ما أشد الوطأة التي يجدها دارس العلوم السياسية عندما تطلق أوصاف على ظواهر سياسية من دون وجود أي علاقة بين الوصف والموصوف. هذا كان لسان حال المرء وهو يتابع إطلاق وصف "حكومة الوحدة الوطنية"على الفريق الذي جرى اختياره للقيام بالمهمات التنفيذية للسلطة المنبثقة عن اتفاقات أوسلو والذي يطلق عليه مجلس الوزراء أو الحكومة. فعلى الفور ظهرت في الأفق التساؤلات التالية: 1- كيف توصف حكومة بأنها حكومة وحدة وطنية وهي ناتجة عن إكراه؟ فهذه الحكومة لم تكن لتوجد لولا الحصار المفروض على السلطة. بل إن من قاموا على تشكيلها أرادوا أن يكون تشكيلها في حد ذاته خطوة في سبيل رفع الحصار. وكان معيار تشكيل الحكومة هو قبول القوى التي تفرض الحصار على السلطة الفلسطينية لهذه الحكومة. زد على ذلك أن تشكيل الحكومة جاء بعد أن أعلن التنظيم الأبرز في الحكومة احترام اتفاقات أوسلو الإملائية التي قضى شعب فلسطين عقدا ونيف في مقاومتها. من ثم فتشكيل الحكومة بلغة القانون تصرف مشوب بعدد من عيوب الإرادة أبرزها عيب الإكراه. ولما كان شأن حكومات الوحدة الوطنية الحقيقية أن تتشكل وفق إرادة وطنية حرة حتى لو كانت تحت الاحتلال فإن وصف هذه الحكومة بأنها حكومة وحدة وطنية هو وصف مناف للصواب مجافٍ للحس السليم. 2- كيف توصف حكومة بأنها حكومة وحدة وطنية في حين أن تشكيلها تجسيد للاستئثار السياسي وتشويه للوحدة العضوية لشعب فلسطين؟ فهذه الحكومة نتاج لتسوية بين التنظيمين الأكبر اللذين ما تزال عصارة خطاب كل منهما أنه هو الذي يعبر عن الإرادة الحقيقية لشعب فلسطين مهما اختلفت الأحوال والمواقف. ويستند كل من التنظيمين إلى قدرته التعبوية بالداخل. ولم يجتمع التنظيمان في الحكومة إلا لأن كلا منهما لم يستطع إقصاء الآخر. والطريف أن بعض الشخصيات في أحد التنظيمين بدأت تبرر انحصار الأمر بينهما تبريراً عجيباً مفاده أن"الإرادة الإلهية"شاءت أن يكون هذان التنظيمان هما الأكبر على الساحة الفلسطينية مما يوحي أن انحصار الأمر في التنظيمين ليس طبيعياً فحسب بل هو ناتج عن"ارادة إلهية". وقام هذان التنظيمان بضم تنظيمات صغيرةٍ حديثة عهد بالعمل السياسي وتبحث لنفسها عن دور مما خدم مصلحة الطرفين. لكن من المعلوم أنه تم في الوقت نفسه استبعاد فئات ذات شأن كبير في الساحة الفلسطينية منها فئة فلسطينيي الشتات التي يجاوز عددها نصف عدد شعب فلسطين وأغلبها لا ينتمي لأي من التنظيمين. كما استبعدت الحكومة أي شخصية تعبر تعبيراً رمزياً عن فلسطينيي 48. ولم يكن استبعاد فئة فلسطينيي الشتات ناجماً عن سهو أو عن قلة في عدد الحقائب أو لمجرد سيطرة التنظيمين الكبيرين بل جاء انعكاساً لخضوع هذه الحكومة لأساس من أسس مسار أوسلو وهو تقسيم شعب فلسطين من خلال تضييق النطاق البشري لما يعنيه هذا الشعب، بحيث يشمل الفئة المقيمة في غزة وببعض أجزاء من الضفة ويلغي أبناء 48 وأبناء المهاجر. وكانت هاتان الفئتان ممثلتين تمثيلاً جيداً في جميع هيئات منظمة التحرير ومنها المجلس الوطني والمركزي واللجنة التنفيذية منذ تأسيس المنظمة إلى حين تأسيس السلطة المنبثقة عن اتفاقات أوسلو. هذا ولما كان شأن حكومات الوحدة الوطنية أن يعكس تشكيلها مشاركة سياسية حقيقية وأن يجسد الوحدة العضوية للشعب فإنه لا يستقيم أبداً وصف هذه الحكومة بحكومة الوحدة الوطنية. بل الوصف الدقيق الذي يمكن إنزاله عليها أنها حكومة"ائتلاف". فالحكومات الائتلافية تقوم على توافق فريقين لديهما قدرة تعبوية عالية ولا يستطيع أحدهما إقصاء الآخر وتقوم على استقطاب الفريقين لتنظيمات صغيرة أخرى إلى جوارهما لضبط معادلة تعايشهما. وكانت معظم حكومات الاحتلال على هذه الشاكلة. 3- كيف توصف حكومة بأنها حكومة وحدة وطنية في حين أنها تأتي عقب مواجهات غاية في الحدة بين التنظيمين الأكبر من دون اتخاذ أية إجراءات لإزالة أسباب المواجهات؟ والغريب أنه رغم حدة تلك المواجهات وشدتها فإن أيا من الطرفين المتنازعين لم يجر أي مراجعات تتعلق بثقافته التنظيمية أو الوطنية أو بسياسته الخارجية للسعي نحو ازالة العلل التي أفضت إلى احتدام المواجهات. فما أجراه الفريقان هو تسوية تخفف من حدة المواجهة موقتاً من دون التخلص من العناصر التي قد تسبب تجدد الاقتتال. ولما كانت حكومات الوحدة الوطنية الحقيقية تعكس وحدة حقيقية لا شكلية فلا يستقيم وصف هذه الحكومة بأنها حكومة وحدة وطنية. 4- كيف توصف حكومة بأنها حكومة وحدة وطنية وهي ليس لديها برنامج سياسي يستلهم الحد الأدنى من المشروع الوطني الفلسطيني الحقيقي ويسعى لتحقيق غاياته الوطنية العليا بل يكرس برنامجها غايات الاحتلال الكبرى. فحكومات الوحدة الوطنية الحقيقية تتشكل من أجل السعي إلى تحقيق غايات وطنية مبدئية عليا. أما هذه الحكومة فهي ذات صبغة إجرائية بامتياز. هي حكومة كان معيار تشكيلها الوحيد أن تكون صالحة ليس للتفاوض مع المحتل والنفوذ الاستلابي بل أن تكون جسرا لعودة مسلسل الإملاءات الذي غاب منذ اندلاع انتفاضة الأقصى. هي حكومة كانت غايتها الاستراتيجية المعلنة رفع الحصار الاقتصادي. فأين هذه الغاية من غاية تحرير الأرض؟ لعلنا نستحضر كيف جرت عبر العقود الماضية محاولات لخفض سقف المشروع الوطني الفلسطيني خفضاً متدرجاً، فقد أراد النفوذ الخارجي النزول بسقف المشروع الوطني من التحرير الكامل إلى التحرير الجزئي إلى إقامة دولة المعازل المحاصرة. واليوم ها هو النفوذ الخارجي يسعى إلى خفض سقف المشروع الوطني أكثر بحيث يصبح المشروع الوطني رفع الحصار الاقتصادي. من هنا فإن جعل مسألة رفع الحصار الاقتصادي غاية من الغايات الكبرى يعد انعكاساً كاملاً للخضوع لرغبة النفوذ الخارجي الاستلابي في تحويل قضية شعب فلسطين من قضية شعب يراد له أن يحرر وطنه ويعود إليه إلى قضية لاجئين يراد تحسين معيشتهم. هنا ننبه الى أن هذا الحديث السابق برمته مؤسس على افتراض جدلي محض وهو أنه يصح ابتداءً وصف الفريق الذي يدير السلطة المنبثقة عن أوسلو بأنه حكومة لشعب فلسطين رغم أن هذا الافتراض لا يصمد دقائق أمام أبسط استقراء لحال تلك السلطة. فمن حيث الطبيعة القانونية للسلطة هي سلطة للإشراف على بعض الشؤون الإدارية والأمنية لفئة محدودة من أبناء شعب فلسطين وهي الفئة التي تقطن غزة وأجزاء قليلة من الضفة الغربية وهي فئة لا يتجاوز عددها سدس إجمالي عدد أبناء شعب فلسطين بالداخل والخارج. والصلاحيات الإدارية والأمنية المحدودة اللاسيادية المعطاة لتلك السلطة تتعلق بنطاق جغرافي محدود للغاية لا يتجاوز خُمس مساحة أرض فلسطين. ومعلوم أن التمثيل السياسي لشعب فلسطين يخرج عن صلاحيات هذه السلطة. ومعلوم أيضاً أن الجهة المختصة بتمثيل شعب فلسطين سياسياً وقانونياً هي منظمة التحرير الفلسطينية التي تفاوض باسم شعب فلسطين. ومعلوم أخيراًً أن الفارق جوهري بين التمثيل السياسي من جهة وبين متابعة الشؤون الإدارية الأمنية من جهة أخرى. باختصار فإن الفهم القانوني والسياسي السليم يملي أن الذي يجوز إنزال وصف"حكومة"عليه هو"اللجنة التنفيذية"لمنظمة التحرير التي يعد رئيسها رئيساً لشعب فلسطين ويعد أعضاؤها الوزراء التنفيذيين. وهذه الحكومة كغيرها من الحكومات يمكن أن تمر بأوقات تعكس خلالها ألوان طيف المجتمع الفلسطيني فتوصف بأنها"حكومة وحدة وطنية"كما كان حالها عند تأسيسها، ويمكن أن تمر بأوقات يعكس خلالها تشكيلها ألوان طيف فئتين أو أكثر من فئات شعب فلسطين فتوصف بأنها"حكومة ائتلاف"كما كان حالها خلال السبعينات، ويمكن أن تمر بأوقات يعكس تشكيلها خلالها ألوان طيف فئة واحدة فتوصف بأنها"حكومة الحزب الواحد"كما هو حالها منذ الثمانينات. إن محصلة ما سبق هو أن وصف الفريق الذي يدير السلطة المنبثقة عن اتفاقات أوسلو بأنه حكومة وحدة وطنية ينطوي على مخاطر داهمة منها تكريس تقسيم شعب فلسطين وأرض فلسطين. فسيؤدي رواج هذا الوصف بمضي الوقت إلى أن يعتاد الناس على تضييق النطاق البشري لمفهوم شعب فلسطين بحيث يشمل سُدس أبناء شعب فلسطين فحسب، مما يستبعد فلسطينيي 48 والمَهَاجر. كما سيؤدي إلى أن يعتاد الناس تضييق النطاق الجغرافي لأرض فلسطين بحيث يشمل بقعة جغرافية لا تتجاوز مساحتها خُمس مساحة أرض فلسطين وهي البقعة التي تشرف عليها هذه الحكومة إشرافا إدارياً أمنياً لا سيادياً. وسيسهم شيوع وصف الفريق الذي يدير السلطة المنبثقة عن أوسلو بصفة حكومة الوحدة الوطنية في استمرار تجميد منظمة التحرير الفلسطينية وتعطيل التمثيل السياسي لشعب فلسطين. كما سيؤدي إلى تكريس النظرة إلى شعب فلسطين المستقر في الأرض المحتلة عام 1967 على أنه مجموعة لاجئين وليس شعباً، وأن المشروع الاستراتيجي للإدارة التي تدير شؤون هؤلاء اللاجئين هو مجرد تحسين شؤون حياتهم وتوزيع الرواتب والغذاء عليهم. ختاماً تجدر الإشارة إلى أن التاريخ السياسي المعاصر حافل بأمثلة لمصير سياسات الإملاء والإكراه. ومن ذلك تاريخ شعب فلسطين نفسه الذي نجح بمقاومته التي بلغت ذروتها في انتفاضة الأقصى وبدعم أمته في إيقاف مسلسل الإملاء الذي استمر سبع سنوات. * كاتب فلسطيني