خالد عبدالرحمن ل«عكاظ»: جمعنا أكثر من 10 قصائد وننوي طرح ألبومين سامريات    النفط يقفز 3%    البرلمان الألماني يبحث الأربعاء تفشي الحمى القلاعية في البلاد    قوة نمو الوظائف الأمريكية تزيد الشكوك إزاء خفض الفائدة مجددا    أمريكا وبريطانيا توسعان عقوبات كاسحة على صناعة النفط الروسية    البيت الأبيض: بايدن سيوجّه خطابا وداعيا إلى الأمة الأربعاء    الإعاقة.. في عيون الوطن    القائد الذي ألهمنا وأعاد لنا الثقة بأنفسنا    ابعد عن الشر وغني له    فريق جامعة الملك عبدالعزيز يتوّج بلقب بطولة كرة السلة للجامعات    أمين الطائف هدفنا بالأمانة الانتقال بالمشاركة المجتمعية للاحترافية    العروبة يتعاقد مع العراقي عدنان حمد لقيادة الفريق فنيّاً    هاو لم يفقد الأمل في بقاء دوبرافكا مع نيوكاسل    مهاجم الأهلي: قدمنا مباراة كبيرة واستحقينا الفوز على الشباب    رئيس مصر: بلادنا تعاني من حالة فقر مائي    ما بين الجمال والأذية.. العدار تزهر بألوانها الوردية    "لوريل ريفر"، "سييرا ليون"، و"رومانتيك واريور" مرشحون لشرف الفوز بلقب السباق الأغلى في العالم    ضبط يمني في مكة لترويجه (11,968) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي    «الغذاء والدواء» تحذّر من منتج لحم بقري لتلوثه ببكتيريا اللستيريا    «سلمان للإغاثة» يوزّع 2.910 من السلال الغذائية والحقائب الصحية في حلب    مجموعة stc تمكّن المكفوفين من عيش أجواء كرة القدم خلال بطولة كأس السوبر الإسباني    بالشرقية .. جمعية الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم"    لاعب الشباب يغيب عن مواجهة الأهلي لأسباب عائلية    ملتقى الشعر السادس بجازان يختتم فعالياته ب 3 أمسيات شعرية    الشيخ طلال خواجي يحتفل بزواج ابن أخيه النقيب عز    عبرت عن صدمتها.. حرائق كاليفورنيا تحطم قلب باريس هيلتون    «حرس الحدود» بعسير ينقذ طفلاً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    أنشيلوتي يبدي إعجابه بالجماهير.. ومدرب مايوركا يعترف: واجهنا فريقًا كبيرًا    مزايا جديدة للمستوردين والمصدرين في "المشغل الاقتصادي السعودي المعتمد"    جوزيف عون يرسم خارطة سياسية جديدة للبنان    خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الأحاديث الموضوعة والبدع المتعلقة بشهر رجب    "الزكاة والضريبة والجمارك" تُحبط محاولتي تهريب أكثر من 6 كيلوجرام من "الشبو"    لإنهاء حرب أوكرانيا.. ترمب يكشف عن لقاء قريب مع بوتين    فن الكسل محاربة التقاليع وتذوق سائر الفنون    «عباقرة التوحد»..    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    الصداع مؤشر لحالات مرضية متعددة    5 طرق سهلة لحرق دهون البطن في الشتاء    ماذا بعد دورة الخليج؟    الحمار في السياسة والرياضة؟!    وزارة الثقافة تُطلق مسابقة «عدسة وحرفة»    كُن مرشدَ نفسك    سوريا بعد الحرب: سبع خطوات نحو السلام والاستقرار    أسرار الجهاز الهضمي    المقدس البشري    الرياض تستضيف الاجتماع الوزاري الدولي الرابع للوزراء المعنيين بشؤون التعدين    جانب مظلم للعمل الرقمي يربط الموظف بعمله باستمرار    الألعاب الشعبية.. تراث بنكهة الألفة والترفيه    أفضل الوجبات الصحية في 2025    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية ال8 لمساعدة الشعب السوري    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    ولي العهد عنوان المجد    أمير المدينة يرعى المسابقة القرآنية    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هوامش للكتابة - تعارضات حدية
نشر في الحياة يوم 25 - 07 - 2001

تفرض وظيفة الأمثولة طبيعة بنيتها في رواية "المهدي" لعبد الحكيم قاسم، خصوصاً من الزاوية التي تنبني بها الرواية على تعارضات متوازية، هي بمثابة لُحْمَة البناء السردي وسُدَاه. وأبرز هذه التعارضات ثلاثة. يتصل أولهما بطريقين متقابلين في فهم الدين وتأويله بما ينعكس على أفعال الممارسة الحياتية. ويرتبط ثانيها بالعلاقة بين المجموعة الدينية الضاغطة اجتماعياً وسياسياً من ناحية وممثل الدولة أو السلطة السياسية الفاسدة من ناحية مقابلة. ويقترن ثالثها بالتعارض الحدِّي بين المثقف المدني داعية تحديث المجتمع والدولة والمثقف الديني داعية الدولة الدينية القائمة على التعصب للمذهب أو التأويل المختار من مجموعة بعينها.
أما التعارض الأول فهو تعارض جماعة "إخوان الطريق" التي اتخذت ما يمكن تسميته بالتصوف العملي الشعبي طريقاً للحفاظ على دينها، وتحويل هذا الدين إلى فضاء لا محدود من الرحمة والتكافل والتسامح والتواضع وقبول المختلف، وذلك مقابل جماعة "الإخوان المسلمين" التي يبدو من سلوك المشرفين على شعبتها في "محلة الجياد" أنها اتخذت طريق الاتّباع والانضباط ورفض الاختلاف والحرص على المظاهر الشكلية سبيلاً للحفاظ على وحدة الجماعة. ونرى هذا التعارض ممثلاً في نظرة كل من الجماعتين إلى الأخرى، والسلوك العملي لكل واحدة منهما في القص، ومن ثم موقف كل منهما من "المعلم عوض الله" الذي أسهم واحد من الجماعة الأولى - إخوان الطريق - في توريطه - بحسن نية - مع الجماعة الثانية.
أما أعضاء جماعة "إخوان الطريق" فإنهم يعرفون أنفسهم - على لسان شيخهم - بأنهم معشر شيمهم الانكسار، وشعارهم قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين". وهم يرون أن الله قسّم الأفعال، وخليق بالعبد أن يختار أقلها جَلَبَةً، كي يعم السلام ولا يؤرق القلوب الفزع. وطبيعي أن يختلف فهم هذه الجماعة للدين وتأويلها له عن الجماعة المقابلة، خصوصاً بعد أن رأوا أن أعضاءها يختارون الجلبة، ولا يطيقون المخالفة، ويؤرقون القلوب بالفزع، ولا ينتابهم الشك في تأويلاتهم الدينية، ولا يميلون إلى طرح الأسئلة، ويسارعون إلى اتهام مخالفيهم في دينهم، كأنهم وحدهم الفئة المهتدية، الناجية، وغيرهم من الممزقين الحائرين الذين ينتسبون إلى الفئة الضالة.
والمسارعة إلى الاتهام واضحة في الخطاب الذي يستخدمه "الأخ طلعت" وأتباعه. وهي تتجلى على نحو خاص في اللقاء الذي يتم بين هذا الأخ وعلي أفندي الذي كان عائداً ذات مساء من ليلة الحضرة مع إخوان الطريق عند الشيخ سيد الحصري. وبعد أن رد علي أفندي السلام، قال له طلعت: أود لو تناديني بالأخ فهذا أقرب إلى القلب، ودعاه إلى أن يتردد على شعبة الإخوان، تلويحاً له بالانضمام إلىهم، فشكره علي أفندي، مؤكداً له على سبيل المجاملة أن الشعبة في قلوبهم جميعاً، لكنهم معشر يؤثرون الاجتماع حول دلائل الخيرات وبردة الأباصيري، فيعاجله طلعت بالقول: قرآن الله أولى وأنفع. وعندما يرد علي أفندي بأن كل كلمة طيبة فيها نفس من أنفاس الله، تأتي الإجابة الحاسمة التي تدين "هلوسة الدراويش" الذين لا يمكن أن يكونوا أولىاء لله وعترة لرسوله، وأن القول بذلك "وثنية". ويأمر طلعت علي أفندي بشكل تعلىمي: اقرأ قرآناً، فيرد علىه علي أفندي مستنكراً الأسلوب الأمري بقوله: إنني أملأ قلبي حباً.
هذا المنطق الحدّي الذي لا يعرف إلا النقائض المتعادية هو السبب الذي يترتب علىه الخطاب الجهوري الذي يجذب انتباه البسطاء، ويشدهم إلى أبناء جماعة "الإخوان" الذين يصفهم سعيد - أخو طلعت - بأنهم فتية آمنوا بربهم، رهبان بالليل فرسان بالنهار. لكنهم على رغم ذلك كله لا يرون سوى وجه واحد للحقيقة، وتأويل واحد للنص الديني، وحرص كامل على المظهر الشكلي. هكذا، علّقوا اهتماماً كبيراً على إشهار إسلام عوض الله، ودعوا أقرانهم من كل حدب وصوب، وأحالوا أنفاس البلد إلى أنفاس زاخمة بصخب وعنف لا حدود لهما، وأخذوا يركلون الأرض بأقدامهم ويملأون الدنيا ببحّات صدورهم، الأمر الذي رآه قطب الجماعة المقابلة بمثابة ذعر يسقط الفرائض عن المكلَّفين، وبمثابة عنف مزلزل يقضي على إمكان الإيقاع المتحدر الهامس للأرواح السمحة.
ولذلك يتصاعد توتر الشيخ سيد الحصري عندما تقلب جماعة الأخ طلعت الدنيا احتفالاً ببر أهل الذمة، واستئلاف قلوبهم للإسلام في شخص المعلم عوض الله، خصوصاً بعد أن أطاح صخب الاحتفال بهدوء الحضرة، فيقول: "هذا الصخب الشديد يثقل على القلب ويطمس البصيرة، لا يستطيع الإنسان أن يرى ما وراءه من الخير". وعندما يجيبه علي أفندي بأنه صخب "جمع يتلى فيه القرآن" يجيبه الشيخ سيد الحصري ممتلئاً بالاقتناع: "هذا الصخب ينفي الحكمة عن القراءة، وهذا العنف فيه مظنّة الإكراه". وتفاجئ الكلمة علي أفندي، وتضعه على نحو مباشر موضع الاتهام لأنه هو الذي أسلم المعلم عوض الله للأخ طلعت المشرف على شعبة الإخوان في "محلة الجياد". فيسأل الشيخ سيد عن مقصده، ويأتيه صوت الشيخ الهادئ الذي لم يكن أبداً هكذا حاسماً قاطعاً: "نعم يا أخي، أجد في هذا الصخب الإكراه، بل إنني أجده حينما تقرئ أخاك السلام بصوت أعلى مما يكفي لإسماعه ولبيان قصدك إلىه. أجده حينما يلقى الواحد بدعوته على ضيفه حتى يوقعه في الحياء ويحوشه عن التأبي، أجده حينما يسرف المخطئ في الاعتذار عن فعله فيخجل المتأذى من إظهار وجعه. في هذه المواضع أجد الإكراه، وأجد في الناس ناساً ضعافاً يقعون في العذاب" ص45.
وعندما يرد علي أفندي على ذلك بأن المعلم عوض الله لم يُكره على شيء، وإنما اختار الإسلام طواعية، تأتي إجابة الشيخ سيد بصوته المتهدج بأن هذا كله إكراه حتى لو كان غير مباشر، وأنه "يجد سكة العبد للصلاح في رب يعرفه ويرتضيه ويحبه". ويؤكد كلامه بتكراره، كي يثبت المعنى المقصود في الأذهان، لكنه لا يمضي في المناقشة طويلاً، بل يوقفها بإعلانه عجزه عن المعرفة الىقينية، ويطلب من إخوانه قراءة الفاتحة، كي ينور الله بصائرهم، خصوصاً بعد أن تشابهت الأشياء. وينفرط عقد جماعة إخوان الطريق، ويمضي كل واحد منهم إلى طريق، يحمل حظه من كآبة المسار الذي يطلق برودة الخوف في العظام.
ويفتح الحوار بين علي أفندي والشيخ الحصري أبواب الشك على مصاريعها في وعي الأول، فيدرك الخطأ القاتل الذي أوقع نفسه فيه، عندما أسلم الرجل المسكين إلى "الأخ طلعت" ليفعل ما فعل، ويعترف للشيخ سيد بأنه واقع في العذاب لأنه أسلم ضيفه وأنه لو صلى الدهر كله فلن يغفر له الله ذنبه. ويوافقه الشيخ سيد الحصري بصوت باك: "نعم.. نعم.. لقد أسلمنا الرجل، كلنا فعل هذا يا علي أفندي... أسلمنا لهم الرجل، والآن لا قبل لنا بهياجهم العظيم". ومشيا ساكنين ينشدان قرية أخرى يصليان فيها الجمعة، بعد أن أدرك الشيخ سيد الحصري أن القرية لن تصلي الجمعة الىوم، بل تقيم مندبة هائلة لسبب لا يعلمه إلا الله، وأن الضجة التي يشارك فيها الجميع "تنفي عن الصلاة حكمة العبادة" وما هم بالذين يشاركون فيها.
أما التعارض الثاني فهو بين جماعة الإخوان المسلمين ممثلة في شعبة "محلة الجياد" وعمدة القرية الذي يمثل الدولة وسلطتها. ومنذ البداية نرى العمدة عاجزاً عن أي عمل في مواجهة سطوة شعبة الإخوان التي سيطرت على كل شيء، والتي بررت سيطرتها بأنها تتولى تنفيذ كتاب الله وسنة رسوله. ولذلك تتخذ العلاقة بين العمدة والشعبة شكل اتفاق مضمر لا يخلو من تواطؤ. يترك لها العمدة الحبل على الغارب فيما يتصل بالنفوذ الديني على الناس، ما دامت تتركه في حاله، ولا تنازعه سلطاته الإدارية على الناس. والشعبة، بدورها، تترك للعمدة دائرته التي يتحرك فيها، ما دام لا يتعرض لها، أو يهدّد نفوذها.
وكان هذا الاتفاق الذي لا يخلو من تواطؤ ينطوي على كراهة متأصلة يكنّها كل طرف للطرف الذي يقابله من دون أن يظهرها، لكنها موجودة في المسكوت عنه من الخطاب المتبادل بينهما. ولذلك يستقبل العمدة "الأخ" طلعت مسؤول الشعبة وعلي أفندي كاتب المجلس القروي بعدم حماسة، ويعطيهما يداً رخوة للسلام وهو جالس. ويوافق على طلبهما أن يمنح الرجل الذي استألفوا قلبه للإسلام بيتاً صغيراً اشتراه بثمن بخس بعد أن ماتت صاحبته بلا وريث. ويسمع من دون مبالاة إلى مباهاة طلعت بأن الشعبة اهتمت بالرجل، فالمسلمون مأمورون بالحدب على أهل الذمة واستئلاف قلوبهم للإسلام، مؤكداً أن جماعته قامت بحركة شاملة تهدف إلى حضّ الناس على إصلاح شماسيهم عند الرجل، أو شراء شماسٍ جديدة منه، وأنهم تولوا تحديد الأسعار فلا وكس ولا شطط، وأن ثمة حركة شاملة لجمع التبرعات من النقود أو الحبوب أو الملابس وإحصائها وتصنيفها وتسليمها للرجل الذي أصبح شغلهم الشاغل ومثار البلدة جميعاً.
وعندما توقف طلعت عن الكلام لاهثاً، نظر إلىه العمدة شارداً، ولم يستطع سوى أن يسخر منه بينه وبين نفسه: "قبطي صانع شماسٍ... رجل من أهل الذمة يراد تأليف قلبه للإسلام... الشعبة والمجلس القروي والبلدة جميعها.. أي فأر سقط من السقف.. يلهون به، حتى ينفث الدم من أنفه.. أو يلبسونه رداء الجوالة ويسوقونه عاري الركبتين.. هاتفاً الله أكبر". ويتخلص منهما بأن يأمر بتحرير عقد إيجار للدار بثلاثين قرشاً شهرياً باسم علي أفندي، ومخالصة عن إيجار ثلاثة أشهر. وبعد أن يخرج الاثنان من عنده، ينظر في أعقابهما بمقت شديد متمتماً: "الناس لا تطيق المخالفة.. ولو كان واحدًا في أربعين ألفاً.. هذا رهيب".
ولا ينقطع صوت العمدة عند هذا الحد، فنراه ونسمعه مرة أخرى، لحظة مرور موكب الشيخ عوض الله المهدي أمام دار العمدة، يعاني شعوره بالعجز الذي يعالجه بالسكر، قائلاً لنفسه بصوت هامس: "أي حريق ضخم أو وباء هائل أو مقتلة عظيمة أو زلزال مدمر ينبغي أن يكون حتى يقف هؤلاء الناس، وينظروا حولهم، يجمعون صامتين ما تخلف عن الهول، ثم يبدأون من جديد، أقل صخباً، أكثر حزناً وبساطة وحكمة".
وتلك عبارات حكيمة من ممثل الدولة في القرية، لكنها في الوقت نفسه كاشفة عن عجزه عن فعل أي شيء وانسحابه من المشهد إلى توحّده وسكره، واستغراقه في نزواته الذاتية ومطارداته النسائية، كأنه الوجه الآخر من العملة نفسها في العلاقة التي تصله دلالىاً بإخوان الطريق، في توازيات السرد، أولئك الذين لم يختلفوا عنه في النهاية، فقد كانوا مثله، عاجزين عن فعل شيء لمواجهة المدّ الصاخب القاهر للعنف المتصاعد لأبناء الشعبة. ولذلك انسحب الشيخ سيد وعلي أفندي إلى عالمهما الصوفي الذاتي، وذلك في موازاة انسحاب العمدة إلى عالم الخمر والسكر والجنس، غارقاً في هاوية الىأس التي تمنح الإنسان الراحة التي يمنحها للإنسان الموت، في ما يقول العمدة لنفسه.
أما التعارض الثالث فهو التعارض بين المثقف المدني عبدالعزيز والمثقف الديني طلعت. وهو التعارض بين داعية الدولة المدنية الذي يفترض فيه الدفاع عنها وحمايتها وداعية الدولة الدينية الذي لا يكف عن العمل من أجل إيجادها، وتوسيع دائرة دعوتها، وتعميق الإيمان بها في نفوس الأتباع. ولم يكن من المصادفة أن يلتقي كلا النموذجين في مدرسة ثانوية واحدة في طنطا، كأنهما مجلى أكثر معاصرة من مجلى الأخوين أحمد شوكت وعبد المنعم شوكت الشيوعي/ الإخواني في الجزء الأخير من ثلاثية نجيب محفوظ.
وبالطبع، لأن القص كله من وجهة نظر المثقف المدني عبدالعزيز الذي يلعب دور الراوي في غير موضع من الرواية، فإن المثقف الديني نراه من منظوره الخاص، مرسوماً بالطريقة التي يهوى بها الراوي صوغ نقائضه. ولذلك عرف عبد العزيز الأخ طلعت للمرة الأولى في أحد فصول مدرسة طنطا الثانوية. وربما كان ذلك في الدرس الأول لطلعت في هذه المدرسة. وكان المدرس شرساً عنيفاً، ألقى على طلعت سؤالاً، ووقف هذا ليجيب، هائل الطول عريض الكتفين، يتأتئ ولا يفتح الله علىه بشيء، فاستشاط المدرس غضباً وصفعه صفعة هائلة على وجهه، وارتعب عبدالعزيز الذي نظر إلى وجه طلعت وبسطة كف المدرس مرسومة حمراء على صدغه. واكتمل تعرف عبدالعزيز على طلعت في حلقات الإخوان المسلمين، ولاحظ أنه من أنشط الشبان الإخوان بالمدرسة، وأن الجميع ارتضوه مندوباً، وزكّته الشعبة بعد أن ذهب المندوب القديم إلى الجامعة. وكان هذا آخر عهد عبدالعزيز به بعد أن التحق هو الآخر بالجامعة، وتحول إلى اتجاه مناقض. لكنه ظل يسمع عن النشاط الكبير لطلعت في قرية محلة الجياد، وأن اسمه أصبح على كل لسان، وأنه يجوب القرية ليل نهار منشغلاً بأمور الإخوان.
أما "الإخوان" من وجهة نظر عبدالعزيز، أو الراوي الذي لا يتباعد كثيراً عن عبدالعزيز، فهم جدعان فارعون، غلاظ الأكتاف والرقاب، على جباهم علامة الصلاة مسودة متربة، جلابيبهم نظيفة، وأقدامهم لامعة في المداسات، يتنادون بحضور وترابط وطاعة. يمشون يدكون الأرض، يجهرون بالسلام في حسم عسكري آمر، ويتلقون ردوداً واضحة وقوية، كما لو كانت هناك روح قوية عارمة واثقة تنتظم القلوب. وإذ يقرئ الأخ طلعت الناس السلام فإنما هو يختبر هذه الروح ويحصل في الحال على إقرار واضح قوي بوجودها حوله.
وكما لم يتخذ إخوان الطريقة والعمدة موقفاً إيجابياً من قبل، لم يتخذ المثقف المدني الممثل في عبدالعزيز أي موقف إيجابي، فينسحب من المشهد متعللاً بأنه ضائق النفس، ويذهب إلى المعلم عوض كما لو كان يريد أن يقول له شيئاً، لكن الكلمات احتبست في حلقه. فتركه وهو يقول في نفسه: "إن هذا يجب أن يوقف.. إن هذا يجب أن يوقف". وظل يضرب على غير هدى، يصيح في داخله: "إن عليّ أن أتدخل وأن أوقف هذا بنفسي". وبقي على هذا الحال إلى أن أضاع الوقت في التردد، ولم يستطع فعل شيء عندما قرر اتخاذ موقف إيجابي، فلم يملك سوى أن يقول لنفسه: "ما أبشع أن نصل إلى المعرفة متأخرىن، بعد أن تكون الأشياء قد فسدت وشاهت، ما أبشع هذا وما أمرّ ندمي".
ويوازي تردد عبدالعزيز اندفاع الأجيال الأحدث صوب الداعية الديني، ممثلاً هذه المرة في صبحي الذي ينتمي إلى أسرة تعسة. أبوه سكّير شرس وإخوته مصابون بلين العظام، فيجد خلاصه في الدعوة الدينية. وينجذب إلى سعيد الذي يخطب فيملك مشاعر الناس، ويغدو واحداً من أتباعه، وتأخذ علاقته به منحى حميماً لا يخلو من مشاعر ملتبسة. لكن الدلالة تظل قائمة، في مقابل عجز المثقف المدني، حيث يتصاعد الإقبال على نموذج طلعت أو سعيد، بما يوحي أن ضحايا آخرين لا بد أن يقعوا في تدافع الخطو المتسارع نحو العنف.
ولا يخفى على أي متأمل لتفاعل سياقات كل هذه التعارضات، وما يؤكدها من توازيات إكمالىة، طبيعة الرسالة المضمرة التي تنطوي على الإدانة للجميع: سواء لإخوان الطريق الذين ينغلقون على عالمهم، منسحبين من الميدان، تاركين الصدارة لجماعة العنف، ولحضور الدولة، ممثلة في العمدة الذي لا يعنيه سوى مصلحته الخاصة، والحفاظ على ما تحت يديه، ولا شأن له بأي شيء آخر ما ظل بعيداً من احتمال تهديده. وأخيراً، المثقف المدني المتردد الذي ينتهي به الأمر إلى عدم الفاعلىة. بعبارة أخيرة، تؤكد الرواية مسؤولية كل الأطراف عن تزايد خطى العنف في "محلة الجياد" التي تتحول، في هذا السياق، إلى تمثيل يومئ إلى مصر كلها. ولكن من منظور لا تكتفي القصة فيه بتعرية القمع الديني، والكشف عن آلياته، بل تضيف إلى ذلك الكشف عن الأسباب التي أدت ولا تزال تؤدي إلى تزايده، مبرزة مسؤولية الجميع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.