إذا كانت الحداثة قد أنتجت، في مسارها العريض، حكم الديموقراطيّة السياسيّة بديلاً من حكم الاستبداد، وإرادة الشعب نيابةً عن إرادات غيبيّة أو تجمّعيّة، فهذا التعميم لا يغني عن بعض تخصيص ضروريّ في المجال هذا. ذاك أن مبدأ فصل السلطات ربّما كان أهمّ ما في الديموقراطيّة بصفتها طريقة في التدبير السياسيّ والحاكميّة. وفصل السلطات، وعلى نحو لا يخطئ، أوّل ما يوجّه المستبدّون، على اختلاف أنواعهم، شفرتهم إليه. لا بل ان مونتسكيو كان رأى أن العلامة الفارقة للمستبدّ هي، بالضبط، انه يدمج السلطات جميعاً ويتولاّها بنفسه. والمستبدّ، بصورة خاصّة، لا يسمح، من بين ممنوعاته الكثيرة، بوجود قضاء مستقلّ يمكنه ان يعيق رغبته في بلوغ مرامه من وراء كلّ نزاع يجدّ أو يستجدّ. وهو توصيف يصحّ، على بساطته الكليشيهيّة، في سائر أنواع الاستبداد، قديمه وحديثه. فالنازيّة، مثلاً، اعتبرت أن السلطات جميعاً تنبثق من شخص الزعيم الفوهرر الذي هو مرجعها الأخير، فضلاً عن كونه مصدرها. والشيوعيّة، بدورها، دمجتها كلّها فيما منحت الأمين العامّ للحزب، وهو بالطبع غير منتخب شعبيّاً، السلطة الفعليّة الأولى عليها من غير استثناء. ذاك أن السلطة الحزبيّة التي تستمدّ"شرعيتها"من العقيدة، وكذلك نظريّات"الديموقراطيّة المركزيّة"والزعامة، أو القيادة، تميل جميعها الى شخصنة مطلقة تغاير التجريد المؤسسيّ الذي ينطوي فصل السلطات عليه. وهذا ما عرفتْه، ولو بصورة ألطف من التجربتين النازيّة والشيوعيّة، التجاربُ العربيّة بشقّيها المحافظ والعسكريّ سواء بسواء. فهذه الأخيرة اتّجهت بغالبيّتها الساحقة الى توحيد السلطات ودمجها في يد حاكم فرد، أكان وراثيّاً يحافظ على استمراريّة هرمة تعارض التقدّم وتجافيه، أم انقلابيّاً يستعجل التقدّم فينتهي الى استئثار يحول دونه. والحال أنه كلّما كان الزعيم أكثر كاريزميّة، وأشدّ شعبويّة، أي أوفر استعداداً لمخاطبة الجماهير من فوق رؤوس المؤسّسات، كان الإغراء أكبر بدمج السلطات في يده. وبالمعنى نفسه، كلّما كان البلد المعنيّ غارقاً تحت وطأة قضايا"مصيريّة"و"مقدّسة"لا تقبل المساءلة والشكّ، كان فصل السلطات مُستبعداً ومكروهاً أكثر: إذ هل يجوز إخضاع"الزعيم التاريخيّ"و"قضيّة الحياة والموت"التي تهون في سبيلها"الشهادة"للعبة التوازن الديموقراطيّ بين المؤسّسات وفي داخلها؟ وهل يعقل، بالتالي، الإقرار بديمومة المؤسّسات واستمراريّتها على نحو يتعدّى ديمومة"الزعيم التاريخيّ"و"قضيّة المصير"؟ وهل يمكن، من ثمّ، الإشراف على الكيفيّات التي يعمل الزعيم والقضيّة بموجبها، والإسهام فيها؟ وفصل السلطات، في شكله الحديث، هو ما عُرف أساساً عبر كتابات مونتسكيو، خصوصاً"روح القوانين"، أهمّ الأعمال السياسيّة الدستوريّة للقرن الثامن عشر والذي بات لها بمثابة الأصل التأسيسيّ والمرجعيّ. فقد ذهب في كتابه هذا الذي صار واحداً من مصادر استلهام اعلان حقوق الانسان ودستور الولايات المتّحدة، الى ان عناصر فصل السلطات قائمة في الدستور الانكليزيّ الذي يوفّر للمواطن أحد الضمانات الأساسيّة لحريّته. وكما هو معروف، فإنكلترا، وهي السبّاقة في ديموقراطيّتها وفي نزعتها الدستوريّة، كانت عهدذاك موديل المفكّر السياسيّ الفرنسيّ في نشدانه فصل السلطات وحماسته له. ومؤدّى نظريّة الفصل تلك أن ثمّة ثلاث سلطات ينبغي ألاّ تتداخل في ما بينها لدى ممارستها الحكم، هي التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، الأولى تصوغ السياسة وتنفّذها بوصفها قانوناً، والثانية تتولّى تطبيقها وإنفاذها في الحيّز العمليّ، فيما تفضّ الثالثة النزاعات، العالقة أو الناشبة، مطبّقةً القانون تبعاً لمعايير العدالة المرعيّة. وفي"روح القوانين"، غادر مونتسكيو التقسيمات الكلاسيكيّة التي كان اعتمدها أسلافه من المفكرين السياسيّين حين قسّموا النُظم الى ملَكيّة وأريستوقراطيّة وديموقراطيّة، وأنتج تحليله الخاصّ مُعيّناً، وبلغة ذاك الزمن، لكلّ شكل من أشكال الحكم مبدأ مُحرّكاً وقائداً: فالجمهوريّة ترتكز على قيمة الفضيلة، والمَلَكيّة على الشرف، أما الاستبداد فلا يرتكز إلاّ على الخوف. وإنّما في ظلّ الخوف الاستبداديّ الذي يدمج السلطات ويصهرها، يختفي دور الكابح على السلطة وجموحها، ومن ثمّ لا يبقى من ضامن للحريّة ومن حدّ على السلطان. وقد اعتقد مونتسكيو بأن كبح السلطة لما فيه صالح الحريّة، هو ما يوجب أن توازِن السلطات الثلاث المفصولة عن بعضها بعضاً واحدتها الأخرى. هكذا ينبغي ألاّ يمارس السلطة التنفيذيّة أعضاءُ السلطة التشريعيّة، بل أن تودع في عهدة الملك الذي يكون قابلاً للعزل اذا ما أتى أعمالا تتجاوز سلطاته Ultra Vires والتصوّر هذا لم يصبح أمراً واقعاً إلاّ، ومع بعض التحوير، لدى انشاء منصب رئيس الجمهوريّة في ظلّ الدستور الأميركيّ. ففي بريطانيا، عُهد بالسلطة التنفيذيّة الى الحكومة التي تتشكّل من أعضاء البرلمان أي من السلطة التشريعيّة وتراقب، عمليّاً ونقديّاً، عمل البرلمان. الاّ أن الوزراء في الحال هذه انما يتحوّلون هيئة مستقلّة منفصلة عن سائر النوّاب، بمن فيهم نوّاب حزبهم نفسه وهو ما يتجلّى حتى رمزيّاً في طريقة الجلوس في مجلس العموم. واذا كان من فضائل الفصل انه يمنع السلطات من أن تنهار كلّها دفعة واحدة لدى حصول أزمة عامّة تطاول الأمّة والمجتمع، فإن الفصل ذاته لا يعني القطيعة وعدم الانسجام بين السلطات لأننا نغدو، في حال كهذه، أمام استحالة ممارسة الحكم، أياً كان الحكم. فالقوانين التي يشرّعها البرلمان يجب ان تطبّقها السلطة التنفيذيّة وان تعزّزها السلطة القضائيّة. واستقلال هذه الأخيرة خصوصاً انّما يبقى ضمانة الحريّة الأولى، إذ تستمدّ السلطة القضائيّة سلطويّتها ونفوذها من كونها كابحاً للسلطة ومانعاً لشططها. لكنْ لئن كان فصل السلطات ركيزة الديموقراطيّة بوصفها طريقة في السياسة، فإن تقسيم العمل ركيزتها كطريقة في الاجتماع وتنظيمه. فهو، بالأحرى، أقرب الى تقسيم للسلطات المجتمعيّة، أو سلطات الصلب القاعديّ، لا يمكن من دونه ان ينشأ مجتمع مدنيّ يوازن الدولة ويناظرها، بروابطه ومؤسّساته وخدماته والأفكار التي تسوده، ولا أن تقوم فيه"هيمنة"بالمعنى الغرامشيّ تالياً. ومثلما ارتبط اسم مونتسكيو بفصل السلطات، ارتبط اسم عالم الاجتماع الفرنسيّ إميل دوركهايم بتقسيم العمل حيث غدا، بسبب من كتابه"تقسيم العمل الاجتماعيّ"، المرجع المؤثّر في كلّ تحليل سوسيولوجيّ للمسألة المذكورة. فبعدما كان التعبير يدلّ أساساً على التفريق في المهامّ العديدة التي يتطلّبها إنتاج السلع والخدمات، والأدوار المتمايزة المنوطة بالأفراد والجماعات في العمليّة هذه، وسّع دوركهايم المصطلح ليشمل كلّ أشكال التخصّص في شبكة الوظائف الاجتماعيّة. وبهذا مدّ معناه وحقله الدلاليّ الى ما وراء الحيّز الاقتصاديّ البحت. وقد رأى ان أشكال تقسيم العمل ترتبط وثيقاً بأنماط التنظيم الاجتماعيّ، أو بما أسماه"التضامن"، فتحدّث عن نوعين متعارضين من التضامن هذا: -"التضامن الآليّ"المستند إلى تقسيم بسيط للعمل كالذي تعرفه المجتمعات الأقلّ تقدّماً، وهو ما يتبدّى، في صورة خاصّة، على هيئة روابط أهليّة ودمويّة ودينيّة. - و"التضامن العضويّ"الذي تعهده المجتمعات الصناعيّة والمتقدّمة، ويرتكز حكماً على الفرديّة وروابط الاعتماد والتبادل التي يخلقها تمايُز وظيفيّ معقّد تنخرط فيه أعداد ضخمة من المؤسّسات المتخصّصة، الاقتصاديّ منها والسياسيّ والثقافيّ. ولم يفتْ إميل دوركهايم الإصرار على أهميّة المؤسّسات والشركات و"الروابط المهنيّة"في التوسّط بين الفرد والدولة، كما في خلق أنماط التنظيم الاقتصاديّ والأخلاقيّ التي يتطلّبها تقسيم عمل معقّد تقنيّاً واجتماعيّاً. وعلى العموم، خضعت آراء عالم الاجتماع الفرنسيّ لما لا يُحصى من تأويلات وتأويلات مضادّة. إلاّ أن ما يعنينا، في هذا المجال، وبالاستفادة أساساً من دوركهايم، ولكنْ أيضاً من بعض مَن ساجلوه وعقّبوا عليه، قابل للإيجاز في ما يلي: أوّلاً، أنه لا بدّ من تطوير آليّات"التضامن العضويّ"الذي يتسبّب به العمل على حساب"التضامن الآليّ"الناجم عن علاقات القرابة والجيرة والولاءات الموروثة أو الخامّ. ثانياً، ان المجتمع الذي يقوم على المؤسّسات وعملها هو الذي يؤدّي الى المراكمة، بديلاً من تبديد الأفراد الذي تكمن أصوله في البداوة وطرق الحياة الأخرى التي لم تمسسها يد الحداثة الرأسماليّة إلاّ قليلاً وفي صورة برانيّة. ثالثاً، ان تقسيم العمل هو وحده ما يؤدّي الى نشأة تقاليد مهنيّة، أو سلكيّة، والى الافتخار الذاتيّ لدى الأفراد بالانتماء الى هذه المهن وطرائقها التي اختاروها بأنفسهم والتمسّك، بالتالي، بها والدفاع عنها. وأخيراً، إذا كان فصل السلطات العدوّ الأوّل للحاكم المستبدّ، فإن تقسيم العمل، وبالضرورة، عدوّه الثاني. ذاك أن هذا الأخير إنّما يقدّم المجتمع على شكل مهن وخبرات وكفاءات مختلفة ومتباينة لا تتكامل إلاّ على قاعدة غناها وتنوّعها وتراتُبها. أمّا النظام الاستبداديّ فيبذل، في المقابل، كلّ جهد ممكن لتحويل الجميع الى"شعب"يُزعم أنه واحد موحّد، أو"جماهير"لا فارق بين طبيبها ومهندسها، بين عاملها وجنديّها، بين مُدرّسها وفلاّحها. فهؤلاء كلّهم إنّما يقولون الكلام نفسه، وكلّهم يلبسون اللباس نفسه على ما كان حالهم، مثلاً، في الصين الماويّة، أو كوريا الشماليّة حاليّاً، وهم كلّهم"أخوة"أو"رفاق"يشتركون في تمجيد الحكم والحاكم، ويظهرون في المناسبات القوميّة والعسكريّة كأنّهم شخص واحد، غير أنّهم لا يُمنحون حقوق تقرير مصائرهم ولا تُعامل إرادتهم بوصفها الإرادة المقرّرة للمستقبل. وهي، عموماً، أقصر الطرق الى إرساء العبوديّة المعاصرة. * كاتب ومعلّق لبناني