فيما تحتار تركيا في أمرها وتقضها مسائل تخص مستقبلها الأوروبي ووضعها في الشرق الأوسط يستغل المسؤولون الاتراك من جديد قضية كركوك. فالمزيادات الوطنية بين أقطاب العسكر والساسة هي سيدة الموقف في تركيا الامر الذي سينعكس سلبا على مستقبل العراق والمنطقة. فتركيا ومنذ فترة طويلة، تحشد قواتها على حدود كردستان العراق وتهدد بين حين وآخر الأكراد ومستقبل العراق، وهي لم تكتف بهذا بل أن الاستخبارات التركية مع إنها ادعّت واحتجت أكثر من مرة بأن جهاز الموساد الاسرائيلي يتغلغل في كردستان أصبحت تتواجد بشكل كثيف في كركوك، وعناصرها يأتون إلى كركوك دون إذن من أحد ويأمرون ويتصرفون كما يشاؤون. وما يزيد الطين بلة أن الأتراك يستغلون وضع"الجبهة التركمانية" الضعيف والهش ويريدون منها ان تعكر الأجواء بين الاكراد وبقية الأطراف العراقية خصوصا بعد صدور توصيات بيكر - هاملتون التي أتت على غير ما يريدها الاكراد خصوصا أنها لا توصي بإجراء استفتاء في كركوك لتبيان هويتها وموقعها. لا شك في ان هذه التهديدات والرهانات التركية لا تأتي من فراغ، حيث يلعب عاملان دوراً مهماً في هز صورة كركوك: العامل الأول: دور النظام وخلق ثقافة الفتنة بين الأوساط المتداخلة هناك أي بين القوميات التي من المفترض أن تكون متآخية. والثاني العامل الإقليمي ووضع الحكومة العراقية التي تعاني من انقسام داخلي، فتركيا التي من المفترض أن تلعب دوراً إيجابياً في تشجيع كل الأطراف على مراعاة مصالح وتطلعات بعضها البعض، وذلك لسبب بسيط وهو أن استقرار العراق أو كردستان العراق يصب في المصلحة التركية، أصبحت عاملا مشجعا على عدم استقرار العراق. فمن هنا يأتي الموقف الكردي هذه المرة اكثر حرصا على مستقبل العراق والمنطقة الكردية، فأكثر من مرة نبه مسعود بارزاني رئيس اقليم كردستان كل الأطراف إلى أن مسألة الاكراد وكركوك شأن داخلي، وانه سيحاول ان يعيد الوضع في كركوك الى ما كان عليه قبل عام 1968. واكد بارزاني"ان كركوك كردية وان حل وضعها يجب أن يكون بارادة عراقية كون كردستان جزءاً من العراق"وسبق أن قال:"إننا لا نساوم على مدينة كركوك". في واقع الامر فإن صاحب البادرة الأولى لخلخلة وضع كركوك هو تركيا. فأنقرة هي من بادر الى اعلان الحرب النفسية والتجسسية على الأكراد. وهي تظهر مرة حرصها الشديد على وحدة أراضي العراق، ومرة أخرى تطالب بحقوق تركية"مغتصبة"في اراضي كردستان، ومرة ثالثة تبدي قلقها على مصير الأقلية التركمانية متناسية ان الاكراد والتركمان عاشوا جنباً الى جنب منذ القدم في كردستان العراق، وبعد تأسيس الادارة الذاتية للأكراد عام 1991، دخلت علاقات الاكراد مع التركمان والاقليات القومية الاخرى مرحلة جديدة في ظل الادارة الكردية. الا ان الآمال سرعان ما تبددت بسبب تقاطع هذه العلاقات مع المصالح التركية نتيجة أطماع تركيا التاريخية في منطقتي الموصل وكركوك النفطيتين، وبسبب انعدام الثقة بين أنقرة والأكراد من جهة أخرى. وسرعان ما ترجم ذلك صراعا حاداً نجم عنه تدخل أنقرة في الشؤون الداخلية للأكراد واعلان"الجبهة التركمانية"حرباً"دونكيشوتية"على حكومة اقليم كردستان. في الحقيقة ان تركيا لم تقف مكتوفة اليدين، بل على العكس انها تحاول مراراً التدخل في شؤون كردستان العراق، فمرة تقول ان"شمال العراق امانة في يد تركيا... ولن تفرط بها من اجل آمال الاكراد"، وانه"جزء من حدود الميثاق الوطني التركي الذي اقره البرلمان عام 1920"، مع ان الأكراد يتفهمون الحساسية التركية ويقرون بوجود مصالح لتركيا في شمال العراق كونها دولة مجاورة، وأبدوا تفهمهم للحساسية التركية مؤكدين أن كردستان لن تكون مصدر تهديد لأمن تركيا ومصالحها، ولهذا لا داعي لأن تتدخل انقرة في شؤون الاقليم والتركمان. هذا الشعور الكردي يتماهى مع شعور شريحة واسعة من التركمان أيضاً. بعد أن سقط النظام العراقي، وسيطرت قوات التحالف على المدن العراقية بدأت التعقيدات التي خلفها النظام السابق تظهر على السطح، واهمها التغيير الديموغرافي في كردستان العراق اذ قام بتعريب المناطق الكردية والتركمانية في شمال العراق وفي كركوك منذ 1974 وهناك من يقول انه منذ 1968 حصل ترحيل العائلات الكردية والتركمانية قسراً من المناطق النفطية في محافظة الموصل وكركوك، خصوصاً بعدما اصر القادة الاكراد في مفاوضاتهم مع النظام على ضم كركوك ومناطق الموصل الى منطقة الحكم الذاتي في الفترة الواقعة بين 1970 و1975 لانهم كانوا يؤيدون رؤية الملا مصطفى بارزاني في ان مدينة كركوك هي"قلب كردستان ولا يمكن التنازل عن القلب". وقد رد المفاوض العراقي في تلك المرحلة بدعوة الوفد الكردي الى نسيان كركوك"كما نسي العرب الاندلس"، إلى أن انتهت فترة الوئام بين الاكراد والنظام العراقي واشتعلت جبهات الحرب وتمت المقايضة بين النظام العراقي وشاه ايران عام 1975 اذ تنازل صدام حسين في حينها عن جزء من الاراضي العراقية الى الدولة الايرانية مقابل امتناع الشاه عن دعم الثورة الكردية. ومع حرب الخليج الثانية وبعد الانتفاضتين الكردية والشيعية عام 1991 قام الاكراد بمؤازرة الولاياتالمتحدة بفتح نافذة للمفاوضات مع النظام السابق، إلا أن هذه المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، ولعل مدينة كركوك ومسألة الديموقراطية هما أبرز نقاط الخلاف. وعادت قضية هذه المدينة تطرح نفسها أيضاً بقوة أكبر، طوال فترة الحكم الكردي الذي تأسس في عام 1992 بموجب انتخابات حرة في مناطق الملاذ الآمن التي حددها مجلس الأمن بموجب القرار 688، وطرحت المشكلة بحدة خصوصاً عندما عاد إليها الأكراد الذين هاجروا منها منذ أكثر من عقدين وذلك في اليوم الأول لسقوط كركوك من يد نظام صدام، إذ قام الأكراد بمجرد سماعهم نبأ سقوطها بالزحف نحوها. بيوت مكتظة على شكل مخيمات في مكان قريب من طريق السليمانية وأربيل ينتظر أهلها الرجوع إلى ديارهم في كركوك، وتفاجأ عندما تلتقي بعضاً منهم فتسمع منهم القول:"يجب على العرب أن يرحلوا". وعندما تقول لهم إن كركوك مدينة عراقية وبالتالي يحق لكل عراقي السكن فيها، يجيبون:"نعم ... لكن عندما يعود الوضع طبيعياً". لقد خلق النظام السابق أوضاعاً غير طبيعية لذلك يجب أن تزال هذه الأوضاع غير الطبيعية. كركوك عاصمة كردستان. هذا التعبير تردده شريحة واسعة من سكان كردستان، وهؤلاء مقتنعون بهذا التعبير الذي ربما كان موجوداً في أحد بنود الدستور المقترح من قبل برلمان كردستان. ويرددون هذا لأن صفحات التاريخ تدفعهم إلى القناعة بذلك، حتى التاريخ الذي كتبه"كتّاب الدواوين العثمانيون"حيث أتت كردية كركوك في أكثر من سالنامات رسالة السنة العثمانية، حيث جاء في السالنامة 1890 -1912 أن"سكان لواء كركوك يتكونون من العنصر الكردي والعربي والتركماني والكلداني، ويأتي الكرد في المرتبة الأولى والعرب ثانياً، يليهم التركمان". وتؤكد كل الوثائق الكردية والعراقية والعثمانية أن 85 في المئة هذا الرقم قبل تسلم البعث للحكم من سكان كركوك وتوابعها هم من الأكراد. إن الحرب الفعلية بين كردستان وتركيا بدأت قبل نحو أكثر من سبعة أعوام، عندما عقدت الجبهة التركمانية مؤتمرها في 20 / 11 / 2000 وعرضت خريطة لكردستان كانت قد قسّمت إلى ثلاثة اقاليم هي تركستان وعربستان وكردستان وأعلنت نفسها كحكومة ممثلة للتركمان داخل الحكومة الكردية، ساحبة اعترافها بالحكومة والبرلمان الكرديين. كما بدأت الحرب عندما وجدن أجهزة الاستخبارات التركية على أراضي كردستان وعندما قامت بعملية إنزال استخباراتها في كركوك، لكن يبدو أنّ ما جرى كله بسيط مقارنة بما يجري اليوم على أرض الواقع. فالجبهة التركمانية اليوم تسعى جاهدة إلى خلق الشقاق بين مختلف الفئات في كركوك، وتقوم بتحريض العرب على الأكراد ويتستر عناصرها بالزي الكردي وتقوم بعمليات الشغب والنهب والسلب. ولعل ما جرى قبل أيام في مجلس مدينة كركوك هو دليل قاطع على ان كركوك وهي صاحبة ثقافات متعددة تنفر من غياب الثقة بين مختلف فئاتها وتنبذ ثقافة الإقصاء والإنكار. ولهذا فتركيا مدعوة ان تلعب دورا ايجابيا ومساعدا لقيام حالة من الاستقرار في العراق، فرؤيتها بعين الود لكردستان ستكون لخيرها وستشكل عاملا مساعدا لها ولمستقبلها الداخلي والاوروبي ايضا. يبقى القول إن لا خيار أمام الأكراد والتركمان والعرب إلا البحث في سبل إعادة بناء الثقة في ما بينهم ما يؤهلهم ليكونوا عامل استقرار في العراق وهذا يتم عبر تنفيذ المادة 140 من الدستور الدائم. * كاتب سوري متخصص في القضايا الكردية