لا تزال سياسة القوة مسيطرة على العلاقات الدولية، خصوصاً في عهد الإدارة الأميركية التي بررت الحرب واستخدام العنف بعد أحداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر 2001 بذريعة مكافحة الإرهاب. واللافت في استخدام القوة محاولة احتكار أسلحة الدمار الشامل، وإنتاج القنابل الذكية والأسلحة البيولوجية بما يهدد الإنسان وبيئته الطبيعية. هنا لا بد من طرح السؤال الآتي: ما هو المبرر القانوني او الأخلاقي او الإنساني الذي يتيح للدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية إنتاج الأسلحة النووية؟ ثم، ألم يدفع هذا التحول في العلاقات الدولية عدداً من الدول الى الدخول في النادي النووي على حساب فكرة السلم والأمن الدوليين؟ نحن اليوم امام ناد نووي عالمي يضم تسع دول بعد انضمام كوريا الشمالية مؤخراً الى مجموعة الثماني: الولاياتالمتحدة، روسيا، بريطانيا، فرنسا، الصين، الهند، باكستان وإسرائيل. لقد اعترف ايهود اولمرت رئيس حكومة إسرائيل بعد الحرب على لبنان بامتلاك القنابل الذرية، ولم يحصل رد فعل عالمي غاضب كما حصل ويحصل ضد كوريا الشمالية، وفي مواجهة ايران التي لم تنتج الى الآن سلاحاً ذرياً، وتعلن أن برنامجها النووي سلمي في إطار ما يسمح به اتفاق حظر انتشار الأسلحة النووية في سنة 1968. لماذا هذه الضجة في شأن ايران علماً أن مفاوضاتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم تنقطع؟ هناك سببان رئيسيان: الأول أمن إسرائيل إذ لا ضمانة في نظر الأميركيين والإسرائيليين بعدم إنتاج ايران سلاحاً نووياً قد يهدد إسرائيل بعدما طوّرت طهران صاروخ"شهاب"وغيره. والسبب الثاني، هو خشية دول الخليج العربية من القدرة النووية الإيرانية، التي قد تهدد أمنها. وإذا كانت مثل هذه الخشية مبررة، خصوصاً بعد الحرب العراقية - الإيرانية، وبعد تداعيات الداخل العراقي تحت الاحتلال الأميركي والحديث عن دور سلبي لإيران في بلاد الرافدين، فإن غياب التفاهم العربي - الإيراني في الخليج غير مبرر، وغير مفهوم، طالما ان فكرة الأمن الخليجي مطروحة منذ أربعة عقود! لا يمكن تصور أي أمن خليجي من دون مشاركة طهرانوبغداد مع دول مجلس التعاون الخليجي في تحقيقه، إلا اذا اعتبر بعض الساسة أن الوجود العسكري الأميركي في الخليج كفيل بتحقيق الأمن الى ما شاء الله! لو راجع كل طرف سياسته السابقة لاكتشف أخطاءه الاستراتيجية في هذا المضمار، وذلك منذ"مبدأ كارتر"الى الآن. وإذا كانت ايران دخلت خلال العقد الماضي في اتفاقات أمنية مع كل من السعودية، والكويت، وعُمان، وقطر، بحيث انفتحت آفاق التعاون الأمني بين الجانب الإيراني والجانب العربي، إلا ان احتلال بغداد عام 2003 أعطى دفعاً جديداً للوجود العسكري الأجنبي في الخليج. هذا إضافة الى فشل الجانبين في احتواء النزاع المذهبي، الذي يجد من يؤججه في أوساط العامة من الجهلة. فكرة العروبة لا تخيف طهران، ولا يجب ان تخيفها مستقبلاً. فالنظام الإقليمي العربي لا يضع في اولوياته مواجهة ايران، هذا اذا وُجد مثل هذا النظام. وكان في الإمكان توطيد نظام للأمن الإقليمي الخليجي في موازاة، أو بالتزامن، مع الأمن العربي الذي صار من الماضي. ومن المفارقات الغريبة حقاً ان تصل البيئة الخليجية الى مفترق خطير: قوى إقليمية"متطرفة"تضعها إدارة جورج بوش في"محور الشر"، في مواجهة قوى إقليمية"معتدلة"صديقة للولايات المتحدة! بعد فترة وجيزة سيكتشف المراقبون ان"القوى المعتدلة"ليست موحدة في برامجها السياسية، وهذه حال القوى المتطرفة. وأن التنازع ليس بين اعتدال مزعوم وتطرف موصوف، بل هو على جميع المستويات المحلية والإقليمية. وسيصل التنازع الى داخل المذهب الواحد، والطائفة الواحدة، والعشيرة الواحدة... بحيث تقوى إسرائيل على فرض وجودها كدولة"يهودية"في هذا الشرق على حساب جميع العرب والمسلمين. حسناً فعلت دول مجلس التعاون الخليجي عندما رفضت صراحة توجيه ضربة عسكرية لطهران بحجة تدمير المفاعلات النووية. فالملف النووي الإيراني لا يعالج بالضربات الجوية، بقدر ما يعالج بالتعاون الإقليمي لتوفير بيئة خليجية آمنة. فكيف اذا جاءت مثل هذه الضربة بعد أحداث العراق وأفغانستان التي تهدد الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط؟ إن اي مواجهة عسكرية محتملة قد تُغرق البيئة الخليجية في فوضى أمنية غير مسبوقة. وفوضى في أسواق النفط الذي تقوم عليه اقتصادات الخليج. وفوضى في نشوء حركات ارهابية جديدة من دون حسيب أو رقيب. وفوضى في الجوار الشرق الأوسطي على الصعيد الأمني والسياسي والاقتصادي... هذا ما تدركه دول مجلس التعاون الخليجي، وهذا ما تحذر من مخاطره أوساط أميركية نافذة داخل الكونغرس وخارجه. لو أضفنا الى مجمل هذه المعطيات رفض روسياوالصين واليابان التصعيد العسكري في الخليج، لأسباب تجارية واقتصادية تتعلق بالطاقة، لأدركنا خطورة الخيار العسكري، الأميركي والإسرائيلي، ضد طهران. وها هو رئيس مجلس الأمن الروسي ايغور ايفانوف يرفض التصعيد، في الوقت الذي يؤكد تصميم روسيا على الوفاء بالتزاماتها في استكمال بناء محطة بوشهر النووية في الوقت المحدد. هذا إضافة الى إعلان موسكو رفضها داخل مجلس الأمن الدولي إصدار قرار باستخدام القوة ضد طهران استناداً الى الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. نعود الى خيار الأمن الخليجي المؤسس على دول مجلس التعاون زائد ايرانوالعراق. انه الخيار الأنسب، والأقل خسارة للجميع في هذه الظروف الإقليمية والدولية. وهو الإطار الفاعل لمعالجة قضايا ضاغطة على الأمن الخليجي: وحدة واستقرار العراق، استقرار تجارة النفط العالمية، الملف النووي الإيراني، مسألة الجزر بين ايران والإمارات، العمالة الوافدة. قد يُسأل: هل ستسمح الإدارة الأميركية باعتماد هذا الخيار، والأخذ به بهدوء؟ مهما كانت الخيارات الأميركية، نقول انه لا يجوز تعطيل الحوار العربي - الإيراني بينما يتكثف الحوار بين واشنطن والدول الخليجية كلها. فهل نصل الى مرحلة تصبح فيها إسرائيل دولة مقبولة من الجميع، بينما تضع أمنها العنصري فوق أمن الدول في الشرق الأوسط؟ وهل نعيد دراسة ملف الأمن الخليجي في ضوء الوقائع الإقليمية والدولية الراهنة؟ * كاتب وأكاديمي لبناني