درجت أفلام الحروب التقليدية الأميركية والأوروبية والآسيوية على إسدال الستر وجوه على الأعداء. فالدور المناط بهؤلاء هو دور خيال الظل أو الفزاعة التي يطلق الأبطال ومناصروهم النار عليها. وهذا شأن الهنود الحمر في أفلام الپ"وسترن" رعاة الغرب التقليدية. وحملت السينما الأعداء على جسم مرصوص ومتشابه، والأعداء كلهم متشابهون، وطباعهم واحدة. ونزعت هذه الأفلام الصفات الإنسانية عن الأعداء. ويعود شحّ شخصيات الأعداء إلى أسباب عملية وأخرى دعاوية. فهوليوود عانت صعوبة في توظيف ممثلين أكفاء للعب دور اليابانيين أو الفيتناميين. وغالباً ما استعان المخرجون بممثلين أميركيين متحدرين من أصل ياباني لأداء الأدوار هذه، والتفوّه ببضع كلمات يابانية غير مفهومة في أوساط الأميركيين واليابانيين، على حد سواء. وشأن هوليوود، استعان المخرجون اليابانيون برجال"بيض"للقيام بدور الأميركيين. ومعظم هؤلاء"البيض"من التابعية الروسية، ولا يجيدون اللغة الإنكليزية، ولا يمتهنون التمثيل. والحق أن الدواعي الدعاوية إلى نفي الطابع الأنسي عن الأعداء تفوق الأسباب العمليّة أهمية. فأنسنة العدو تحمل المشاهد على الطعن في بطولة البطل أو الأبطال، وإدانة"إجرامهم"."فالبروباغندا"تصوّر العدو في صورة أقرب إلى الحجر والصنم منه إلى البشر. فالعدو"منزوع"الشخصية، على ما يقال منزوع الجنسية. ولكن أحوال عالم السينما تغيّرت. ونجح بعض المخرجين، من أمثال ستانلي كوبريك، في أنسنة العدو. وينفرد كلينت ايستوود بإخراج فيلمين عن معركة واحدة، هي معركة إيوجيما. ويعرض الفيلم الأول،"أعلام آبائنا"، هذه المعركة من وجهة نظر الأميركيين، والفيلم الثاني"رسائل من ايوجيما"، يرويها من وجهة نظر اليابانيين. وفي معركة إيوجيما في شباط فبراير 1945، قتل نحو سبعة آلاف جندي أميركي، وقضى نحو اثني وعشرين ألف جندي ياباني. وخلّدت صورة لستة جنود أميركيين يغرسون العلم الأميركي على قمة جبل سوريباشي، في جزيرة ايوجيما، التقطها المصور جو روزنتال، هذه المعركة. فغدت، أسطورة تحتفي بالانتصار على اليابان. وفي إيوجيما، واجه الأميركيون عدواً لا وجه له. فاليابانيون لجأوا إلى أنفاق أرضية وكهوف، وحاربوا الأميركيين من مخابئهم على أمل عرقلة اجتياح بلادهم الوشيك. ولا شك في أن الرواح إلى الحرب ليس نزهة. فآلة الحرب لا تكترث بمصير الافراد، فهي قد تفرط بحياتهم في سبيل تحقيق غاياتها. ويبدأ فيلم"أعلام آبائنا"بمشهد توجه اسطول البحرية الأميركية نحو أرض المعركة. ويبدو الجنود على متن السفينة الحربية سعداء ومتحمسين كما لو أنهم في مباراة كرة قدم. وعندما يسقط واحد من الجنود في البحر، لا يبالي الطاقم بانتشاله ويتركه يغرق. ويكاد ايستوود ينفي صفة البطولة عن الجنود، فهم أشخاص مثل سائر الناس، أرسلتهم قيادتهم إلى مكان يشبه الجحيم. وتنم بالجحيم هذا صور غير"ملوّنة"ولا برّاقة. ويحل محل الألوان قتام مكفهر. وتلاحق أطياف الحرب أبطالها العائدين إلى بلدهم في احتفالات النصر والمطاعم والمضاجع. وعمد بعض النقاد إلى تهمة ايستوود بالعنصرية. فالأفارقة - الأميركيون لا محل لهم ولا دور في فيلمه، على رغم مشاركة آلاف منهم في معركة ايوجيما. وعلى خلاف المخرجين غداة الحرب العالمية الثانية، حرص ايستوود على عرض معاناة عدد من الجنود في هذه الحرب، ولم يول تمثيل"أنواع"الجنود الأميركيين وفئاتهم اهتماماً، ولم يراعه. ولا شك في أن الأفلام تعجز عن نقل هول الحروب إلى المشاهدين. فبعث المعركة وفظاعتها يكاد يكون مستحيلاً. ولا يزين ايستوود الواقع، ولا يتستّر على هلع الابطال، أو خوفهم، أو قساوتهم، أو وحشيتهم وتضحياتهم. ففي"أعلام آبائنا"، يرى المشاهد عنف الجنود الأميركيين واجرامهم ونظير اجرام اليابانيين. فعلى سبيل المثال، حمل الكسل بعض افراد القوات الخاصة الأميركية على قتل أسيرين يابانيين للتخلص من ثقل مراقبتهما وحراستهما. وعلى رغم حرصه على إظهار الهوة بين الواقع الأليم وبين رواية هذا الواقع، بعد تجاوزه ومرّ الزمن عليه، لا ينفي ايستوود جواز الأعمال البطولية. ويظهر شريطه ضعف صلة البطولة الحق بالشعارات الرنانة، على غرار"القتال دفاعاً عن الحرية". فالصداقة أو الشجاعة، وليس البطولة، قد تحملان الجندي على إنقاذ صديقه المصاب بنيران العدو. ففي ايوجيما خاض الجنود معركة من أجل وطنهم، ولكنهم ضحوا بأنفسهم من أجل أصدقائهم. وجليّ أن تعاطفنا مع معاناة الآخر، الغريب عن ثقافتنا وغير الملم بلغتنا، عسير. ويصعب على الجنود المتقاتلين ادراك معاناة الآخر، والإلمام بها. فالجنود اليابانيون شأن نظرائهم الأميركيين لم يعرفوا يومها شيئاً عن اعدائهم الماثلين أمامهم. وكان يسيراً عليهم، تالياً،"شيطنة"الآخر الغريب. وتفادى ايستوود، المخرج الأميركي، الانزلاق نحو شيطنة اليابانيين. وتوسل إلى روايته برسائل مقاتلين يابانيين شاركوا في معركة ايوجيما. وكانت السلطات اليابانية وجدت هذه الرسائل في كهف من كهوف ايوجيما بعد سنوات على نهاية الحرب. وينجح ايستوود في أنسنة صورة العدو، وفي الكشف عن وجه"الكاميكاز"الطيّار الانتحاري الشخصي والإنساني. عن ايان بوروما مؤلف "جريمة في امستردام : موت تيو فان غوغ وحدود التسامح"، "نيويورك ريفيو أوف بوكس" الأميركية، 15 /2/ 2007