والاعتراف بالآخر والحفاظ على كرامته. والسلام في التعريف البسيط هو «ضد الحرب» والعنف والدمار، وحالة من التوازن المستقر في العلاقات السياسية. ومن تعريفاته الحديثة : أنه مجموعة علاقات التعايش والتعاون المتحركة بين الأمم، وفي داخل الأمم، لا تتميز بغياب النزاعات المسلحة فقط، وإنما باحترام القيم الإنسانية وفي مقدمتها « الكرامة «، حجر الزاوية لحقوق الإنسان في العالم أجمع، لا فرق بين شرق أو غرب.. شمال أو جنوب، أو حتى وسط.