قبل ظهر يوم الاثنين من الأسبوع الماضي، ووسط موجة العنف التي تعيشها بغدادالمدينة - المكان، والبشر - الحياة تناقل الناس، قبل وكالات الأنباء، ذلك الخبر الذي هزّ العاصمة العراقية، ومفاده الانفجار المروّع التي وقع في شارع المتنبي الذي يعد الرمز الأبهى للثقافة العراقية، بحياته وحيويته الأدبية، وحضوره في حياة مثقفي العراق، وتاريخه العريق أيضاً. وراح البعيدون عن موقع الحدث يسألون القريبين منه مستفسرين عما حدث بالفعل، وعن الخسائر التي أوقعها الانفجار بين البشر، وفي المكتبات والكتب، وعمن كان هناك من أدباء ومثقفين يعرف المتسائلون، قبل سواهم، أنهم لا ينقطعون عن هذا الشارع الذي أصبحت زيارته، بالنسبة الى كثيرين منهم، بمثابة طقس ثقافي. وراحوا يسألون عن"أصحابهم"و"أصدقائهم"من باعة الكتب وأصحاب المكتبات. وكانت كل الردود: إن النيران التي تمتد وتتسع، وموجات الدخان الكثيف المتصاعد من الحرائق التي أحدثها انفجار سيارة مفخخة عند مدخل الشارع من جهة نهر دجلة - وسوق السراي لا تتيح لأحد التحقق من حجم الخسائر. إلاّ أن التأكيدات توالت بعد قليل: إن مكتبة القيروان والمكتبة القانونية ومكتبة عدنان ومكتبة النهضة والمكتبة العصرية دمرت واحترقت كاملة. ثم مقهى الشابندر، ملتقى المثقفين، هو الآخر دمر. وفي توالٍ آخر للأخبار الواردة من الشارع أن هناك أشخاصاً غير معروفي العدد والهويات محاصرون وسط النيران، وان العدد الأكبر من الضحايا هم ممن كانوا في الشارع لحظة وقوع الانفجار، بينهم عدد من باعة الكتب ممن يفترشون الرصيف بكتبهم. وبعد ساعات ذكرت الأخبار المتواترة من هناك أن اكثر من عشرين شخصاً قتلوا، واكثر من أربعين آخرين جرحوا، وأن أربعين مكتبة ومحلاً للقرطاسية وتجارة الورق دمرت تماماً، وان سبعين أخرى تضررت أضراراً متفاوتة. وفي اليوم ذاته جاء في الأخبار المتواصلة من الشارع أن عدد الضحايا ارتفع الى ثلاثين.. ثم الى تسعة وثلاثين، جثث بعضهم كانت متفحمة بحيث صعب التعرف على أصحابها. ويقول خبر آخر: لا تزال هناك جثث أخرى تحت الأنقاض لم تنتشل بعد! إذا كان أحد المؤرخين الذين كتبوا تاريخ بغداد ذهب الى أنها لم تعش يوماً أسوأ من يوم سقوطها على يد المغول فإن مؤرخاً معاصراً وجد أن هذا"اليوم الأسوأ"تكرر مرتين في غضون أقلّ من أربع سنوات من القرن الحادي والعشرين. فيوم سقطت بغداد ثانية على أيدي المحتلين الأميركيين مغول العصر الجديد، كما يسميهم هذا المؤرخ، جرى في يوم"الاحتلال"هذا تدمير الكثير من مظاهر الحضارة والثقافة فيها، كان أبرزها إحراق المكتبات ونهب الآثار ومتاحف الفنون، وتدمير المؤسسات الثقافية، بما فيها الجامعات وبيوت العلم. وأكمل المحتلون، من بعد، أعمال التدمير الممنهج هذه بتفجير شارع المتنبي، الرمز الحي للتاريخ الثقافي في العراق. هذا الشارع ليس مجرد مكان أو درب يسلكه المارة، إنما هو فضاء مشبع بالدلالات الثقافية ذات الأبعاد التاريخية.. فضلاً عن أنه وجود، له حضوره في ذاكرة أجيال من المثقفين. هذه الحرب الجديدة تضمنت، في داخلها، ثلاث حروب هي - بحسب تحديد برهان غليون -"حرب الطاقة الدولية"التي تتداخل معها"الحرب الإسرائيلية - العربية"الرامية الى تعزيز مصالح إسرائيل وضمان موقعها المتفوّق في المنطقة. ثم"الحرب الحضارية"التي يغذيها الاعتقاد بأن ما نعيشه اليوم هو صراع بين الثقافة والحضارة الغربية.. والثقافة والحضارة العربية الإسلامية. الرمز الثقافي في هذا السياق، وبحسب قراءة عديد المثقفين من غير المدافعين عن الاحتلال او المتدافعين عند أبوابه، جاء تفجير شارع المتنبي استهدافاً لدلالتين أساسيتين من دلالاته. فأولاً: هو شارع الثقافة والمثقفين، بل إن ثقافة المثقف العراقي التي يشكلها الكتاب والمطبوعات الأخرى تكاد ترتبط كلياً بهذا الشارع ومكتباته و"الكتبية"فيه، منذ أن بدأ وجود حقيقي لثقافة العراق في العصر الحديث. وثانياً: إن لهذا"الرمز الثقافي"تاريخه العريق المرتبط، زماناً ومكاناً، بأزمنة تاريخية شهدت تحولات كبيرة، وكثيرة، في الحياة الاجتماعية والسياسية، بينما ظل هو شارعاً له تقاليده، التي هي تقاليد المثقفين الحقيقيين. ووفرت مكتباته لهذا المثقف ما لم توفره سواها من مكتبات العواصم الأخرى لمثقفيها. فبين أصحاب هذه المكتبات مثقفون، وبينهم"عشاق حقيقيون"للكتاب. لذلك كانت تعنيهم نوعية الكتاب اكثر مما تعنيهم تجارته. وكما كان لهذا الشارع حضوره الثقافي، وحضور المثقفين فيه، منذ بدايات تأسيس الدولة العراقية الحديثة، فإن له تاريخه الخاص. فبعض المؤرخين يعيد تأسيس هذا الشارع الى العصر العباسي. أما تسميته شارع المتنبي، تكريماً لمكانته الأدبية والثقافية، فكانت العام 1932، في عهد الملك فيصل الأول، بعد أن أصبح يعجّ بالمكتبات وهي تنتقل إليه من سوق السراي، حيث أصبح أحدهما يشكل امتداداً للآخر. وسوف السراي، هو الآخر، له تاريخه الذي يرتبط بهذا الشارع ترابط تلازم في الأهمية والاهتمام. فهذا السوق أنشئ في آخر العهد العثماني في العراق، مكتسباً من"سراي الحكومة"المجاور له طابعه، وكانت أول مكتبة أقيمت فيه هي"المكتبة العربية"التي أسسها نعمان الأعظمي العام 1904، ثم تلتها"المكتبة العصرية"لمؤسسها محمود حلمي العام 1914، وهي كانت أولى المكتبات التي انتقلت الى شارع المتنبي لتأخذ ومكتبات أخرى مواقع متميزة فيه، أبرزها:"مكتبة المثنى"التي أسسها قاسم محمد الرجب والتي سرعان ما أصبحت من اكبر أو أهم مكتبات بغداد، وكذلك"مكتبة المعارف"وپ"المكتبة الأهلية"وپ"مكتبة النهضة"وپ"مكتبة التربية"وپ"مكتبة دار البيان"التي أسسها الباحث والناشر علي الخاقاني. وأصبحت معظم هذه المكتبات ملتقى أدباء العراق ومثقفيه، وأصبح يوم الجمعة من كل أسبوع أشبه بندوة ثقافية تتم في هذه المكتبات التي كان لكل منها زبائنها وروّادها. بعد الحرب الأميركية الأولى على العراق 1991، وفرض الحصار الشامل على البلد، بما في ذلك حظر استيراد الكتب والمطبوعات الأخرى، وحال ضيق العيش التي مرّ بها العراقيون في سنوات الحصار تلك، أضطر كثيرون من المثقفين والأدباء، وحتى أساتذة الجامعات العراقية، الى عرض مكتباتهم الشخصية، أو جزء منها، للبيع. ووجد بعض المثقفين والمعنيين بالكتاب أنفسهم يتحولون الى"باعة كتب"مفترشين رصيفي هذا الشارع الذي يبلغ عرضه نحو 12 م ليصبح الشارع بامتداده الذي يبلغ 250 م مكتبة رصيف اجتذبت المثقفين من كل الاهتمامات، والباحثين عن نوادر الكتب التي أصبحنا نجدها معروضة بأسعار لا تنافسها أسعار المكتبات التي يزدحم بها الشارع. وفي حقبة التسعينات من القرن الماضي، والسنوات الأولى من القرن الجديد، أصبح شارع المتنبي ملتقى المثقفين، خصوصاً في أيام الجمعة. وأصبح روّاده وقاصدوه في ثلاث مراتب: هناك المثقفون والأدباء والقراء العراقيون الذين إذا أردت أن تلتقي منهم الكثيرين، على غير موعد، فيمكن أن تلتقيهم في ساعات الصباح حتى الظهيرة. ثم هناك الزائرون من العرب والأجانب، الذين تعرفوا الى الشارع وصاروا يقصدونه للحصول على النادر من الكتب، بأسعار لا تمثل، مهما بلغت، رقماً ذا بال بالنسبة الى سعر صرف عملاتهم في السوق العراقية. وهم صنفان: صنف كان يقتني الكتاب لمكتبته الشخصية، وصنف آخر للتجارة. أما من كانوا في المرتبة الثالثة من زائري شارع المتنبي فهم الصحافيون، عرباً وأجانب، منهم العاملون في الصحافة، أو في الشبكات الفضائية. وخرج كثيرون منهم بتحقيقات، وموضوعات، جسدت حقبة أليمة في تاريخ أو حياة، الثقافة والمثقف في العراق. استمرت الحال على ما هي عليه بعد الاحتلال. وكل ما حصل من"إضافات"أن كتباً كانت ممنوعة من التداول عرضت. واتسع نطاق استنساخ الكتب النادرة، أو ما يطلب من الإصدارات الجديدة التي لا تصل الى العراق. وتطورت أعمال الاستنساخ هذه الى استخدام"الريزو"لإخراج"طبعات متقنة"أكثر. وانفرط لقاء الجمعة بسبب حظر التجوال الذي شمل ساعات هذا اليوم المهمة.