تشكل وسائل الإعلام المرئية، بخاصة منها التلفزيونية، أحد أهم عناصر الدعاية والتكوين السياسي والثقافي للمواطن. بهذا المعنى يمكن اعتبار التلفزيون من أخطر الأدوات المؤثرة جماهيرياً. تأتي أهميته من اختراقه الحياة اليومية والخاصة للفرد صغيراً كان أم كبيراً، ومن كون جميع المواطنين يتسمرون ساعات أمام شاشاته فيخضعون لتأثيرات ما يصدر عنه شاؤوا أم أبوا. لذلك يكتسب ما هو مسموح أو ممنوع تداوله على الشاشة أهمية ويستوجب وضع قواعد سلوكية تمنع تحول الشاشة الى مصدر خطر سياسي واجتماعي. تلعب وسائل الإعلام دوراً مهماً في نشر الفكر الديموقراطي وتساهم في مقاومة الاستبداد السياسي، من هنا يأتي حق الدفاع عن وجودها وحريتها في التعبير والوصول الى أوسع الفئات. لبنانياً، ساهمت طبيعة النظام السياسي، المتسم بحد واسع من الحريات، في انتشار هذه الأدوات، وتوسعت في ظل الفوضى وانهيار مؤسسات الدولة خلال الحرب الأهلية. تقوننت هذه المؤسسات واتخذت طابعاً طائفياً انسجاماً مع المحاصصة الطائفية الصريحة التي كرسها اتفاق الطائف لمواقع السلطة في البلاد، بما أعطى كل طائفة حصة في الإعلام. يعيش لبنان منذ أشهر عدة صراعاً هو الأعنف من حيث الفرز الطائفي والمذهبي الذي يلفه، والأخطر في تاريخه على وحدته، كياناً ونظاماً. يعبر هذا الصراع عن نفسه بخطاب سياسي فج وممارسة تعكس مواقع الطوائف وتطلعاتها، وتتولى وسائل الإعلام تظهيرها بما يتلاءم والأهداف المحددة لكل طرف. ليس صحيحاً ما يذهب اليه بعض السياسيين أحياناً الى تحميل الإعلام مسؤولية الأزمة السياسية أو الحرب الأهلية وإلقاء عبء ذلك على حريته، لأن الاعلام نتيجة وحصيلة الواقع السياسي السائد ودرجة الاحتقان أو الانفراج الذي يسوده، وتعبير أمني عن الأداء السياسي لقوى الصراع، لكن الإعلام يتحمل مسؤولية خاصة في هذا المجال تتصل بطريقة التعبير ومستوى الرقابة الذاتية الواجبة عليه في التعبير عما هو مسموح. يمكن مناقشة الأداء السلبي لوسائل الإعلام اللبنانية في الأزمة الراهنة عبر التركيز على نماذج ثلاثة من هذا الأداء. 1- فتحت القنوات التلفزيونية، وما تزال، شاشاتها لكل أعمال العنف التي كانت الساحة اللبنانية تشهدها. عرضت صور المجازر والدمار خلال العدوان الإسرائيلي صيف السنة الماضية، وغالت كثيراً في تكرار المشاهد الدموية، وتحولت الجثث والأشلاء الى علامات تميز هذه المحطة عن تلك، وتسابقت المحطات الى عرض أكثر الصور بشاعة بصفتها سبقاً إعلامياً، ومنها أحداث اضراب 23 كانون الثاني يناير وأحداث الجامعة العربية في 25 من الشهر نفسه، وذلك بأدق التفاصيل المرعبة لهذين اليومين الأسودين. كان من الضروري أن تفضح وسائل الإعلام العدوان الاسرائيلي وما يتسبب به من دمار وقتل يصيبان اللبنانيين، وهو أمر يقع في صميم مسؤولية هذه الوسائل. لكن ما لا يقع في باب المسؤولية هو ذلك"التلذذ"في عرض"أفلام الرعب"اليومية والتركيز على تلك المشاهد المسببة لإحباط الشعور المعنوي والمؤدية الى انهيارات عصبية. 2- دأبت وسائل الإعلام المرئية على استضافة شخصيات متعددة الأسماء والاتجاهات في سياق برامجها السياسية. تستحضر سياسيين وآخرين صنفوا أنفسهم"محللين سياسيين"أو"خبراء استراتيجيين"، فتترك لهم حرية التحليل والتوصيف والشرح، ترافق انهيار البنية المجتمعية اللبنانية مع انتعاش وسيادة الانحطاط في اللغة السياسية والتخاطب بين قوى الصراع، وهو أمر يجد تجلياته في هذه البرامج وعبر"ضيوف"المحطات. لا تظلم هذه البرامج اذا ما وصفت أغلبيتها الساحقة بالرداءة بخاصة عند الاستماع الى المتحدثين والخطاب السياسي الذي يطلقونه. تبث هذه البرامج خطاباً فئوياً طائفياً، مليئاً بالتحريض على الآخر، وتقدم مداخلات مشحونة بتوتر لفظي يبدأ من الاتهام بالخيانة والعمالة وينتهي بما يشبه التكفير والنبذ، بحيث لا يحتاج المستمع لأكثر من اشارة ليشهر سلاحه ويذهب الى قتال خصمه بعد أن تكون البرامج تكفلت بتعبئته سياسياً وعسكرياً. تتحمل وسائل الإعلام مسؤولية عن انفلات"ضيوفها"وعن حجم"سقط المتاع"الخارج من أفواهها، وتكمن المسؤولية في هذا البث المباشر، ما يعني أن هذه الوسائل مسؤولة عن مراقبة ما يطلق من كلام لا يصب في المصلحة الوطنية العامة ويسيء الى السلم الأهلي. 3- من افرازات الأزمة السياسية المندلعة منذ سنتين هذا النزول الى الشارع وتحوله الى تظاهرات حاشدة يسعى كل طرف الى تجييش أوسع الجماهير تعبيراً عن قوته ونفوذه. تتسابق وسائل الإعلام في اظهار صور الحشود وفي اطلاق أرقام عن الاعداد الموجودة في الساحات بصرف النظر عن مدى دقتها. لكن الدور الخطير في الأداء الإعلامي هنا، يتجلى في نقل ما تزخر به التظاهرات والاعتصامات والمهرجانات والتجمعات البشرية. تتقن الكاميرات"فن"التركيز على الشعارات ذات الطابع الانقسامي والمتوتر، وتنجح في تظهير الهتافات والكلمات المليئة باللغة"السوقية"من شتائم وسباب لا توفر أحداً، بما في ذلك المرجعيات الدينية أو السياسية أو الثقافية، وتسلط الكاميرات الضوء على"الهيجان"الجماهيري عند سماعها هذه اللغة تعبيراً عن ابتهاجها وتأييدها لها. ترى، هل تدرك هذه المحطات وكاميراتها والمسؤولون عنها مدى الأثر السلبي والمدمّر لتلك اللغة"الجماهيرية"التي لا تنتج سوى تعبئة طائفية مذهبية مشحونة بكل ألوان العداء ومفتوحة مباشرة على العنف الأهلي؟ مع التأكيد على مسؤولية قوى الصراع وعجزه عن التوصل الى تسوية للأزمة وتركها مفتوحة على احتمالات الانفجار العنفي، إلا أن أداء وسائل الإعلام يتحمل مسؤولية في تزييف وعي المواطن أو قولبته في اطار سياسي ومذهبي محدد، وفي ترهيبه وتركه نهب الخوف المتواصل، وفي سيادة ثقافة طائفية تنزع عن هذا المواطن أي عقلانية وتتركه أسير الخرافة والأسطورة. * كاتب لبناني