بعيد الحادي عشر من سبتمبر روّجت إدارة الرئيس بوش في وسائل الإعلام سؤالاً مفاده:"لماذا يكره العالم أميركا؟"حاولت الإدارة من خلاله كسب الرأي العام الأميركي، والتمهيد لنيتها العدائية تجاه العالم، مجادلة بأن سبب حنق الشعوب، خصوصاً المتخلفة - والتخلف مقصود به نحن العرب والمسلمين - هو ما يتمتع به الشعب الأميركي من حرية وديموقراطية ورفاهية، وبالتالي فإن من حق أميركا الدفاع عن مكتسباتها الإنسانية والتنموية، وسحق تلك الشعوب"البربرية". لكن بعد أكثر من خمسة أعوام من أحداث سبتمبر، التي شجبناها واستنكرناها، ارتكبت أميركا، وإدارة الرئيس بوش تحديداً، العديد من الممارسات الخاطئة والجرائم الفادحة ضد الشعب الأميركي والقيم الأميركية، وضد سائر الشعوب والدول والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، حتى أصبح كره أميركا الشعار المشترك للشعوب في جميع أصقاع العالم، وليس قاصراً على العرب والمسلمين الذين تحتل أميركا بلادهم وتوقع بهم أقوى صنوف الفتك وأشد الفتن تحت ذرائع شتى، منها: مكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه وتبديل الفكر المروج له، ونشر الديموقراطية، وإقامة الحريات، وتأكيد حقوق الإنسان، ونزع أسلحة الدمار الشامل. وفي ضوء ذلك نتساءل، أو نعيد طرح السؤال بالشكل الآتي: لماذا تحب أميركا أن يكرهها العالم؟ وهو موجّه في الأساس إلى اثنين: رئيسة الديبلوماسية العامة المعنية بتلميع صورة الإدارة الأميركية كارين هيوز، وإلى الديبلوماسي النشط المميز السفير السعودي الجديد المعين في الولاياتالمتحدة عادل الجبير، مع خالص دعائنا له بالتوفيق في مهمته الصعبة. بداية، لا بد لنا من أن نجادل بأن تفكك الاتحاد السوفياتي السابق وبقاء الولاياتالمتحدة اللاعب الأوحد والقوة الأعظم، أديا إلى تفرد أميركا بزعامة العالم مدعومة بتفوق سياسي واقتصادي وتقني واستراتيجي غير مسبوق. الأحادية القطبية التي أخذت الفكر الاستراتيجي الأميركي على حين غرة، كما جادل بذلك هنري كيسنجر، شكلت بداية المعضلة، فانطلقت الولاياتالمتحدة تتخذ خطوات أحادية الجانب في قضايا البيئة والجريمة والتجارة العالمية، والتصرف برعونة وصلف في المؤسسات الدولية الاقتصادية والسياسية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد ونادي باريس ووكالة الطاقة الذرية والحلف الاطلسي ومجلس الأمن الدولي، حتى استحقت كره الشعوب والحكومات على حد سواء. يقول أستاذ التاريخ السياسي مايكل هوارد:"تتعاظم قوة الدولة حتى تصاب بالعمى، وعندها يصبح كل شيء مفاجئاً". جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر فصبت الزيت على النار، وحاولت أميركا المجروحة في كبريائها وعظمتها وأمنها ألا تقبل أي جدل حول الأسباب والدوافع التي حدت بمجموعة من الأفراد إلى القيام بجرائم إرهابية ضد المصالح الأميركية في الخارج، وأخيراً في الداخل الأميركي. زمجر بوش الابن وأرعد وأزبد، وهو الذي كان حينها قليل المعرفة بالسياسة العالمية، كما خرج للتو من أكبر وأطول تشكيك في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية، فزين له نائبه ديك تشيني، الرئيس الفعلي للسياسة الأميركية، والمحافظون الجدد خلف الكواليس ومن حوله، استخدام القوة المفرطة كملاذ آمن لرفع الروح المعنوية وتعويض النقص في شخصيته المرتبكة، وبأهمية خاصة، استخدام الأحداث وسيلة لتنفيذ الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة. أما الدول الأخرى في الغرب والشرق على السواء، فلزمت الصمت تجاه هذا"العملاق الضخم"، كما وصفها بذلك البروفيسور بول كينيدي، الجريح في شريان مهم من شرايينه، ومضت تلك الدول في مداهنة الإدارة الأميركية بعد أن أعلن زعيم البيت الأبيض أن"من ليس معنا فهو ضدنا". في الجانب الآخر، شعرت بعض الدول، ومنها السعودية، بشيء من التعاطف مع أميركا، لأن مجموعة من مواطنيها قاموا بذلك العمل غير الاخلاقي، فأظهرت مزيداً من التعاون والتأييد تأكيداً لرفضها الإرهاب. لكن الأمر تطور من ملاحقة الفاعلين أو من يقف وراءهم، إلى"حرب على الإرهاب"، ولم تعد سياسة رد فعل بل أصبحت ركيزة أساسية من ركائز استراتيجية طويلة المدى، يشكل فيها"الإرهاب"غير المعرَّف أو المعروف، العامل المشترك لخدمة المصالح الأميركية الواسعة والمطاطة. وبهذا أصبح"الإرهاب"هو العدو الجديد الذي طالما احتاجت إليه وابتدعته العقلية الأميركية لتثبت وجودها وتفوقها، بدءاً بالإنكليز، ثم النازية، فالشيوعية، فالإسلام الذي تحاربه أميركا الآن تحت مسمى الإرهاب. سياسة الرد الأميركي المفرط في القوة أظهرت بوضوح نتائج غير متوقعة، تجلت في حجم الذعر الأميركي، وقابلية السقوط بيد الأعداء Panic & Vulnerability، ما جعل مصطلح"القاعدة"ماركة إرهابية بامتياز ترتديها جماعات العنف في كثير من بلدان العالم، من دون ان يكون بينها رابط في كثير من الأحيان، ومع أن الانتفاض الشعبي وما يصاحبه من عنف، الذي تصفه أميركا اليوم ب"الإرهاب"، كان توأماً لقيام الدولة الحديثة منذ معاهدة"ويستفاليا"، واتخذ أشكالاً وأسماء شتى، لكن الفارق في ما يحدث اليوم هو عولمة العنف أو"الإرهاب". وهكذا، ظل العالم ضحية اثنين من السذج: جورج بوش واسامة بن لادن، يسيَرهما في الخفاء اثنان من الخبثاء: ديك تشيني وايمن الظواهري. والمثير أن"الإرهاب"كعدو محتمل يحمل خاصية مختلفة استهوت الخيال الاستراتيجي الأميركي، إذ إنه لا يرتبط بدولة أو منظومة من الدول بعينها يمكن أن تهزم أو تُفكك، كما هي الحال في الاتحاد السوفياتي، أو ألمانيا النازية، أو الدول الفاشية. الخاصية الجديدة تمنح العدو الجديد الديمومة والمرونة، بحيث يمكن للإدارة الأميركية أن تنتقي وتختار Pick & Choose بما يخدم مصالحها في الزمان والمكان. وفي الجانب الآخر، تقضي الاستراتيجية العظمى للولايات المتحدة بالسيطرة على مناطق النفط الحساسة، تحسباً لأي تحرك من الصين غرباً باتجاه منابع النفط بعد عام 2015، وأيضاً التحكم في الارتفاع التدريجي للأسعار لخلق ميزة تنافسية مع الصادرات الصينية ذات الكلفة المنخفضة. بدأت الإدارة الأميركية تنفيذ استراتيجيتها بحرب على أفغانستان، ثم ما لبثت أن ربطت العراق بتشجيع الإرهاب وعلاقة مع"القاعدة"وامتلاك أسلحة دمار شامل، فتحولت الآلة العسكرية الأميركية إلى الرافدين، وأسقطت النظام الذي لم يكن يملك رصيداً لوجستياً أو شعبياً أو معنوياً جيداً للدفاع عن نفسه، وانتهى الأمر باحتلال العراق أرضاً وشعباً وثروات. ومن العراق تم ربط إيران وسورية بالإرهاب داخل العراق وخارجه، بحجج مختلفة لا تختلف عمّا تم تلفيقه للعراق، وكأن الدولتين تقعان في كوكب آخر ولا ترتبطان جيوسياسياً وجيوثقافياً مع العراق منذ سالف الأزمان، وبعد ذلك تم ربط لبنان وحركة"حماس"بإيران وسورية، وهكذا استمر الربط من حلقة إلى أخرى تحت مسمى وذريعة الإرهاب. الأكيد هو، كما أن الإرهاب عمل شيطاني، فإن المخطط الأميركي باختيار الإرهاب ليكون العدو الجديد عمل أكثر شيطانية. جاء الاحتلال الأميركي للعراق لكي يفضح ويعرّي القيم الأميركية، أو للموضوعية، ليكشف الوجه القبيح لقيم أميركية لم تكن تظهر في أفلام هوليوود، أو تجمّلها وسائل الإعلام، أو يتهافت عليها الناس في برامج"مايكروسوفت"و"الإنترنت". فمن كذبة الجنرال كولن باول المدعومة بصور الأقمار الاصطناعية في مجلس الأمن، لتسويغ احتلال العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل، التي ثبت أن ليس لها وجود أصلاً، إلى فضائح سجون أبي غريب وغوانتانامو وسجون متفرقة في دول كثيرة في البر والبحر، وقائمة الفضائح والكذب تطول. فشلت الإدارة الأميركية في إدارة العراق منذ اللحظة الأولى، وللحقيقة، حتى قبل اللحظة الأولى. فقد اعتمدت الإدارة الأميركية في تخطيطها لغزو العراق واحتلاله على تقارير مغلوطة، جزء منها من جهاز"الموساد"الإسرائيلي، ومعلومات سطحية من مجموعة يجمع بينها مصطلح المعارضة لكنها ليست من المعارضة في شيء. البعض منهم خرج من العراق معارضاً للملكية، والبعض إبان حكم عبدالكريم قاسم، وهكذا كل مجموعة خرجت خلال فترة حكم تختلف تماماً عن سابقتها. لم يعد الفشل الأميركي تفكيراً بالتمني أو مماحكة سياسية، بل حقيقة واقعة تظهرها أرقام الوفيات من الجنود الأميركيين، وازدياد ظاهرة العنف، ووصول العراق إلى شفير الحرب الأهلية. والمضحك المبكي في آن واحد، الذي يجعلنا نتعجب ونستغرب ونطرح السؤال: لماذا تحب أميركا أن يكرهها العالم؟ ان إدارة بوش ما زالت عند صلفها في إلقاء التبعة على دول الجوار، وتهدد إيران وسورية و"حزب الله"و"حماس"، وتصف الإسلام ب"الراديكالي"و"الفاشي"، وتزيد من قواعدها حتى شملت القرن الأفريقي، كما أعلن وزير الدفاع الجديد روبرت غيتس أخيراً. في الوقت ذاته، تزيد أميركا من دعمها لحزب"كاديما"المتهلهل وسياسة إسرائيل الإرهابية، مع تشجيع من دون حدود، وبذلك تطابقت السياسة الأميركية والأهداف الإسرائيلية على نحو يدحض أي مزاعم في شرق أوسط ينعم بالأمن والاستقرار والتنمية، كما أكدت الممارسات الأميركية الريبة والشك في أية جهود سلام أو مبادرة إحياء، وان تلك النشاطات ليست إلا تخديراً للشعوب يسبق قيام أميركا بضربة في مكان ما من الشرق الأوسط. مقولة"فتّش عن أميركا"أصبحت الوصف لما يجري في منطقة الشرق الأوسط، حتى أصبح كره أميركا صنواً للمواطنة والانتماء في أوساط العامة. وثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن أميركا تجهل ما تفعل، وفقدت الصدقية تماماً، والأدهى أنها لا تترك لأصدقائها في المنطقة الذين تسميهم المعتدلين مساعدتها في وضع الحلول المناسبة، أو العثور على مخرج من مأزق كانت هي السبب وراءه، بل أحرجتهم أمام شعوبهم والعالم أجمع، ولم يكن من المستغرب أن يتفق الجميع شرقاً وغرباً على كره السياسة الأميركية وإدارتها المقيتة، من رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد، الذي وصف بوش وبلير ب"قتلة الأطفال"، إلى الرئيس الفنزويلي شافيز، الذي يؤكد في كل محفل صفاقة السياسة الأميركية وسذاجة الديبلوماسية الأميركية والصلف والجهل الأميركيين. في عام 1994 سأل مذيع قناة CNN مواطناً أميركياً عن رأيه في كأس العالم، فأجاب بالحرف الواحد"World Cup-! ..hmm..I don"t know we have troops over their"، المواطن الأميركي نشأ وترعرع على عدم الاكتراث بما يدور في الخارج، ولا يفرق بين"ميدل إيست"- الشرق الأوسط - و"ميد وست"في أميركا، لكنه تعرف على العالم من خلال إرسال المواطنين الأميركيين جنوداً إلى مناطق مختلفة من العالم، وعودتهم إما في أكياس سود أو جرحى يعانون من كثير من الأمراض والتشوهات النفسية. شعوب العالم تحب أن تتعرف على الثقافة الأميركية عن طريق بيل غيتس صاحب شركة"مايكروسوفت"رئيس قوة أميركا الناعمة، ولكنها في الوقت نفسه وبالقدر نفسه، تكره القيم التي يفرضها المسؤول في البنتاغون ورئيس قوة أميركا الصلبة والمدمرة أيضاً روبرت غيتس. ختاماً، العالم لا يكره أميركا ولا يمكنه أن يكرهها، لأن في كثير من قيمها وثقافتها شيئاً من الإيجابيات، لكن أميركا هي التي تكره العالم أو تجبر العالم على كرهها، بوجود رئيس ساذج وإدارة أسوأ من"الجمرة الخبيثة"، سيرحلون بعد أن يتركوا لأميركا إرثاً ومخزوناً كبيراً من الكراهية، يستغرق التخلص منه سنوات من العمل الإنساني والتعامل مع الشعوب بعدالة أكثر ومساواة أكبر. * باحث سعودي.