بسرعة كبيرة غادرت عائلة "ابو وسام" الشيعية حي المهدي في منطقة الدورة، بعد تلقيها أوامر من المسلحين بالمغادرة في غضون 24 ساعة، حاملة معها ما تستطيع تاركة خلفها ذكريات اكثر من 30 عاماً في تلك المنطقة. يقول ابو وسام 68 عام ل"الحياة""نحن نسكن في حي المهدية منذ زمن بعيد. لم نكن نفكر في المغادرة لولا تهديدات المسلحين، والمشكلة ان عائلتي كبيرة، مكونة من 16 شخصاً ونحتاج الى ايام لنجد مكاناً آخر". ومشكلة عائلة ابو وسام لا تنتهي عند هذا الحد، فعندما توجهت الى منطقة ابو دشير الشيعية، كان لازماً عليها أخذ موافقة الميليشيا الموجودة هناك جيش المهدي وهذا استغرق وقتا طويلا ومراجعات لمكاتب الصدر. ويضيف:"بعد ان علمنا بأن السكن في ابو دشير يتطلب موافقات عدة راجعنا مكتب الشهيد الصدر وقابلنا الكثير من المسؤولين في المكتب، وكان هناك شخص مسؤول عن العائلات القادمة الى المنطقة، وأخر مسؤول عن العائلات المهاجرة، وكل شارع في ابو دشير، مسؤول عنه شخص من جيش المهدي". وزاد:"كان علينا ان نثبت بشكل قاطع اننا شيعة وان نسلمهم قائمة بأسماء افراد العائلة وأعمارهم ومهنهم لإضافتها الى الاحصاءات الموجودة لديهم، والشرط الاصعب كان انتماء أحد أولادي الى"جيش المهدي"كي نستطيع السكن في المنطقة". تتكرر مثل هذه الحالات في معظم مناطق بغداد التي تشهد صراعاً طائفياً عنيفاً وتسيطر عليها العناصر المسلحة والميليشيات. ويذكر معتصم محمد 31 عاماً، انه غادر مع عائلته منطقة الشعلة الشيعية الى منطقة الغزالية السنية، ففوجئ بالمسلحين يهاجمون أفراد عائلته ويقتادونهم الى مكان مجهول للتحقيق و"التأكد من أننا سنة وليس جواسيس، وفرضوا علينا شروطاً كي يوافقوا على بقائنا في منطقة الغزالية". ويلاحظ على سكان بغداد في الأونة الاخيرة انهم يحرصون على ان يحملوا معهم"صك التزكية"من احد مكاتب الصدر او من جماعة مسلحة سنية، بدلاً من الهويات الرسمية، وهذا الصك تعطيه الميليشيات والمسلحون للذين يثبت ولاؤهم لطوائفهم ويستطيعون من خلاله المرور في المناطق التابعة لتلك الطائفة. وتنقسم بغداد اليوم الى مناطق شيعية وأخرى سنية، ومن النادر وجود منطقة مختلطة بسبب عمليات التهجير، وباتت الميليشيات والمسلحون يمثلون ما يشبه السلطات المحلية المسؤولة عن أعداد السكان في المناطق التي يسيطرون عليها ونوعهم. احصاءات وزارة الهجرة والمهجرين اشارت الى ان عدد المهجرين داخل البلد بلغ اكثر من نصف مليون شخص، بينهم أكثر من 20 ألف عائلة من بغداد نزحت الى المحافظات القريبة. واضطر ساجد، الطبيب في أحد مستشفيات العاصمة الى مغادرة منزله في"حي الجامعة"والسكن موقتاً مع أمه وأبيه في حي القادسية الذي عده"أكثر أمناً، خصوصاً بعد عمليات التصفية التي طاولت الاطباء والاساتذة الجامعيين، وحين عاد قبل أيام لتفقد بيته، الذي كان أغلق أبوابه بإحكام على كل ما فيه، وجد شخصاً غريباً يسكنه. فأعلمه أنه صاحب البيت، وانه اضطر"لمغادرته بسبب سخونة الوضع في المنطقة"، فأنكر عليه"الساكن الجديد"ذلك، مهدداً اياه ان هو رآه ثانية هنا. وحين طلب ساجد من الساكن الجديد ان يتيح له"نقل بعض موجودات البيت"التي هو في حاجة اليها، ما كان من الرجل إلا ان زجره قائلاً:"هذه غنائم حرب، واذا عدت ثانية الى طرق بابي سأكسر رجلك". هذه الحال دفعت الكثيرين، ممن قرروا الهجرة"الموقتة"، هرباً من تردي الاوضاع الامنية في بغداد، الى البحث عن أصدقاء وأقارب أو معارف، لإسكانهم في بيوتهم من دون مقابل، فقط لحمايتها من عمليات السطو. ووجد بعضهم في هذا الوضع فرصة للتخلص من حالة"الاختناق المنزلي"، كما سماها مهند، الشاب المتزوج منذ أربعة اعوام، والأب لطفلة في العام الثاني، ويعيش في غرفة متوسطة السعة في بيت أبيه. حين عرض عليه جاره ابو مازن السكن في بيته، الذي - كما قال له - سيتركه له"بكل ما فيه مقابل حمايته لحين استقرار الاوضاع في البلد".