الحكاية، في البدء، حكاية صورة. هي صورة من أشهر ما التقطه المصورون خلال الحرب العالمية الثانية. مشغولة بعناية. مشهدها يحمل قيمة فنية لا تضاهى. ومع هذا لم تكن هذه القيمة الفنية ما أعطى الصورة شهرتها، في التاريخ الأميركي الحديث خصوصاً، وفي العالم، بل دلالتها الوطنية التي زاد من أهميتها حسن استخدام السلطات المعنية لها. وقبل الحديث عن هذا، لا بد من التذكير بالصورة نفسها: إنها تلك التي تمثل قبضة من جنود أميركيين يرفعون فوق قمة جبل أجرد، في مكان ما من جنوب شرقي آسيا، راية الولاياتالمتحدة وسط ما يبدو انه عصف ريح شديد. هذه الصورة اشتهرت خلال الشهور الأخيرة للحرب العالمية الثانية، كما اشتهر اسم ملتقطها جو روزنتال، الذي نال عليها، في ذلك الحين جائزة"بوليتزر"لأفضل صورة صحافية. ومن حينه والصورة معلقة في ملايين البيوت الأميركية وقد أضحت أيقونة حقيقية من النوع الذي لا يعود أحد يسأل عن حقيقته وعن ظروف ولادته. وكان يمكن هذه"المسلّمة"أن تبقى هكذا، لولا ان الممثل السابق؟ والمخرج الأميركي المبدع - منذ عقود - كلينت إيستوود رأى ذات يوم أن في إمكان هذه الصورة أن تكون أساساً لفيلم كبير. وبالفعل، أعوام قليلة بعد ولادة الفكرة لديه، ها هو الفيلم صار حقيقة وبدأ يعرض في مدن كثيرة باسم"رايات آبائنا". بل ان الفيلم صار فيلمين في الحقيقة، ذلك ان ثمة جزءاً ثانياً مكملاً له، ستبدأ عروضه أوائل العام المقبل في عنوان"رسائل من أيوجيما"... ومنذ البداية يمكننا، طبعاً، ان نتصور اننا هنا في ازاء فيلم حربي، يتحدث عن فصل من فصول تلك المذبحة المرعبة التي دارت خلال النصف الأول من أربعينات القرن العشرين في كل مكان من العالم تقريباً. والتصور، طبعاً في محله... لكن الحرب نفسها ليست كل ما في هذا الفيلم الذي نعرف الآن انه جزء أساس من مشروع شديد الطموح. فكلينت ايستوود، راعي البقر والمفتش التحري القاسي السابق، منذ بدأ يخوض الاخراج السينمائي - ما أوصله طبعاً الى أوسكار أحسن مخرج قبل عامين عن رائعته"طفلة بمليون دولار"-، آلى على نفسه ألا يقدم مواضيع عادية. وهو ما يفعله هذه المرة أيضاً. ومن هنا فإن"رايات آبائنا"يتجاوز مسألة كونه فيلماً عن الحرب، ليطرح، وسط التباسات قد لا تكون شديدة الحدة، مجموعة من المسائل التي تشغل بال كل فنان صادق ومجتهد: مسألة النجومية، مسألة الحرب، مسألة مصير أبطال الحروب بعد انقضائها... ثم، أخيراً وخصوصاً، مسألة الصورة نفسها. ولنبدأ هنا من هذه المسألة الأخيرة. صدقية صورة السؤال الأول الذي يتبادر الى الذهن هنا هو الآتي: هل هذه الصورة حقيقية أم مركبة - ناتجة من"ميزانسين"رسم بعناية ونفذ بدقة -؟ هنا لا يجيب ايستوود بصراحة، إذ يصل الالتباس لديه الى مستوى لم يعرفه عالم الدلالات في أي فيلم من أفلامه السابقة. لكن سياق الفيلم والطريقة التي وظفت بها الصورة، رسمياً، يفتحان الباب واسعاً على الاحتمالات كافة. ونحن نعرف ان السنوات الأخيرة، جاءت بالكثير من ضروب إعادة النظر في لغة الصورة ومفهومها وصدقيتها... والمثال الأفصح على هذا كان في فرنسا حيث من بعد ما كان الناس جميعاً يؤمنون لعقود طويلة بأن صورة دوانو الشهيرة"القبلة"صورة التقطها الفرنسي الشهير في باحة بلدية باريس، لعاشقين يتبادلان قبلة حقيقية احتفالاً بانتهاء الحرب، انكشف لاحقاً ان الصورة مركبة، وان العاشقين ممثلان دفع لهما دوانو أجرهما ليقفا ويصورهما! في"رايات آبائنا"ثمة، إذاً، اقتراح من هذا النوع، اقتراح يوحي بأن الصورة، في الأصل مركبة، صنعت أصلاً، وبالأسلوب الفني الرائع الذي حققت به كي يمكن استخدامها دعائياً، من ناحية لرفع المعنويات العامة، ومن ناحية ثانية، لجمع التبرعات من أجل المجهود الحربي. ليس ثمة، في الفيلم، تشديد واضح على هذا - فپ"رايات آبائنا"يلعب أساساً على الالتباس -، لكن فيه، في المقابل، استخدام اللوحة التي طبعت في ملايين النسخ ووزعت في كل البيوت وفي رفقتها ثلاثة من الجنود الظاهرين فيها وقد أعيدوا الى الوطن إثر تحولهم، بفضل الصورة، أبطالاً قوميين من الباب الرفيع. يومها طلبت حكومة روزفلت من الجنود الثلاثة ان يقوموا بجولات جمع التبرعات، بحيث كان في وسع الشعب الأميركي ان يرى عن كثب أولئك الأبطال بفضل مئات اللقاءات التي حولتهم نجوماً... لكنها في الوقت نفسه نسفت حياتهم بأقصى مما فعلت الحرب نفسها برفاقهم الثلاثة الآخرين الذين كانوا أبقوا في الجبهة. مصير جنود نعرف الآن ان كلينت ايستوود، الذي بنى فيلمه انطلاقاً من الصورة، استند في السيناريو الى نص وضعه ابن واحد من الجنود - النجوم الثلاثة، جون برادلي، عما كان أبوه قد رواه له... والكتاب أتى ليروي، كما الفيلم لاحقاً، فصول حياة وپ"مغامرة"ذلك الأب ورفاقه. ومن هنا ينقسم العمل كله قسمين: قسم يدور داخل معركة ايوجيما نفسها، وقسم يدور في الأراضي الأميركية من حول جولات الجنود والصورة وجمع التبرعات والدمار النهائي لحياة كل واحد من الثلاثة. ولئن جاء هذا القسم الأخير قاسياً، اتهامياً كما كان في زمنه فيلم"أجمل سنوات حياتنا"لويليام وايلر عن بؤس الجنود العائدين بعد انتصاراتهم ليجدوا حياتهم وقد تدمرت، جاء القسم الآخر، القسم الحربي حماسياً بطولياً من النوع المعتاد في هذا الصنف السينمائي، والذي كان سبيلبرغ أوصله الى ذروته في"إنقاذ المجند رايان". وهذا القسم، كما يمكننا ان نخمن، يتحدث عن تلك المعركة العنيفة التي دارت بين المهاجمين الأميركيين، والمدافعين اليابانيين، على أرض جزيرة ايوجيما اليابانية البركانية القاحلة بغية السيطرة على موقعها الاستراتيجي. وتاريخياً معروف ان الهجوم نجح في النهاية، ما مهد لغزو اليابان، ولذا ليس ثمة هنا مفاجآت على رغم عنصر التشويق والتقنية الرقمية العالية التي استخدمها ايستوود في الفيلم. المفاجأة الوحيدة في هذا القسم هي من نوع آخر: مشاهد المعارك والهجوم والانتصار، لا نرى فيها سوى الجنود الأميركيين. أما الأعداء اليابانيون فلا نراهم على رغم ان عددهم يتجاوز 22 ألف جندي وضابط. وهذا طبيعي في منطق الفيلم: اليابانيون المدافعون عن الجزيرة، كانوا مرابطين في أغوار الأرض، داخل أنفاق ومغاور وكهوف، وذلك تبعاً لاستراتيجية دفاعية مدهشة رسمها قائدهم الجنرال كوريباياشي. وهنا، مهلاً، قبل أن نتهم كلينت إيستوود بعنصرية تجعله يتجاهل وجود العدو لمصلحة الحضور الكلي للأميركيين، علينا أن نتذكر ما قلناه أول هذا الكلام من أن ثمة فيلماً آخر، يكمل"رايات آبائنا"سيبدأ عرضه بعد أسابيع قليلة. وهذا الفيلم هو"رسائل من ايوجيما"، ولطمأنة محبي التوازن نسارع الى القول ان هذا الجزء يدور كله في صفوف اليابانيين المدافعين، ذلك انه مأخوذ من كتاب آخر يحمل العنوان نفسه ويسجل الأحداث من وجهة نظر الجنرال الياباني الذي كان معروفاً ككاتب وشاعر ورسام، إضافة الى براعته العسكرية. وهكذا، إذاً، بدلاً من أن يقيم كلينت إيستوود المجابهة العسكرية داخل فيلم واحد، خص كلاً من الطرفين بفيلم يعبر عن نظرته الى الحرب. وطبعاً لا يمكننا منذ الآن، إذ لم نشاهد سوى فيلم واحد من الاثنين، أن نحكم في شكل قاطع على نظرة إيستوود الى الحرب. غير اننا، بالاستناد الى"رايات آبائنا"وقدرته - المضمنة غالباً - على تمجيد الحرب في الوقت نفسه الذي يسخر من سوء استخدام السلطة لابطالها، ويعبر فيه بمرارة عن ان الذين يحققون النصر هم دائماً من يدفع الثمن، يمكننا ان نفترض ان الروح الاجمالية للثنائي السينمائي هذا "رايات آبائنا"وپ"رسائل من ايوجيما" ستكون مناهضة للحرب، هذه الحرب التي نبه كلينت ايستوود، خلال مؤتمر صحافي عقده من حول فيلمه أخيراً الى عبثيتها، إذ قال في معرض حديثه عن عبثية كل الحروب وإمعانه، المُلتبس على أية حال، في تفكيك المثال الأعلى البطولي لكل حرب:"ان الناس يحاولون، في الحروب، قتل بعضهم بعضاً، وهم أنفسهم - في ظروف أخرى - كان يمكنهم ان يكونوا أصدقاء حقيقيين لبعضهم بعضاً". في أي تجاه؟ طبعاً سنعود لنقول هنا ان هذا الجانب العقلاني، من تفكير كلينت إيستوود حول مفهوم الحرب، قد يجد نسفاً كلياً له في مشاهد المعارك، لكنه سيظل حاضراً في الذهن لاحقاً ولا سيما حين يفرغ المرء من مشاهدة الفيلم والتحسر على مصير"أبطاله"، الهندي منهم الذي مات قهراً وهو يمضي وقته في إدمان المشروبات، والآخر الذي على رغم وسامته فشل في تحقيق حلم هوليوودي كان يسعى اليه، والثالث الذي مات شاباً معدماً من دون أن تشفع له نجوميته. في النهاية قد يتساءل المرء: أين الالتباس في هذا كله؟ والجواب بسيط، ان الفيلم كما يشاهد سيقول لنا في النهاية ان هؤلاء الجنود، انما سقطوا ضحايا نجوميتهم والصورة، أكثر مما سقطوا ضحايا للحرب والقتال. وفي هذا التأكيد وحده، ما فيه من دفع الى التفكير... ولكن في أي اتجاه؟ راعي البقر الأشهر صار فناناً إنساني النزعة كلينت إيستوود : ليس هذا فيلماً عن الحرب منذ سنوات يحتل كلينت إيستوود مكانة شديدة الخصوصية في السينما الأميركية والعالمية. فهذا الممثل المخضرم 76 سنة الآن ذو البدايات المتواضعة التي سبقت اندلاع شهرته في أفلام رعاة بقر شهيرة حققها في إيطاليا سيرجيو ليوني، ومنها"من أجل حفنة من الدولارات"، عرف أولاً بأدوار أميركية عنيفة جعلت كثراً يصنفونه فاشياً. لكنه لاحقاً، وخلال العقود الأخيرة، منذ انصرف الى الاخراج موزعاً وقته بينه وبين التمثيل في أفلامه وفي أفلام الآخرين، وبين تحقيق أفلامه الخاصة، تمكن من أن يثبت لنفسه مكانة استثنائية، إذ بالتدريج، وبعد عادية طبعت أفلامه الأولى، راحت أفلامه الأخيرة تنطبع بنزعة إنسانية وأسئلة وجودية حول القلق والبراءة والحياة، رفدتها تقنية فنية مميزة. وهذا كله أدى الى موقف محير للنقاد الجادين تجاهه أول الأمر، غير ان هذا الموقف راح يزداد وضوحاً، بحيث صار كل فيلم يحققه من"رجل الهضاب العالية"1973 الى"رايات آبائنا"2006 مروراً بپ"الفارس الشاحب"1985 وپ"لا تسامح"1993 وپ"جسر نهر ماديسون"1995 وپ"نهر المستيك"2003 ثم"طفلة المليون دولار"2004...، حدثاً يُنتظر. وينطبق هذا، خصوصاً، على هذا الفيلم الجديد الذي حققه بعد نيله أوسكار أفضل مخرج عن"طفلة المليون دولار"الذي لم يكن أول أوسكار يناله، كممثل أو كمخرج. وإيستوود، المعروف كمخرج، بدقته في العمل ولا سيما مع الممثلين الذين جمع في"رايات آبائنا"جيلاً جديداً منهم في كل معنى الكلمة، يمارس نشاطاً سياسياً، منذ حين، في السلطة هو بدوره محاط بالإبهام، من دون أن يعرف أحد ان يحدد ما إذا كان الرجل يمينياً أو يسارياً، ديموقراطياً أو جمهورياً. والحقيقة ان تصريحات إيستوود، حول قضايا السياسة والحروب، منظوراً إليها خارج سياق إنساني تتسم به أفلامه، لا تساعد أبداً على توضيح أي من الالتباسات التي تحيط بأفكاره، حتى وإن كانت أفلامه غالباً ما تفعل هذا، وفي الاتجاه الأكثر صحة. وهنا لا بأس من أن ننقل عن حديث صحافي أجري مع إيستوود، جوابه عن سؤال طلب منه أن يحدد ما إذا كان هو، شخصياً ضد الحرب أو معها، انطلاقاً من فيلمه الأخير، حيث قال:"شخصياً أنا في شكل عام لا أحب الحروب. وأنا لم أحقق"رايات آبائنا"لأية أهداف دعائية في هذا الاتجاه أو ذاك. وأكرر هنا: ليس هذا الفيلم فيلماً عن الحرب... فهناك ما يكفي من أفلام عن الحروب... أفلام جيدة وأفلام أقل جودة. وأنا، على أية حال، أحب أن أمضي بقية سنوات عمري، من دون أن أشهد اندلاع أية حرب جديدة في أي مكان من العالم. فالحرب دوامة شديدة البؤس، خصوصاً إذا نظرنا إليها من منظور ما يحدث حالياً في العراق...".