الحرب في لبنان وعليه التي عصفت في شكل دموي، ومتخلّف، في الربع الأخير من قرن اعتُبر قرن الحداثة والاكتشافات السريعة الجبارة والثورات السياسية والمعرفية، كانت ولا تزال وستبقى موضوعاً للدراسة والبحث، من دون مشارفة إجماع حول أسبابها وسيرها. والبحث في الحرب اللبنانية يقتضي مقاربة الموضوع، من جهة بطريقة مبسّطة وواضحة من دون تطلعات مسبقة يصبح معها التاريخ مطية لتحليل وتعليل مصلحي او نظري لن يضع اليد على الجرح، أو ان وضعها فالكلام فيه يفسده الواقع واحتمالاته، ومن جهة اخرى بمنهجية عملانية واقعية تأخذ في الاعتبار المكونات الاجتماعية والذهنية والثقافية والتطلعات المستقبلية، الثابت والمتحول فيها، سواء أكانت على خطأ أم على صواب. ومن ضمن الدراسات عن الحرب اللبنانية ومسار الأمور في لبنان وكما يجب ان تكون عليه، كتاب للدكتور شارل شرتوني، الذي عايش هذه الحرب وكان الى حد ما، بطريقة أو بأخرى، في خضمّها على صعيد الفكر السياسي، بعنوان"لبنان من النزاعات المديدة الى دولة القانون"دار النهار. يعتبر شارل شرتوني، استاذ علم الاجتماع والسياسة في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، والمشارك في ابحاث في دائرة الحكم والسياسة في جامعة جورجتاون، ومؤلف العديد من الكتب والأبحاث في الموضوع نفسه، ان الظروف الداخلية والخارجية تجيز للبنان إعادة بناء سيادته وحرية قراره، وبناء الدولة على اسس ميثاقية وديموقراطية نقاشية بعد عقد، على حد رأيه، من التحليل السياسي الكاذب، والفراغ السياسي، والتواصل الظرفي بين مصلحيين، وسياسة محاور داخلية منصاعة لتدخلات اقليمية، وفقدان النخب الفاعلة القراءة النقدية وعدم المساءلة الديموقراطية. فالمطلوب مع هذا المتغير بناء الدولة بمشروع مشترك، وتسوية عقلانية للنزاعات، وإصلاحات ديموقراطية، تترجم بسيادة واضحة، وتعددية ثقافية، ومجتمع منفتح، ودولة القانون وحقوق الإنسان، وحلول للثقافات النزاعية المتأصلة في المجتمع اللبناني، والعدالة والحداثة. تنطلق هذه المحاولة الدراسية من اعتبارين اساسيين: الدخول في حوار حول الخيارات الأساسية لإقفال ملف الحرب المديدة على قاعدة دولة القانون والديموقراطية، ومراجعة نقدية للواقع اللبناني. وتقوم خيارات الكاتب الإصلاحية انطلاقاً من الفهم الصحيح للحداثة ولمعالم الديموقراطية ولممارسة مواطنية ناشطة وعمل على تفكيك البنى النزاعية التي تحمل مكونات داخلية وخارجية، لذلك فالتداخل بين المؤسسات الدولية والإصلاحات الداخلية اصبح مصدراً اساسياً في العمليات الإصلاحية، كما ان إدخال متغيرات المساواة الجنسية والعدالة الاجتماعية والتدبير البيئي والتمكين المتعدد الوجوه، وحقوق الأقليات في صوغ المداخلات الدولية امسى مدخلاً للإصلاح، على حد قول الكاتب. ويرى الكاتب ان السياسة الأميركية التي تلت 11 ايلول سبتمبر طرحت تحديات تقتضي ضرورة الإصلاح والنقاش والتداول الديموقراطي للسلطة ومسألة الإنماء وحل النزاعات والحد من هجرة الأدمغة وملف الاصلاح الديني وغيرها. والمقاربة الاصلاحية تفترض إعادة قراءة الواقع الجيوبوليتيكي، انطلاقاً من كون الدول القائمة في الشرق الأوسط بعد سقوط الأمبراطورية العثمانية قادرة على الاستمرار على رغم الانفصام القائم بينها وبين الايديولوجية القومية والاصولية، ومن كون بنى هذه الدول تفتقد ثقافة الديموقراطية، وحدودها لم تكن وليدة تقسيمات الانتداب بل وليدة ديناميكية متنوعة. كما أن هذه المقاربة، برأي شرتوني، تقتضي البحث في فشل فكر القومية العربية وسياستها لأنها تعالت على الخصوصيات وقامت على سياسة النفوذ، وأيضاً البحث في السياسات الأصولية التي هي تعبير عن واقع الدول والأنظمة الديكتاتورية، وواقع الفكر السياسي الحالي، وأخيراً البحث في القراءة الاختزالية لتاريخ المنطقة بجعل الفتح العربي، وحده، منطلقاً له. من هذه المنطلقات العامة يتوجه شرتوني الى لب موضوعه، لبنان، فيحاول اجراء استعادة نقدية للحياة السياسية، معتبراً أن محطة نهاية الحروب في لبنان وعليه في 1990، لم تكن تصفية لذيول الحرب، بل متابعة لأهدافها عبر تفكيك المرتكزات الميثاقية ودولة القانون والخوض في عملية بناء اقتصادي واجتماعي متفردة الرؤية. وبدل نزع لبنان من ساحة النزاعات الاقليمية دفعته الى أتونها. ويرى الكاتب ان لبنان كيان سياسي مرتبط بمفهوم الدولة - الأمة الذي يتجاوز التوزعات السابقة على نشوئه. ولكن الخلاف على شرعية هذا الكيان ورفض نزع قيم الماضي وأحلام ما وراء الحدود حالا دون تحقيق هذا الكيان المبني على فكرة ميثاقية فريدة تتجاوز الاشكالات والعقد التاريخية وتسمح لجميع الجماعات بممارسة الحياة السايسية على القدر نفسه من المساواة والندية والكرامة. فهذا التوجه الميثاقي وتجربته حطما عدم تكافؤ الفرص وأديا الى ديموقراطية تراعي مصالح الطوائف في صيغة توافقية يعرّض عدم الأخذ بها البلاد الى مخاطر دامية والى المداخلات الخارجية كما حصل منذ 1958. كما أن السير بها يحول دون الديكتاتورية والعودة الى نظم الماضي. ومع سياسة النفوذ السوري في لبنان عرفت البلاد المحاولة الأكثر شمولاً لتفكيك مقوماته وتحويله كياناً صورياً يؤمن دخلاً ريعياً للنظام. ويرى الشرتوني ان نظام الطائف أدى، اضافة الى تثبيت النفوذ السوري، الى تركز لبنان في قلب النزاعات وتحويله من دولة الى مقاطعات سلطوية، ومصادرة القرار الاقتصادي وعدم تقدير الاولويات فيه وعدم اعتبار عودة المهجرين من ضمنها. وعلى رغم ذلك ساهمت الظروف في اقصاء السوريين عن لبنان نتيجة اسباب دولية ومحلية فجرها اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فكانت النتيجة السير باستعادة القرار الوطني الذي برهنت عليه مجريات 14 آذار مارس. ولكن الشرتوني يعتقد أن المسار الذي اعتمد بعد 14 آذار لم يكن في مستوى الواقع الدولي الجديد مع تراجع التضامن وقيام مشاريع سيطرة غير معلنة، ومع انتكاسات فريق"قرنة شهوان"، خصوصاً مع تسهيله اعتماد قانون الانتخابات السابق. ولن يستطيع لبنان تجاوز الديناميكيات الاقليمية الا بالعودة الى الروح الاستقلالية التي دفعت بها مناخات 14 آذار، وانهاء ولاية رئيس الجمهورية بالاجماع، واقرار قانون جديد للانتخابات على أساس تجاوز الاختلالات التمثيلية ومتابعة ملف الاغتيالات من دون قيد أو شرط. ويقدم الكاتب مفكرة للاصلاح السياسي تتوخى اعادة التداول الحر على أساس التعددية المؤسسية والمشاركة المتحررة وحرية العمل السياسي وديموقراطيته. وللوصول الى انهاء الديناميكيات النزاعية واستعادة الاستقلال لا بد من استعادة لبنان سيادته الفعلية وقراره الذاتي واعادة تركيز معادلة سياسية متكافئة بين المسلمين والمسيحيين، والعودة الى روح الميثاق السابق واهدافه وتنمية الثقافة المدنية الجامعة القائمة على المساواة وتكريس مبدأ الجمهورية المحايدة تجاه انظمة المعتقدات وتطوير مفهوم المواطنية والوطنية واجراء نقد للنظريات السياسية التي كانت مطروحة وبلورت نظام الديموقراطية التوافقية ووضع نظام تمثيلي صحي وتسوية النزاعات مع سورية واستعادة المبادرة السياسية الخارجية ومراجعة تسوية الطائف، ويعطي الكاتب لذلك اسبابه، ويساهم في وضع تصور لما يفترض أن يكون عليه على صعيد مفهوم الدولة ودولة القانون، والمصالحة الحقيقية وملف المهجرين ومسألة التجنيس وملف القضاء والجيش والاجهزة الامنية والاعلام والهجرة والمغتربين. ويتطرق البحث الى نقد سياسة الاعمار والسياسة المالية والخصخصة والسياسات التربوية والاجتماعية والتعليم الجامعي حيث"الخبط العشوائي"، بخاصة على صعيد الجامعة اللبنانية التي تعاني من فقدان استقلاليتها الى ما غير ذلك من مسائل ومشاكل في مجالات اخرى. هذا غيض من فيض معلومات الشرتوني، وحاولنا إلقاء الضوء، فقط، على بعض منها، لأن الكتاب يزخر بها بشكل مكثف جداً ما يجعله صعب الفهم، عسير الهضم احياناً، بخاصة في الشق الأول منه، بسبب رغبة الكاتب حشر نقاط يتطلب الكلام عنها ونقاشها وتحليلها صفحات اكثر ووضوحاً أكبر. طبعاً، الكتاب يحتوي على معلومات قيمة جداً، وعلى حداثة في الفكر وتعمق في العلوم السياسية، بخاصة ما يطرح منها في المعاهد الأكاديمية والمؤسسات الاستراتيجية، ولكن تشوبه مسحة من الرؤى التي تعالج الواقع اللبناني كما ينبغي ان يكون لا كما يمكنه ان يكون. فلبنان، كما الشرق، بحاجة الى تجربة في الحداثة الفكرية والسياسية والاجتماعية والذهنية، لا العلمية والاقتصادية لأنه يحسن السير فيها، توازي في الزمن، على الأقل، ما تطلبه ذلك في اوروبا، ونحن ما زلنا مع تجربة عمرها، فقط، نصف قرن ونيف، فأمامنا قرون، لربما، لنصل الى القناعات التي سبقنا الغرب اليها، اذا لم يدخل عامل سلبي او ايجابي يبطئ هذه الصيرورة او يعجل فيها. * أكاديمي لبناني