انعكس استمرار التحسن في أسعار النفط خلال السنوات السابقة إيجاباً على الإيرادات النفطية التي ارتفعت في الدول العربية المصدرة للنفط مجتمعة بنسبة 39 في المئة خلال السنين الأربع الماضية، ليبلغ حجمها نحو 280 بليون دولار عام 2005، و360 بليون دولار عام 2006 بحسب التقديرات. ونتيجة لذلك ارتفع فائض الحساب الجاري إلى مستويات قياسية في موازين مدفوعات هذه الدول ليبلغ 203 بلايين دولار، كما تحسن أيضاً الوضع الكلي لموازناتها الحكومية للعام الثالث على التوالي، إذ سُجل فائض كلي بلغ نحو 100 بليون دولار عام 2005. ويتوقع"صندوق النقد الدولي"أن تتضاعف هذه الفوائض عام 2006، على رغم ارتفاع النفقات العامة في الدول العربية النفطية الى مستويات عالية منذ بداية العقد الحالي، واستمرار هذه الدول في تطبيق سياسات توسعية، بخلاف ما كانت عليه الحال في النصف الثاني من العقد الماضي، ما يعني أن التحدي الكبير للدول النفطية هو ضمان عدم خروج الإنفاق عن حدود السيطرة، لأن الارتفاع الملحوظ والمستمر في الموارد المالية، يحدث ضغوطاً على الحكومات لمزيد من الإنفاق. ويلاحظ أن بعض الدول العربية النفطية، خصوصاً دول"مجلس التعاون الخليجي"، استفاد من تجربة الطفرة النفطية الأولى ويعمل جاهداً على ضبط الإنفاق وتحسين كفاءة إدارته، واستخدام إيراداته النفطية في ثلاثة مجالات أساسية: أولها التخلص من الديون المحلية والخارجية القائمة في ذمم هذه الدول التي تراكمت خلال السنوات التي خفضت فيها أسعار النفط، إضافة إلى بناء احتياطات مالية خارجية رسمية لها بلغت نحو 70 بليون دولار عام 2005. وثانيها: التوظيف في أوعية استثمارية نوعية متنوعة، تشمل آسيا وأوروبا والولايات المتحدة، مع الاهتمام في شكل خاص بشراء الأصول من عقارات وشركات ومصانع. وأحدث مثال يمكن الإشارة اليه في هذا الشأن شراء شركة"سابك"السعودية لشركة"هنتسمان"للبتروكيماويات في انكلترا، بدلاً من الاكتفاء بإيداع النقود في المصارف، وشراء سندات الخزينة والمصارف الأميركية كما حصل في أثناء الطفرة النفطية الأولى. وثالثها: الانفاق بسخاء على تمويل مشاريع كثيرة يعلن عنها بين الحين والآخر في شتى المجالات الإنتاجية والخدماتية والبنى الأساسية، تتواكب مع الاحتياجات الاقتصادية الآنية والمستقبلية، التي تكفل لهذه الدول الاستمرار في تحقيق معدلات نمو مقبولة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتوفير فرص عمل جديدة للمواطنين لمواجهة مشاكل البطالة. وثمة تقديرات في هذا المجال تبيّن أن السعودية ستستثمر نحو 267 بليون دولار في 419 مشروعاً تنموياً حتى عام 2012، تتوزع في خمسة قطاعات رئيسة هي الإنشاء، والبتروكيماويات، والنفط والغاز، والمياه والطاقة، والصناعة. ويمتد اهتمام الدول الخليجية في سياق المشاريع الجديدة، إلى تنفيذ خطة طموحة لتطوير قطاع التعليم والتدريب وتحديثه، لما له من أهمية في البنى الاقتصادية والاجتماعية. وتقدر استثماراتها بنحو 28 بليون دولار، تستهدف الارتقاء بمستوى العملية التعليمية في مختلف مراحلها، وتحقيق توافق بين مهارات الخريجين ومتطلبات سوق العمل. ويشار إلى أن تقريراً صدر نهاية العام الماضي عن"صندوق النقد الدولي"، اعتبر أن السياسة الخليجية الاقتصادية في توظيف الإيرادات النفطية تتجه في المسار الصحيح. وأشار إلى أن الاستثمارات المباشرة في دول"المجلس"في تزايد مستمر، وتوقع أن تقارب 700 بليون دولار في السنوات الخمس المقبلة، تشمل الاستثمار في قطاعات النفط والغاز ومشاريع البنى الأساسية والعقارات. وعلى رغم هذه الجوانب الإيجابية للطفرة النفطية الثانية، لا بد من التذكير بأن هناك تحديات كثيرة تواجه الاقتصادات الخليجية، بدأت بوادرها منذ أمد بعيد، وكثُر طرحها طيلة السنوات السابقة، ولم يجر التخلص منها بعد، تتمثل في محدودية القاعدة الإنتاجية وعدم تنوعها، وهيمنة قطاع النفط، إضافة إلى ضخامة دور الإنفاق الحكومي، ومحدودية مساهمة القطاع الخاص في النشاطات الاقتصادية، والخلل في التركيبة السكانية، وما تمثله القوى العاملة الوافدة من تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية كثيرة. ويمكن التأكد من أبعاد محدودية القاعدة الإنتاجية، وهيمنة النفط على الاقتصادات الخليجية، لدى النظر الى الموازنة المالية غير النفطية، حيث تتحول الفوائض إلى عجوزات، بسبب انخفاض الأهمية النسبية للمصادر التقليدية للإيرادات العامة، ما يجعل تقلبات أسعار النفط في الأسواق العالمية العامل الأهم في التأثير الكبير على النمو الاقتصادي بأبعاده المختلفة. وثمة تحد آخر يواجه الاقتصادات الخليجية الآن يتمثل في الارتفاع الكبير في أسعار العقارات والأراضي المخصصة للأغراض السكنية والتجارية وارتفاع الإيجارات بمعدلات عالية، تقدر على سبيل المثال لا الحصر بنحو 100 في المئة في مناطق دبي المختلفة في السنتين السابقتين، إضافة إلى التراجع الكبير في أسواق المال الخليجية، وتكبدها خسائر ضخمة عام 2006، تقدر بحسب ما نشرته"الحياة"في 1/1/2007 بنحو 422 بليون دولار، أي ما يفوق الإيرادات النفطية التي حققتها الدول المعنية في السنة نفسها. ليس أمام دول"مجلس التعاون الخليجي"في وضعها الراهن الآن إلا مواصلة تطبيق الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية التي انتهجتها منذ سنوات، من دون التراخي في تطبيقها بسبب الطفرة النفطية الراهنة، بعد أن تراجعت في بعض السنوات عن تطبيقها في الأوقات التي ارتفعت فيها أسعار النفط، وعملت على التسريع في تطبيقها في الأوقات التي مالت فيها هذه الأسعار والعائدات المالية النفطية نحو الخفض. وعموماً استهدفت هذه الإصلاحات الهيكلية في السنوات الماضية إعادة صوغ وهيكلة اقتصادات دول"المجلس"، بما يساعد على خفض هيمنة القطاع النفطي، وتنويع مصادر الدخل، والمضي في ضبط الإنفاق العام وترشيده وتسعير الخدمات الحكومية على أساس كلفتها الاقتصادية الحقيقية، وخفض الدعم المباشر وغير المباشر للمشاريع العامة. كما استهدفت أيضاً تعزيز دور القطاع الخاص الخليجي ودعمه، والإسراع في تخصيص المشاريع الاقتصادية العامة لأن القطاع الخاص هو الأقدر على اتخاذ القرارات الاستثمارية المناسبة، والأكفأ في إدارة مثل هذه المشاريع والحفاظ على ربحيتها واستمرارها من القطاع العام. إن تكيّف القطاع الخاص الخليجي مع واقع الطفرة النفطية الثانية على جانب كبير من الأهمية الأمر الذي يتطلب تنمية قدراته التقنية والإدارية، وتشجيع اندماج شركاته المحلية لكي تصبح قادرة على رفع كفاءتها التنافسية والوصول إلى الأسواق العالمية. * خبير اقتصادي في المركز الكندي لدراسات الشرق الأوسط