خيري شلبي واحد من أبرز عتاة السرد العربي في مصر، وأشدهم تجذراً في التربية الوطنية، يمتص رحيق الحياة في القرى والمدن الصغيرة والبؤر المهمشة ليرسم بها لوحات فاتنة تنطق بالنضرة والحيوية. تمرس في تحويل العناصر الصمّاء من الأمكنة والأشياء إلى كائنات مفعمة بالشذى واللون والرنين، ذات ألفة آسرة بتحنانها الرقيق، مما يضاعف بهجة الإنسان المخالط لها، ويزيده حياة كما تمرس في كتابته الصحافية بلون متميز من رسم الصور الشخصية"البورتريهات"المجسدة، فأترع كلماته بالقيم الجمالية التشكيلية لكن تظل السمة المائزة لإبداع خيري شلبي هي تلك النكهة"الشعبوية"الحادة التي تفوح في كتاباته، إذ لا يمارس حكياً شعبياً مألوفاً في قصصه، بل يزيد من"خميرة"الحواديت الأدبية ليرتفع بها إلى مستوى شعري مدهش إنه واحد من السلالة النبيلة لرواة"ألف ليلة وليلة"الذين يعيدون إنتاجها في أشكال جديدة كل يوم وليلة. ومع أنه ما زال يزحف نحو السبعين من عمره، فإنه يبدو أعرق من ذلك بكثير، خصوصاً وقد أصدر حتى الآن حوالى سبعين كتاباً متنوعاً قوامها السرديات الأصيلة والروايات الفنية، بعضها بدأ يعرف طريقه إلى الترجمة وإن كان ذلك متأخراً في شكل واضح، فهو لا يحسن تسويق إنتاجه بين الأجانب ولعل روايته الأخيرة"نعناع الجناين"تشي ببعض ملامح إبداعه الخصب، فهو يعود فيها إلى جذوره الضاربة في طين الدلتا المصرية ليغسل عنها صدأ النسيان، ويعيد اكتشاف مخزونها الإنساني والفلكلوري النبيل، بحذق ومهارة. شراكة المرجعية ولأنني أنتمي إلى مجموعة القرى التي شب فيها الكاتب، فقد حاول توريطي في التعاطف معه عندما كتب في إهدائها إليّ:"إلى الذي لولا هموم الأستاذية وما تحتاجه من جهد لكان هو كاتب هذه الرواية إنها متاعنا معاً. لكنني لسوء حظي لا أنتمي الى هذه السلالة الذهبية من الرواة الحكائين الكبار، أعرف مناجم الذهب التي يمتحون منها، ولا أملك سوى الاحتفاظ بالمسافة النقدية التي تحميني من الذوبان في الانبهار بمهاراتهم السحرية بيد أن إعجابي بقدرة خيري شلبي على تحويل المواد المبتذلة إلى سبائك ثمينة يزداد كلما قرأت له عملاً جديداً، فطالما خامرني شعور بأن الريف المصري لم يظفر بعبقري بعد عبدالرحمن الشرقاوي يصون أصداءه من الاندثار مثلما فعل نجيب محفوظ مع ظلال فتوات قاهرته المجيدة وعندما وجدت خيري شلبي يبعث حيوات"المواوين"في هذه الرواية شعرت بسعادة حقيقية، لا تعود الى أنانية قروية تطهرت منها منذ زمن، بل تعود إلى إدراك ما في هذا التراث الخلاق للقرية من عناصر عربية ضاربة في أعماق الوجدان. فالمواوي - كما يشرح الكاتب -"لون من المداحين الجوالين في القرى للتكسب بحلاوة حسّهم، أو لباقتهم ودربتهم على ضرب الدفوف والعزف على الأرغول والسلامية غير أنهم ليسوا متخصصين في مدح الرسول بل في مدح أعيان البلاد، الواحد منهم موهوب في سرعة البديهة وملكة النظم وسليقة السجع وزخرفة العبارات وقوة الذاكرة قبل أن يهبط إلى بلد يستطلع أسماء أعيانها ويجري تحرياته الذكية عن أشهر مناقبهم وأوصافهم وأعمالهم الخيرية، فإن لم تكن لهم مناقب ألف ما يناسبهم من هذه الأعمال، يتخذ طريقه مع حاشية من عياله أو صبيانه الذين يحبون المهنة والمدربين على حفظ أو اختراع العبارات والمسكوكات اللغوية وإعادة ملئها بأسماء جديدة يقف المداح أمام الدار وفي الحال يتكون حوله سامر من الأطفال المنبهرين على الدوام، سرعان ما تدب البهجة بمجرد انطلاق الطبلة والدف والأرغول، وتفتح الشبابيك وتخطر النسوان فوق الأسطح ينظرن على استحياء ، تلك مقدمة موسيقية فحسب يخفت صوتها شيئاً فشيئاً ليصعد صوت المداح مجلجلاً... وهو الذي يسمى"المواوي"ومعناه الذي يوأوئ. ذلك أن حرف الواو قاسم مشترك في كل عباراته ومسكوكاته الشعرية" ثم لا يلبث الكاتب بعد أن يصف هذه الطقوس التي اندثرت في العقود الأخيرة أن يعرّج على مجالس السمر العائلي، المنقرضة بدورها بفعل التلفزيون، وما كان يتفجر فيها من حكايات وغرائب"بعشوائية حميمة ساحرة، وإن ضقنا أحياناً لقطعها تدفق الحديث عند نقطة غير مقصودة، بسؤال من طفل أو بكلمة عابرة من أحد الجالسين، بذكر حادثة أو نادرة سرعان ما تستدعي مثيلات لها أكثر عمقاً وطرافة. هذه الذكريات المتفجرة في تلقائية أقنعتني منذ الصغر بأنها أدق منفذ لمعرفة الحقيقة الحقيقية، كما أنها تحدث ما يشبه اللغط الثقافي الذي تعلق آثاره المفيدة في أذهان الحضور، فتصيبهم جميعاً بعدوى اللباقة وسبك الكلام والقدرة على انتقاد المفردات". ترى هل يصف لنا خيري شلبي في هذه العبارات مصادر تكوينه الإبداعي وطبيعته العشوائية العصامية، وأثر ذلك في امتلاك اللغة السردية الشيقة؟ اختراقات السرد يحكي صوت الرواية قصة طفولته في قرية يطلق عليها اسم"الضبعة"على لسان غلام ذكي في مرحلته الابتدائية، مفتون بعمه الناظر"أبو السعود أفندي"أول من لبس بدلة تفصيل مخصوصة في القرية كلها، لكنه لا يلبث أن يتجاوز منظور هذا الراوي المحدود في أفقه، لينفذ إلى تاريخ الأشخاص والعائلات والأماكن، ليمسك بعصب الحياة بإمكانات وصفية مذهلة، تحتوي على أعماق الكائنات والأشياء، بما لا يمكن أن يتسق مع منظور الصبي الراوي الذي يطل علينا من حين الى آخر قبل أن ينداح في خضم السرد لكن ولع الكاتب بالتوصيف التفصيلي لأدوات الحياة اليومية ومشاهدها المحفورة في ذاكرة الأمكنة يسوقه إلى لون من الركود القصصي لا تخفت منه سوى دقة عين الصقر التي يرصد بها التفاصيل الثابتة بنوع من المسح الفلكلوري الممتع. لنضرب مثلاً على ذلك قائمة الأثاث أو"الشوار"الذي يتعين على العروس القروية أن تسوقه إلى بيت عريسها في اليوم السابق على الزفاف أو"الدُّخلة"، حيث يعتمد على"السرير ذي العمدان والناموسية، ومرتبة ولحاف ومخدتين وبوريه عبارة عن طوابق عدة من أدراج عرضية وعلى سطحه رخامة ومرآة بعرضه إن كان مستوى العروسين ميسوراً، وعلى المرتبة فحسب مع اللحاف والمخدتين فوق حصير مع صندوق بغطاء جملون مقوّس على الشكل الفرعوني وعند زواج عمي أبو السعود كان نظام الدواليب بدأ ينتشر لدى طبقة الأفندية وأبناء الطبقة المتوسطة الزراعية بوجه عام، باعتباره الأنسب لتعليق البدل والفساتين محتفظة برونقها"ثم يأخذ في الوصف التفصيلي لشوار زوجة عمه بما يعتبر وثيقة اجتماعية تفيد في رصد العادات الريفية بصورها التشكيلية والحياتية الباذخة. الصندوق الرمز سرعان ما ندرك علاقة هذه الأوصاف الحميمة بالحدث المحوري في الرواية، فإلى جانب المشاهد العائلية والطرائف القروية في الجد والهزل، والنماذج الغريبة للأعمى المنادي وصور النساء الجالسات في مجموعات النميمة وتبادل المعلومات والنكات، ومع شبكة العلاقات العائلية والمهنية والنفعية، هناك حدث محوري يضم هذا الشتات السردي في بؤرة جامعة إلى حد ما، هو اختفاء صندوق المجوهرات الذي أهدته آخر أميرات أسرة محمد علي، التي تقع القرية على تخوم أملاكها وحدائقها، إلى أختها في الرضاع"تفيدة"عندما تزوجت"أبو السعود أفندي"- هذا الصندوق يسمى"الشكمجية"وهو على ما يصف الراوي تحفة ملكية ثمينة مبهرة، مصنوع من أرقى أنواع خشب الجوز أو ما شابه، مبطن من الداخل بالذهب الإبريز، ومطعّم من الخارج بأحجار كريمة من الدر والياقوت والزبرجد والعقيق والكهرمان..."هذه الفصوص ذات الأحجام والأشكال والألوان كانت تبدو كحديقة من الألوان المبهجة يشعر من يشاهدها كأن أصالتها قد انتقلت إليه. ولصفاء نفس الأميرة وجمال روحها أرادت أن تضفي على هديتها قيمة تاريخية تشرف"تفيدة"بين الناس، فأوصت أحد جواهرجية العائلة العلوية بأن يحفر في باطن الصندوق إهداء إليها بالاسم ثم وقعت بإمضائها كنوع من التوثيق"وعندما يسرق هذا الصندوق ويغيب زمناً قبل أن يتم اكتشافه تكون"قد عبثت به أسلحة المطاوي والسكاكين والمفكّات والكماشات - لاحظ توالي الواوات في محاولات فاشلة لخلع الفصوص الثمينة من تعشيقاتها، فأزيل بعضها وانكسر البعض الآخر وتغلق الخشب في شروخ خفية كالعاهات". وإذا كان هذا الصندوق يرمز للوهلة الأولى الى أحلام الطفولة القروية في العثور على الكنز المخبأ والتنعم بالمجد والثروة كما يرد في"ألف ليلة وليلة"، وهي أحلام قارّة في أعمق طبقات الوجدان الشعبي المصري على مر العصور منذ كنوز الفراعنة حتى اليوم، فإن ملابسات اكتشافه في الرواية وتجلي الحقيقة المذهلة في من سرقه ومن شارك في تبديد محتوياته تضعنا أمام دلالة أخرى رمزية شديدة القسوة يكشفها الكاتب بنفسه من دون أن يتركها لذكاء القارئ تماماً كما يفعل القصص الشعبي، فعندما تتبين"تفيدة"من تحقيقات الشرطة أن أمها هي التي سرقت الصندوق، ثم لم تلبث أن باعت محتوياته، وأن عدداً من الجرائم والمطاردات قد ارتكب بين أقربائها أنفسهم للاستئثار به، تقرر التنازل عن حقها وتطلب حفظ التحقيق، لأنها كما تقول في الرواية"لسنا أهلاً لصيانة أي تاريخ، لأنه يفرض عليّ أن أبقى مدى الحياة مجرد حارسة له، وألاقيه مشمئزاً من دولابي الذي وضعت فيه، ومن اليد التي قد تخربشه ألاقيني مذعورة من العين التي ستحسدني عليه، من النفوس الخسيسة التي تسعى لسرقته، طالما الصندوق عندنا فالشيطان في دارنا". هذه الحكمة الأخيرة الجديرة بفصل من فصول"ألف ليلة وليلة"يعلم الجمهور الزهد في طموحهم إلى اقتناء مملكات السادة يضعها خيري شلبي ختاما لپ"نعناع الجناين"، فينثر علينا رذاذاً منعشاً من عطرها، ويضفي على سرديته لوناً من التشويق شبه البوليسي، يخفف قليلاً ما اعتراها من بطء الإيقاع، من دون أن يفقدها جمال التكوين وحلاوة العبارة، ونضرة اللوحات الوصفية البديعة.