شرّع مهرجان البستان لبنان أبوابه، في يومه العاشر لاحتضان المؤلّف الموسيقي وعازف الغيتار الإسباني باكو بينا، أول أستاذ لتعليم الفلامينكوغيتار في العالم، والمعتمد لدى هولندا منذ عام 1985. ثرياتٌ تدلت على شكل شموع من السقف الخشبي المرتفع، أضاءت قاعة"الأسامبلي هول"في الجامعة الأميركية في بيروت، المستضيفة للحفلة. جوٌّ كنائسي فرضته هيبة القاعة وديكورها، وكرّسه جلوس باكو على كرسيٍ وسط المسرح وكأنه رجل دين انحنى ليلقي عظته بلغةٍ لا تفقه فك شيفرتها إلا الأذن. الثامنة والنصف تماماً أُعلنت بداية العرض فارتسم المشهد بدقة أمام جمهورٍ تعددت فئاته وكثرت الفئة الخريفية العمر فيه. سُلّط الضوء على ذلك الجالس أمام المذبح بشعره الفضي وثيابه السود وبدأت العظة! بأنامله عزف وبأنين أوتاره حدّث الروح. مسّلحٌ بدعمٍ استثنائي من الملك الإسباني خوان كارلوس عام 1997 وبجائزة أفضل عازف غيتار لخمس سنوات متتالية، بدأ باكو عزفه مساء الجمعة الماضي، بامتياز. قطع الجمهور أنفاسه واستمع. موسيقى تراثية أندلسية أصيلة، في روح ذلك الإسباني المولود في كوردوبا الأندلسية، أدفأت جو لبنان. اشتعل الحنين في الأرواح ليطرد برد النفس والطقس في ليلة شتوية آذارية. وضع باكو خدّه على خليله الغيتار. همس له حباً تُرجم موسيقى رومانسية هادئة سمعتها آذانٌ متعطشة للحب. وفجأة انتفض رأسه وتشنج جسده، وبدأ جنون الموسيقى يركض. وكأن أنامله تخلّصت من عظامها وراحت ترقص بليونةٍ رهيبة على الأوتار. جنونٌ لم تفلح حتى أصوات خارجية منبعثة من سيارة إسعاف مرّت تلك اللحظة أن تنهيه. ضربة أخيرة على الوتر والتهب الجمهور تصفيقاً. انتهت القطعة الأولى. دوزن باكو آلته تاركاً للجمهور الحرية في السعال والعطس وخلع المعاطف. أول كلمة للوتر أعادت للجمهور صمته. "قبل أن أبدأ أريد أن ألقي تحية باللغة الإنكليزية لأنني لا أجيد العربية"، قال باكو المؤلف الموسيقي الأندلسي. تحدّث عن أهمية الغيتار في التراث الإسباني، عن الفلامينكو، وعن الموسيقى الإسبانية الأندلسية المتأثرة بالشرق والغرب على حدٍّ سواء. عاد الفلامينكو يصدح. موسيقى رقصت على أنغامها عينا شاب وفتاة اختارا وسط القاعة مقعداً لهما. لفها الشاب بيده، شلحت رأسها على كتفه وعندما نظر إليها، ابتسمت وقالت له كلاماً رومانسياً بعينيها الضاحكتين، كانت السولياري soliare. الموسيقى الأندلسية خلفية لروايةٍ خطّت أسطرها عينا هذين العاشقين. تثاءب طفلٌ جلس بين امرأتين في المقعد الأمامي، حضنته من تجلس على يمينه، همهمت كلاماً وهكذا فعلت من جلست على يساره. كأنهما تقنعانه بأن يمدد موعد خلوده إلى الفراش، إلى ما بعد الساعة التاسعة والربع مساءً. يبدو أن الطفل استعان بهدوء موسيقى باكو ليسلم للنعاس. ارتفعت وتيرة العزف، علت الموسيقى وعاد الجنون لينسي ذلك الطفل نعاسه ويسرق نظره ويحوله تجاه باكو. حيث راح يتأمل أنامل هذا الأخير ترقص فلامينكو بين أوتار غيتار أندلسي الصنع والطبع. في الجزء الثاني من الحفلة، وبعد استراحة قصيرة، عاد باكو ليداعب أوتار غيتاره. فرقصت يداه. أومأ برأسه انسجاماً. وعاشت تفاصيل جسده نوتات موسيقى تغلغلت في روحه منذ كان صغيراً يدرس هذه اللغة الراقية مع أخيه."هذا الوتر طباعه إسبانية أصيلة"قال باكو مع ابتسامةٍ عندما أبى الوتر أن يُطيع أوامره. ضحك الجمهور، صفق، ثم صمت احتراماً للمعزوفة التالية. موسيقى رومانسية شغوفة راقّية، أدخلت رجلاً ستينياً في عالمٍ جميل لم تعكّر صفو هدوئه إلا أصوات أبواق سيارات الأجرة في شارع الحمرا في بيروت. انتهت الحفلة بتصفيق ملتهب ضغط على باكو وأعاده لعزف مقطوعةٍ أخرى، قبل أن يغادر نهائياً. كانت حفلة باكو بينا قطعة من ذلك المشهد الفسيفسائي الثقافي الكبير الذي يسعى القيمون على مهرجان البستان الى إيصاله. على أمل أن تكتمل الفسيفساء الثقافية ويبقى مهرجان البستان كما كان منذ تأسيسه عام 1994 دافعاً لإحياء الحياة الثقافية في بلدٍ عانى وما زال يعاني... انتهى العرض وعاد كلٌّ إلى روتينه حاملاً معه حلم حب الحياة بكرامة وثقافة.