تميّز مهرجان البستان للموسيقى هذه السنة بحضور عدد ملحوظ من الرسميين اللبنانيين في افتتاح نشاطاته مساء أول من أمس. وهذا لا يعني أن الرسميين لم يحضروا الافتتاح أو غيره من الحفلات في السنوات الفائتة. بل على عكس، كانوا دائماً موجودين، إنما سواسية مع بقية أفراد الجمهور، إن لم نقل إنهم كانوا يذوبون منضوين في الجوّ العام بلا طبل ولا زمر كما يقول المثل. وكان ذلك مناسباً ولائقاً بهم وبالمهرجان الذي لطالما اعتبرناه واحة تمدن ورقي، تحولت في العقدين الأخيرين الى جزيرة شبه مستقلة عن الهبوط العام الذي يسود المنطقة في كل المجالات وعلى رأسها الفنون. إلا أن «بستان 2012» لم ينجُ من مبالغات أمنية تشهدها أماكن حضور الرسميين أينما حلّوا، فكان المشهد المحيط بفندق البستان وصولاً الى مدخله «مدججاً» بالجنود ورجال الأمن، ما غيّر مناخ الرقيّ العتيد الى فوضى محروسة، ضحاياها «الجمهور العادي» الذين أجبر أفراده على ركن سياراتهم بعيداً من الأمكنة المخصصة لها، وخضعوا للتفتيش «والدسدسة» كأنهم مسافرون على خطوط جوية مهددةّ! لم تكن تلك التدابير المضخّمة لائقة شكلاً ومضموناً، بل كان من الأفضل والأكثر لياقة ولباقة أن يهبط الرسميون من عليائهم ويتخلّوا عن «مهرجانهم الأمني» ويؤموا الفضاء الإبداعي بتواضع حضاري، فيبقى «أمنهم» مستوراً من التذمّر والتأفف، ومن الضيق الذي سببوه للجمهور، ناهيك بالتغيير الذي طاول مناخ المهرجان وخدش ذاكرة رواده بحجة الحفاظ على أرواحهم العزيزة. لحسن الحظ إن فرقة «باكو بينيا» تمكنت من إعادة الحق الى أصحابه ورممت اللوحة المضطربة بقيثاراتها وطبولها وراقصيها الذين خطفوا أنفاسنا طوال ساعتين تقريباً. في المقطع الأول استمعنا الى صياغة تصعيدية استهلها بينيا بعزف منفرد على الغيتار قبل أن تترقرق بقية الوتريات الى المساهمة في مقطع آخر وضع الجمهور في حال التهيؤ لدخول عالم جديد، وشحذ فيه الفضول لما سيأتي. وجاءت هذه التوطئة لتوطد مناخاً صارماً خالياً من كل أنواع البهرجة والتجميل في العزف والأداء المشهدي، فكأن بينيا يقول للحضور: ما ينتظركم هو فن خالص لا إغراء سهلاً فيه ولا خدع بصرية». المسرح فارغ إلا من الآلات الموسيقية، والموسيقيون شكلوا نصف دائرة تسمح في وسطها بدخول وخروج الراقصين. وحدها الإضاءة كتبت بلغة مختصرة مراحل العرض. للمرة الرابعة يأتي باكو بينيا الى مهرجان البستان اللبناني، وهو أحد أشهر معلّمي العزف على الغيتار الأسباني وواحد من قلة طوروا الفلامنكو عبر تلقيحه بامتدادات جذوره الضاربة بعيداً من قرطبة الأندلسية ومدارسها الشهيرة، وصولاً الى أميركا اللاتينية خصوصاً فنزويلا وكوبا. ويؤكد بينيا ضرورة إعادة شحن الفنون الفولكلورية بمؤثراتها وتفاعلها التاريخي لئلا تبقى أسيرة التكرار والإعادة أو تتحول إلى مجرد جاذب سياحي ترفيهي خال من المضمون. كان بينيا في الثانية عشرة من عمره حين عزف منفرداً امام جمهور قرطبة. الا ان انفتاحه على العالم بدأ أواسط ستينات القرن المنصرم، حين انتقل الى لندن ليعمل في أحد أشهر مطاعم منطقة كوفنت غاردن السياحية، حيث لفت انتباه الجمهور والنقاد على السواء ما افسح له المجال للمشاركة في عرض لجيمي هندريكس على مسرح ويغمور هول. مذاك بدأ يجوب العالم عازفاً منفرداً ومشاركاً في فرق الطليعة آنذاك. وحاز باكو بينيا أعلى مراتب التقدير الملكي في اسبانيا وأسس في روتردام معهداً جامعياً هو الأول من نوعه في العالم لدراسة الغيتار، ثم أسس المهرجان السنوي للغيتار في قرطبة وجعل من فرقته نموذجاً للجودة والجدية في التعاطي مع الفلامنكو لتطويره وإثرائه. هذه الخلفية المختصرة أفصحت عن مخزونها الغنيّ في افتتاح المهرجان التاسع عشر للموسيقى على مسرح إميل بستاني مساء أول من أمس، إذ أذهل بينيا جمهوره، وأحلّ فيه نشوة فوّارة بما قدمه وفرقته من أناشيد ورقصات ذات قوة وتأثير وحرفية عالية. بل تعرّف الجمهور، الذي اعتاد النوع الترفيهي للفلامنكو، الى معنى تخزين الطاقة الإبداعية وتسييرها بالحركة الموقعة والسيطرة المتينة كي تتحول لغة متكاملة تحاكي العواطف والأحاسيس وتفضي بالجمهور الى تورط حسي عميق في كل لفتة وكل خبطة قدم. هكذا يصبح الرقص أداة تواصل تتخطى أبجدية الفولكلور المحدودة الى محاكاة وجدانية تبقى تردداتها مستمرة في كيان الجمهور لفترات أطول بعد إسدال الستار. وسيشهد «البستان» مزيداً من الرقص في دورته الحالية، مع فرقة دلفوس المكسيكية للرقص المعاصر في 4 آذار (مارس) المقبل، وفرقة تانغو ميتروبوليس الأرجنتينية في 17 و18 منه، وفرقة ماراكا لرقص السالسا في 27 و28 من الشهر نفسه.