السنة الماضية، عندما خاطب الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش القمة العالمية من منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، جعل كعادته من الارهاب الركيزة الأساسية في السياسة الأميركية لدرجة الهوس. وعندما انعقد مجلس الأمن الدولي بمبادرة من رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في تلك الجلسة"التاريخية"يوم افتتاح القمة بهدف التركيز على"محاربة الفقر"، انتجت الجلسة قراراً دان"تمجيد"الارهاب وتبريره وطالب بصك القوانين لمنع"التحريض"على ارتكابه. ذلك الانصباب على موضوع الارهاب في حينه زاد من تمجيده، في الواقع، وساهم في اعطائه مكانة خطيرة على قائمة الأولويات العالمية في قمة شراء الوقت. والآن ان ما يحدث من تسويق للهوس بالارهاب لغايات انتخابية انما يخدم غايات الارهابيين ويفاقم سأم الناس العاديين من إقحام الارهاب في كل حديث وملف ومناسبة لدرجة أخذه بجدية مبتورة. ذلك، فمن الأفضل لبوش ان يخاطب الجمعية العامة هذه السنة ملفاً ملفاً، بواقعية صدق بالقدر الذي تسمح به الاعتبارات السياسية، بدلاً من زج الملفات تحت عنوان الارهاب والحرب عليه. فلو فعل، لربما يساهم قليلاً في إعادة القليل من المنطق والتفاهم والأخذ والعطاء ولربما يراجع هو نفسه متطلبات قطع الطريق على كثير من الارهابيين تنظيمات كانوا أو جماعة أو أفراداً. أول ما على الرئيس الأميركي وادارته وعلى الرأي العام الأميركي ان يدركه هو أن أكثرية العالم لا تفهم السياسة الأميركية التي أطلقها ارهاب 11 ايلول سبتمبر عام 2001، وهي ايضاً لا تقبل بتقديم العالم قرباناً لحرب اميركية انتقاماً لارهاب وقع في أراضيها. عندما أصاب الارهاب نيويورك وأسقط البرجين التوأمين، بلغ التعاطف العالمي مع المدينة ومع الولاياتالمتحدة أقصى الحدود وبقي هكذا لفترة طويلة. ما أدى الى التحول النوعي في العاطفة العالمية في أعقاب تلك الفترة هو سياسة ادارة جورج دبليو بوش التي استولى عليها حينذاك المحافظون الجدد والمتطرفون داخل الادارة الأميركية وأبرزهم نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد وطاقمهم. لن نعرف ماذا كان الوضع العالمي اليوم لو ركزت الادارة الأميركية حربها على الارهاب قبل خمس سنوات على شبكة"القاعدة"التي قامت بعمليات 11 أيلول سبتمبر. لن نعرف ان كانت الادارة الأميركية ستسحق"القاعدة"وقيادتها لو أخذت الرأي العام العالمي - والاسلامي منه - حليفاً في الحرب على ايديولوجية التدمير والدمار التي تتبناها"القاعدة"وركزت قطعاً عليها. لن نعرف ان كانت الولاياتالمتحدة الأميركية ستختم التفرد بالعظمة على جبين الأجيال الأميركية القادمة لو لم يرتهنها المحافظون الجدد في العقيدة الاستباقية كما فعلوا. نعرف انه بعد 11 ايلول سبتمبر قررت ادارة جورج دبليو بوش ان"العدو"هو حكومة الطالبان في افغانستان وأسدلت بعض الستار على"القاعدة"وقائدها اسامة بن لادن. كثيرون فوجئوا بذلك ولكن أعطوا ادارة بوش فرصة اسقاط حكومة طالبان كمحطة أولى نحو استئناف الحرب على"القاعدة"، التي قامت بعمليات 11 أيلول سبتمبر، تماماً في افغانستان. لكننا نعرف ان زمرة المحافظين الجدد قررت، بدلاً ان تستخدم ارهاب 11 ايلول لتحقق غايات أخرى لطالما عملت عليها وصبرت الى حين الفرصة المؤاتية، ان الفرصة أتت حالما تبين ان الارهاب الذي حل بأميركا ارهاب عربي، فتوفرت لديها أدوات تفعيل خطط حرب العراق. نعرف ان حرب العراق كانت لها مبررات وذرائع زئبقية تراوحت بين اسلحة الدمار الشامل وعلاقة مزعومة بين استبداد الرئيس المخلوع صدام حسين وارهاب اسامة بن لادن، انما نعرف ايضاً ان جورج دبليو بوش تحدى الذين قاموا بعمليات 11 أيلول وأمثالهم بالتوجه الى العراق للمبارزة في حرب ارهاب بعيداً عن المدن الاميركية، فلبوا الدعوة. وهكذا أصبح العراق الجبهة الرئيسية في حرب الارهاب وتم تحويله بذلك الى مشروع فاشل. هكذا أصبح العراق موقع قدم انزلاق العظمة الاميركية وأثمن هدية قدمتها الادارة الأميركية الى كل من اسرائيل والجمهورية الاسلامية الايرانية. اضافة الى ذلك، ان العراق الآن أصبح"بعبع"التحول الديموقراطي في المنطقة العربية وهو ايضاً النموذج المرفوض لما يترتب على اسقاط الأنظمة العربية، الديكتاتورية منها والانتهازية، الملكية أو الجمهورية، بسبب ما ألم به من بؤس وخراب. نعرف ان الثنائي تشيني - رامسفيلد وزمرتهما حاربوا وزير الخارجية حينذاك، كولن باول، ومنعوه من تولي الملف العربي - الاسرائيلي وحاربوه لدرجة النجاح في تقزيمه الى مجرد جندي يلبي الأوامر، ثم، يستقيل. ونعرف ان وزيرة الخارجية الحالية، كوندوليزا رايس، لعبت اللعبة بحسابات دقيقة اذ انها فهمت تماماً متطلبات زمرة المحافظين الجدد، وأبرزها كان تحجيم وتقليص القضية الفلسطينية الى"ارهاب". لو انصب جورج دبليو بوش على تنفيذ تعهده بتنفيذ رؤية قيام دولة فلسطين بجانب دولة اسرائيل على أساس انهاء الاحتلال كما تعهد في أول خطاب له قبيل اطاحة المحافظين الجدد بفحوى ذك الخطاب في نيسان/ ابريل عام 2002 لكانت أميركا اليوم في وضع أفضل بكثير مما هي عليه ولكان العالم اليوم أكثر تناغماً وتفاهماً مع اميركا. لكن هذه الزمرة البائسة التي تقتات على الغطرسة وتتجرع اللؤم وضعت المصلحة الأميركية خلف المصلحة الاسرائيلية ولذلك ورطت جورج دبليو بوش في حرب العراق قبل حل النزاع العربي - الاسرائيلي على أساس انهاء الاحتلال. تجرأت على ذلك في اختطاف مدهش لرئيس حدث وأنه في غاية الايمان بتوكيل الهي له للقيام بمهمة عنوانها، حسب تصوره، نشر الحرية والديموقراطية في بقعة من العالم تتسلط عليها الديكتاتورية. بالفوضى أو بالحروب، بالاقناع أو بالارغام، قرر جورج دبليو بوش حنذاك انه مكلف بالتبشير بالحرية والديموقراطية في المنطقة العربية، وبالتالي أعلن الرئيس الأميركي الطلاق من تقليد التحالف مع الأنظمة باسم الاستقرار. عندما خاطب الجمعية العامة في دورتها ال59 قبل سنتين، كانت رسالة بوش للعرب واضحة: اولاً، ان الاستقرار لم يعد ركيزة للسياسة الاميركية في منطقة الشرق الأوسط. ثانياً، لا مكان للمنظمات الاقليمية أو للمحاور الاقليمية فيا لمنطقة، اذ أن العلاقة الثنائية مع واشنطن هي التي وحدها لها مكان. ثالثاً، ان كل نظام عربي رهن الاختبار بما يؤدي الى قرار بقائه أو ازالته أو تأرجحه بين بين. رابعاً، لا سلام مع اسرائيل قبل الانتهاء من الاصلاح واطلاق ديموقراطيات في العالم العربي. وخامساً، تأجيل الكلام عن رؤية الدولتين وتناسي الجدار الفاصل الذي سبق وعارضته واشنطن بشدة. في ذلك الخطاب، لم يذكر بوش ايران أو سورية التي كانت تقدم التعاون الأمني والاستخباري ضمن آلية التعاون الثلاثي بين الولاياتالمتحدةوالعراق وسورية. تحدث عن العراقوافغانستان بقفز على الواقع الدموي اذ قال بثقة عارمة انهما"سيكونان النموذج للشرق الأوسط الأكبر". قال ايضاً ان عهد الموافقة الاميركية الضمنية على الاضطهاد باسم الحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط ولّى. كان كل ذلك قبل مجرد سنتين، لكن جورج دبليو بوش صفع الاصلاحيين العرب مراراً وتكراراً منذ ان أخذ حرب الارهاب الى العراق متناسياً مركزية حل القضية الفلسطينية كشرط أساسي مسبق لتمكن الاصلاحيين العرب من مواجهة معارضيهم ومن التضامن مع الجهد الأميركي للتخلص من أنظمة الاستبداد. صفعهم عندما وضع حل النزاع العربي - الاسرائيلي رهن اتمام الاصلاح العربي والوصول الى ديموقراطيات. الصفعة الأقسى كانت وما زالت في استمرار الرئيس الأميركي بتبرير سياساته في حرب الارهاب عبر رفع شعارات الحرية والديموقراطية. قد يكون جورج دبليو بوش يخوض حرباً على الارهاب نيابة عن اصلاحيين عرب وقد يكون بذلك يصنع تاريخاً لا ندرك أبعاده حالياً. انما العكس ايضاً قد يكون صحيحاً. بمعنى ان هناك احتمال بأن تكون"الحملة الديموقراطية"، التي يؤمن بوش انه يقودها، قد أدخلت الاصلاحيين العرب في مخالب حرب الارهاب التي تهوسه وتتملك به وأدت الى اجهاض أركان صنع الديمقراطية المحلية. العرب حذفوا من اعتبارات وموازين القوى الاقليمية، وليس فقط القوى العالمية، وأصبحوا مغيبين عن ال قرارات الاستراتيجية المستقبلية بعدما تم تحديم بأيدي ارهاب ارتكب ويرتكب باسمهم. بالطبع هناك محاولات اميركية أو اسرائيلية أو اقليمية أو دولية، للتعميق من عزل العرب واحباطهم وتصنيفهم العدو الجديد. لكن المساهم الأول والأكبر في زج العرب في قاع الارهاب هو ان العرب من ارتكبه ويرتكبه أمس واليوم وفي أكثر من مكان. طالما ان القاعدة الشعبية العربية تترك مصيرها للراديكالية الاسلامية وترفض الوقوف جهراً ضد الارهاب، بلا تبرير له"تفسير"لأسبابه، فإن المصير العربي يسير في المزيد من البلاء. حقيقة الأمر ان هناك دعما سريا في قرارة النفس لدى الكثير من الشارع العربي لاستخدام الارهاب وسيلة للتعبير عن الغضب والنقمة والانتقام من الولاياتالمتحدة والغرب بسبب الدعم لاسرائيل وحمايتها من المحاسبة على ممارسات الاحتلال والبطش وانتهاك القوانين الدولية والانسانية. ما لا يسأله المواطن العربي هو من هي تلك الجهات التي تزعم انها تتبنى قضاياه وتشن الحروب باسمه فيما تحصد هذه الحروب المزيد من العداء والتقزيم للعرب. حتى ولو ضحت فكرة البعض القائلة بأن الغضب العالمي من اميركا لم يبدأ في 11 أيلول عام 2002 وانما عام 1991 عند انتهاء الحرب الباردة وصعود الولاياتالمتحدة وحدها الى قمة العظمة، لا منطق في تولي العرب مهمة التعبير عن الغضب العالمي بارهاب عربي. عشوائية الردود العربية على السياسات الدولية المجحفة بالحقوق العربية تؤذي الشعوب العربية أكثر بكثير مما تخدمها. فليس لدى الرأي العام العربي والقاعدة الشعبية العربية أي وضوح لجهة كيفية تحقيق طموحاتها. نعرف ان الشعوب العربية غاضبة ونعرف انها تقع بين تسلط الحكومات وبين حروب ما يسمى ب"معارضة"باسمها ومن أجلها. لكن واقع الأمر هو أن الأكثرية الساحقة من الشعوب العربية لا تقيم علاقة عملية أو منطقية أو متماسكة مع تلك"المعارضة"التي تستخدم الارهاب لاطاحة الحكومات يما حروبها عملياً تخلّف فاتورة غالية تسددها الأجيال العربية. انها علاقة استخدام طرف للآخر: الارهابيون يستخدمون الشعوب لغاياتهم السلطوية، والشعوب تتمسك بالارهابيين أداة عابرة للتعبير عن السخط من حكوماتها ومن اسرائيل وأميركا والغرب معها. جورج دبليو بوش قد يعوض عن جزء من خطيئته واخطائه لو فهم هذه الناحية من علاقة الشعوب العربية مع أمثال"القاعدة"ولو تصرف على أساسها وتبنى سياسات جريئة غير تلك التي لقنها له المحافظون الجدد نحو العراق أو اسرائيل ونحو الشارع العربي. انما على الشعوب العربية، من جهتها، ان تكف عن التهريج والتصفيق للمحرضين الذين لا يقدموا أي علاج للمآسي العربية وانما يجدون في بيئة الاحباط الخصبة مادة مفيدة لغايات سيئة الأهداف. فالارهاب ليس في مصلحة العرب مهما بلغ الغضب من السياسات الأميركية المجحفة التي تستحق التعرض لها بحشد شعبي فعال يفرض على واشنطن تصحيحها. ما ساهم في غرور وغطرسة المحافظين الجدد هو سبات الشارع العربي الذي لا يخرج في تظاهرات ذات معنى سوى في مناسبات استثنائية ولا ينخرط في السياسة سوى للتعبير عن عداء جماهير غاضبة محبطة ثائرة بلا هدف ولا تنظيم ولا استمرارية. هذه الجماهير المحبطة الغاضبة الثائرة لا تخدم فلسطين ولا الشعب الفلسطيني وانما تستغله وتستخدمه، شأنها شأن الأنظمة الرجعية والأنظمة الثورية على السواء. انها جماهير ضائعة قابلة للاستقطاب وللشحن في الباصات أو راضخة تحت سوط الاستبداد والخوف من العقاب التطرف ليس خلاصها ولا الارهاب وانما الخلاص في انقلاب تشنه الجماهير العربية على نفسها لتبدأ أخيراً مسيرة الحرية التي تختارها هي لنفسها لتنقذ نفسها من كفي كماشة حروب الارهاب والمعارك على السلطة والزعامة الاقليمية والعالمية.