التحقت روسيابالولاياتالمتحدة واسرائيل في تبني عقيدة الحروب الاستباقية والضربات الوقائية لمواجهة الارهاب باستبعاد الحلول السياسية والديبلوماسية للنزاعات وتعزيز مبدأ الحسم باللغة العسكرية حصراً. الارهابيون أوصلوا العالم الى هذا المفترق، لكن السياسيين اتخذوا من حرب الارهاب ذريعة لتسويق مواقف عقائدية قديمة واستراتيجيات سياسية متحاملة. حرب الارهاب غير قابلة للانتصار طالما ان الحكومات تتبنى سياسات تقوّض وتضعف المقاومة الشعبية الضرورية للخيار الارهابي، سياسات على نسق شن الحروب الاستباقية والتذرع بالارهاب لرفض الحلول السياسية. إلحاق الهزيمة بالارهاب يتطلب نهوض القاعدة الشعبية في الدول العربية والاسلامية ضد أداة الارهاب وسيلة للاحتجاج لعزل المتطرفين الذين يباركون استخدام هذه الأدوات. يتطلب أيضاً منع الحكومات من اقتناص فرصة الحرب على الارهاب لتقليص النزاعات السياسية الى مجرد معركة مع الارهاب. وهذا بدوره يجعل من الحيوي ان تنهض القاعدة الشعبية الأميركية والروسية والاسرائيلية ضد استراق خوفها وغضبها من الارهاب لتجعل منه الحكومات سلعة انتقامية قصيرة النظر مؤذية جذرياً للأجيال المقبلة في كل مكان بلا استثناء. مجزرة مدرسة بيسلان هذا الاسبوع أخذت الارهاب الى بعد جديد من البشاعة في عبورها الخط الأحمر باحتجاز الأطفال رهائن لأيام قبل قتل مئات منهم أثناء المعركة مع القوات الروسية. هذه المجزرة ارتكبت باسم الشيشان لتوجيه الأنظار الى نزاع مع الحكومة الروسية وإفراط روسيا في استخدام القوة العسكرية ضد الشيشان رافضة الحلول السياسية. ما انجزته هذه العملية البائسة هو اسقاط العدالة عن المسألة الشيشانية ووصمها بقذارة مدهشة في ذاكرة العالم. حققت للرئيس الروسي فلاديمير بوتين حلم حشد التعاطف العالمي معه ضد الشيشان. أعطته الذخيرة لتبني مبدأ الاستباقية لشن هجمات ليس فقط في الشيشان وانما في منطقة الشرق الأوسط الأوسع، وعندما يشاء. هذا ما يحصره الذين يرتهنون الأطفال والأمهات والمدرسات باسم أية قضية كانت، وهكذا تضيع القضايا في طيات الاحباط والانتقام. الانتقام بات اليوم نداء عالمياً تصرخ به الحكومات والمنظمات على السواء في حرب الارهاب. حلقة الدعوة الى الانتقام والنقمة باتت حلقة مفرغة مرعبة ممتدة من قاعات المؤتمرات الحزبية في أميركا الى الشرق الأوسط الأوسع الى روسيا والشيشان الى الكهوف في افغانستان. ما أتى به ارهاب 11 أيلول سبتمبر قبل ثلاث سنوات هو اللعنة على العرب والمسلمين ربما لعقود آتية وليس لمجرد سنوات. 9 / 11 لم يعد مجرد تاريخ ارهاب أصاب أميركا وأسقط البرجين التوأمين في"وورلد ترايد سنتر"في نيويورك. 9 / 11 تعدى كونه حدثاً لا ينسى ولا يغتفر لدى الأميركيين، لقد أصبح تعهداً وعهداً يقطعه على نفسه كل سياسي أميركي. حين ابتهج البعض في الساحتين العربية والاسلامية بما اعتبره ضرب"شموخ"أميركا في البرجين وجعله حطاماً يلقنها درساً، كان هذا البعض في غاية الجهل وليس فقط في حضرة الانتقام البائس. فما أتى به ارهاب 9 / 11 على أيادي عرب ومسلمين ورّط المنطقة العربية والمسلمة في مآس لم تذق سوى طعم منها. في هذه الحقبة من التاريخ، مستحيل على العالم فهم أميركا أو التفاهم معها بدون استيعاب بسيكولوجية 9 / 11 على الصعيدين الشعبي والحكومي. وهي سيكولوجية حقاً معقدة أثارتها أولاً الصدمة بمجرد وقوع مثل هذا الارهاب في البيت الاميركي، ثم استيعاب معنى تعرّض نيويورك وواشنطن الى هجوم الطائرات المتفجرة على أيادي شبكة"القاعدة"، ثم طرح الاسئلة على نسق"لماذا يكرهوننا"وبعدها"كيف يجرأون"، ثم التعهد بالانتقام لمعاقبة من تجرأ، ثم الوقوع في طيات الخوف، ثم التوعد"بقتلهم قبل أن يقتلونا". إذا كان الفرد الأميركي العادي خائفاً من الارهاب أو مشبعاً بالكراهية والانتقام ممن ارتكب ارهاب 9 / 11، فإن الادارة الأميركية قد جعلت من 9 / 11 مفتاحاً لتنفيذ سياسات واستراتيجيات عقائدية وانتخابية. وللتأكيد، ليس الحزب الجمهوري وحده الذي جعل من 9 / 11 واجهة افتتاح واختتام لمؤتمره في نيويورك وانما أيضاً الحزب الديموقراطي في مؤتمره في بوسطن بنى على 9 / 11 لحشد المشاعر الوطنية/ القومية الأميركية. الفارق ان الحزب الديموقراطي ارتكب خطأ ابراز شخصية مرشحه للرئاسة جون كيري كعسكري قاتل قبل ثلاثين سنة في فيتنام، فيما أبرز الحزب الجمهوري مرشحه جورج دبليو بوش كقائد الحرب على الارهاب الحرب التي انطلقت صباح 9 / 11 قبل ثلاث سنوات. ببنائه على سيكولوجية 9 / 11 لم يبال الحزب الجمهوري ان بالغ هنا أو أفرط هناك طالما نجح في إحياء الخوف وربطه بالانتقام، مؤتمره طال أربعة أيام من التحريض والتشبيع بالحقد والكراهية وضرب طبول الحرب الاستباقية. تعمد استدعاء ارهاب 9 / 11 لحشد العداء ضد"العدو"الجديد ودب الرعب في قلوب الأميركيين من خلال ربط العدو الارهاب بقدراته على امتلاك أسلحة الدمار الشامل. نائب الرئيس ديك تشيني لم يكتف بحفر الرعب في الأذهان اثناء المؤتمر الاسبوع الماضي مع التباهي بما أسماه انجازات الادارة الحالية. فلقد حذر قبل يومين من أن أميركا تخاطر بهجوم ارهابي آخر على أراضيها اذا"اخطأت"الاختيار بين بوش وكيري. ولمح تشيني الى ان كيري سيعيد أميركا الى اسلوب ما قبل 9 / 11 من رد الفعل الدفاعي بدلاً من الاسلوب الهجومي الاستباقي الذي تبناه بوش في أعقاب 9 / 11. وهدفه من هذا يتعدى التشكيك بكيري. هدفه دعم الفكرة التي تزرعها أداة بوش في الذهن الأميركي القائمة على أخذ حرب الارهاب الى خارج الأراضي الاميركية حماية لأرواح الأميركيين وللأمن القومي الأميركي. هذا الكلام يعجب الأميركيين عامة برغم ما ينطوي عليه من نبرة عنصرية تستبيح استخدام دول أخرى ساحة للحرب على الارهاب مهما كلفت من أرواح طالما انها غير أميركية. جورج دبليو بوش تمكن من زرع فكرة الدفاع عن الولاياتالمتحدة عبر"البقاء في وضع هجومي، نضرب الارهابيين في الخارج كي لا نضطر الى مواجهتهم هنا في بلادنا"، كما قال أخيراً في خطاب قبوله الترشيح الجمهوري الرسمي لولاية ثانية. عدم توفر أية أدلة على أي دور للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين في ارهاب 9 / 11 لم يثن الرئيس الأميركي عن الربط مجدداً بين صدام و9 / 11 في مؤتمر الحزب. كذلك عدم اكتشاف أية أسلحة دمار شامل في العراق بعد الحرب فيه لم يضعف عزيمة بوش في تبريره الحرب. لذلك تباهى بوش بحرب العراق بذريعة الرد على ارهاب 9 / 11 وقال:"هل أنسى دروس 9 / 11 وأصدق كلمة مجنون صدام حسين؟ أو هل اتخذ اجراء للدفاع عن بلادنا؟". ذاكرة الأميركيين متقلبة ومتقبلة للنسيان ولأي انطباع جديد. الحزب الجمهوري لعب أوتار هذه الذاكرة مدركاً ان لارهاب 11 أيلول عام 2001 موقعاً فريداً من نوعه في الذاكرة الأميركية لا يساويه أي حدث آخر في التاريخ الأميركي الحديث، لذلك صوّر الحزب كامل المعركة على الرئاسة بأنها معنية"بكيفية رد اميركا على خطر الارهاب المستمر". ما أنجزه الحزب الجمهوري هو رسم الانطباع في ذهن كثير من الأميركيين بأن الحروب الاستباقية مجدية وضرورية. تباهى الرئيس الأميركي بما اسماه"نجاح استراتيجيتنا"في العراقوافغانستان ومنطقة الشرق الأوسط الأوسع برمتها متجاهلاً عمداً ان حربي أميركا في افغانستانوالعراق مستمرتان لم تنتهيا بالنجاح الذي زعمه. عزا ما تقوم به السعودية في حملتها على الارهابيين الى الاستراتيجية الاميركية الحازمة كما عزا تفكيك ليبيا لبرامج أسلحتها الى تلك الاستراتيجية. بذلك، كان بوش يقول ضمناً ان استراتيجية الضربات الاستباقية هي التي جعلت السعودية وليبيا تتجاوبان. خطر اقناع الرئيس الأميركي نفسه وشعبه بأن حزمه في العقيدة الاستباقية هو الذي حقق النجاح في حرب الارهاب يكمن في اعتماده حصراً على المعالجة العسكرية لكل الأمور. ما فعله جورج دبليو بوش في خطابه الرئيسي أمام المؤتمر الاسبوع الماضي هو أنه اختزل سياسته نحو منطقة"الشرق الأوسط الأوسع"الى كلمة"الحرية"بصفتها الوسيلة السحرية الى حل النزاعات السياسية وحشد شعوب المنطقة حليفاً لأميركا في حرب الارهاب. تحدث عن ايمانه بالحرية"كقوة تغيير"بنبرة لها الدعوة الدينية. بالطبع، ان شعوب"الشرق الأوسط الأوسع"تشتاق الحرية وتشتهيها. لا جدال في ذلك. وبالتأكيد، ان أكثرية هذه الشعوب الساحقة تكره الأنظمة التي تحكمها وتتحكم بها. انما بدون شك، هذه الشعوب لا تحمّل أنظمتها وحكوماتها فقط مسؤولية ايصالها الحضيض وانما تحمل الولاياتالمتحدة أيضاً جزءاً مهماً من المسؤولية بسبب سياساتها نحو المنطقة من حماية تلك الأنظمة من أجل استخدامها لضمان تدفق النفط بأسعار متدنية، الى دورها في صنع الارهاب في افغانستان لإلحاق الهزيمة بالشيوعية. هذه الشعوب لا تصدق نداء الحرية الذي تطلقه الإدارة الأميركية المختلط بنداء الانتقام وهي لا تثق بالحرية الموعودة عبر تنفيذ العقيدة الاستباقية. لذلك، لن تكون حليفاً في الحرب على الارهاب بمجرد أن تأتي عليها أميركا بوعد الحرية. ما سيجعل شعوب منطقة الشرق الأوسط الأوسع حليفاً استراتيجياً في الحرب على الارهاب هو"الاستثمارات"التي قامت بها المجموعات الارهابية وما"جنته"من مآس على شعوب المنطقة. هذه الشعوب لن تتحالف مع"المعارضة"للأنظمة التي تتخذ الارهاب سلاحاً لها يستبيح الأبرياء من أجل وصولها السلطة مهما أرادت التخلص من حكوماتها. وهي أيضاً لن تريد الخلاص من أنظمتها عبر العربة الأميركية طالما ان السياسة الاميركية متحاملة على القضايا العربية وطالما الادارة الاميركية مليئة باعتذاريين لاسرائيل حقودين على العرب والمسلمين غايتهم ضمان تفوّق اسرائيل وهيمنتها. الارهاب الفظيع على نسق ارتهان الأطفال في روسيا أو ارتهان الصحافيين في العراق هو الذي بدأ يحشد غضب شعوب منطقة الشرق الأوسط الأوسع ويطلق حملة انتقاد للذات. في أعقاب 9 / 11 برز هذا الشعور لدى شطر مهم من الرأي العام العربي والمسلم في تضامن مع الأميركيين نسفته السياسات الأميركية نحو المنطقة لاحقاً. فلقد برزت فرصة دق المسمار الأخير في كفن المجموعات المتطرفة والارهابية في المنطقة، لكن الادارة الاميركية اختارت بدلاً سياسات عززت التطرف وقوّضت الاعتدال وجعلت من اليقظة في الساحة العربية والمسلمة حلماً سريع الزوال. الآن، إذا كان لنفاد الصبر من أدوات الارهاب ان يصبح ظاهرة شعبية عربية ومسلمة لقوة تغيير داخلي متماسك، على الرأي العام العالمي ان يضغط على حكوماته كي لا تفوّت الفرصة مرة أخرى باسم مكافحة الارهاب على الطريقة الاستباقية. عليه ان يطالبها بالكف عن استخدام حرب الارهاب مبرراً لسياسات فرض الحلول العسكرية المتحاملة على أمثال الفلسطينيين والشيشانيين مع استبعاد الحلول السياسية بشبه الغاء لها. واضح ان لا حل وسطاً ولا تفاوض بين الحكومات والمنظمات أو الحكام والأفراد في حرب الارهاب. الأمل الوحيد بعدم تحول هذه الحرب الى حرب فناء هو القاعدة الشعبية العالمية. فالرأي العام العالمي يبقى مجرد رأي بلا أثر طالما يترك مصيره في أيادي الآخرين. هذه المرة، لن يكون الرأي كافياً، فإما الانخراط الحقيقي للقاعدة الشعبية العالمية لابلاغ جميع المعنيين انها لم تعد سلعة للاستهلاك، وإما السقوط في دوامة الهلاك. يبقى ان العرب بالذات هم المهددون بدفع الثمن الأكبر للعنة الارهاب. لذلك حان للشعوب العربية التفكير العميق في افرازات حرب الارهاب عليها وباستراتيجية لاستباق الافرازات تدهش جميع اللاعبين في حرب الارهاب. استراتيجية الصراخ كفى في وجه نداءات الانتقام.