في حين تسيطر على المناقشات العامة في مصر والعالم العربي القضايا السياسية الساخنة سواء الاقليمية او المحلية، تسيطر على المناقشات العامة في معظم انحاء العالم النامي القضايا الاساسية التي تواجه البشر في القرن الواحد والعشرين وهي مشكلة الفقر وتداعياتها من الجهل والمرض والتفكك الاجتماعي. وتبرز على السطح بين الحين والآخر في مصر والعالم العربي قضايا ملحة مثل: أطفال الشوارع في مصر، والفقراء في السعودية واليمن، والمجاعات في السودان والصومال، ثم يتلاشى الاهتمام بهذه القضايا سريعا. ولن يتبلور المجتمع المصري والعربي بالسياسة وحدها وإنما ايضاً بمعالجة الاساسيات: مشكلة الفقر وتداعياتها. وكانت مصر ومعظم الدول العربية مشاركة في التوقيع على إعلام الاممالمتحدة للتنمية الألفية، والاهداف الالفية للتنمية التي تبدأ بمكافحة الفقر ورفع مستوى التعليم والاهتمام بالمرأة والاسرة وتمكين المجتمع المدني. لكن هذه المشاركة في التوقيع تحتاج الى خطط للتنفيذ واستراتيجية لتحقيق هذه الاهداف. ان المشاكل السياسية التي نتحدث عنها في مصر والعالم العربي: الارهاب والتطرف الديني، التجمعات العشوائية، انهيار القيم الاخلاقية، انتشار العنف ... هي انعكاس لمشكلة الفقر وتداعياتها. وعلى رغم أن الحكومة في مصر والحكومات العربية تتحدث دائماً عن التنمية والانحياز لمحدودي الدخل، إلا أن مفهوم مكافحة الفقر ليس واضحاً في خططها او رؤيتها. * مفهوم الفقر: قد يكون من الغريب ان نتساءل عن مفهوم الفقر في بلد تعاني اغلبيته من تداعياته، لكن كي يكون لدينا مؤشرات واضحة فإن الفقر يعني ان تقل نسبة ما يصرفه الشخص على الطعام والشراب عن دولار في اليوم اي ستة جنيهات مصرية ووفقاً لدراسات البنك الدولي فإن مصر كان فيها 16 مليونا من الفقراء الذين ينطبق عليهم هذا الوصف. ووفقا للدراسات الدولية فإن نسبة الفقراء في العالم العربي عالية جداً إذا نظر إليه كإقليم، فمن مجموع 350 مليون شخص يمكن القول ان ربع السكان يعيشون تحت مستوى الفقر. إن الدول البترولية نفسها لا تعدم من وجود الفقراء، والسعودية وعمان والجزائر وليبيا من هذه الدول. وتحدث العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز عن مشكلة الفقر أكثر من مرة وطالب بحلها. وتداعيات مشكلة الفقر المباشرة هي الجهل والمرض، أما التداعيات غير المباشرة والأكثر خطراً فهي اليأس الذي يؤدي الى الارهاب والتطرف واستخدام العنف والتمييز ضد المرأة واستغلال الاطفال وغيرها، وهي أمراض اجتماعية تقضي على قواعد المجتمع الأساسية. * التحرك على المستوى الدولي: كان إعلان الأممالمتحدة للأهداف الألفية الثمانية في عام 2000 علامة فارقة في الوعي العالمي لمشكلة الفقر وتداعياتها وتحركت المؤسسات الدولية المختلفة لتحقيق هذه الأهداف ورغم هذا فما زال الطريق طويلا. ونحن ننتقد الدول المتقدمة اذا انها لم تحقق سوى نسبة 0.7 في المئة من دخلها لمساعدة الدول الفقيرة، لكننا لا ننظر الى المشكلة بشكل أعمق وأوسع، وهو أننا يجب ان نكون نحن أول المتحركين في هذا المجال وأول المستفيدين منه. لم تشارك الدول العربية بشكل جاد في مبادرة الأممالمتحدة لمكافحة الفقر، وهذا الإعلان عن الأهداف الألفية يكاد يكون مجهولاً في العالم العربي وتحت ركام حرب العراق واشتعال قضية فلسطين والصراع في لبنان والدراما في دارفور تنسي الأساسيات. وكانت مبادرة رئيسة الجمعية العامة لعام 2007 - 2006 الشيخة هيا بنت راشد آل خليفة بداية لحركة جدية لمشاركة عربية في تحقيق هذه الأهداف حيث عقدت جلسة خاصة للجمعية العامة لبحث مشاركة المجتمع المدني في تنفيذ هذه الأهداف وبناء على مبادرة قامت بها مجموعة من الشخصيات العامة من الجنوب الافريقي ومن العالم العربي بتنسيق من جيفري ساكس مستشار الامين العام للأمم المتحدة وشاركت فيها شخصياً كمنسق للبرنامج. كان لدور الشيخة هيا، كأول سيدة ترأس الجمعية العامة للامم المتحدة وتشعر بمشاكل الفقراء، اثر كبير في أروقة الأممالمتحدة من خلال ما أظهرته تعليقات دول كبرى مثل الصين وفرنسا ودول نامية مثل نيجيريا وكوبا وبنغلاديش لكن الديبلوماسية العربية عليها ان تكمل الطريق ولا تدع البيروقراطية تقضي على هذه المبادرة. لكن الخطوات التالية هي الأهم حيث أن العالم لا ينتظر من العالم العربي مجرد المشاركة الكلامية وانما ينتظر تحركًا حقيقيًا وفعالاً. من هنا جاءت المبادرة العربية الافريقية التي تدعو الى عقد مؤتمر موسع ثم انشاء صندوق لتحقيق هذه الأهداف وأساسها مكافحة الفقر في العالم العربي وافريقيا. وفي حين ان الاميركي وليام باف قدم 37 ملياراً كمنحة من ماله لمساعدة الفقراء وقدم بيل غيتس أكثر من 20 ملياراً وبيل تيرنر ملياراً مؤسسة الأممالمتحدة للتنمية فإننا لم نسمع عن مليارات تقدم من الاغنياء العرب ولا حتى ملايين وكانت المبادرة الوحيدة باسم العالم الاسلامي هي مبادرة البنك الاسلامي بتأسيس صندوق لمكافحة الفقر ب10 مليارات دولار والتي أعلن عنها نائب رئيس البنك ابو بكر سيس في الجلسة الخاصة للجمعية العامة يوم 27 تشرين الثاني نوفمبر الماضي. ان دورنا في مصر والعالم العربي في محيطنا النامي خصوصاً في افريقيا كان مهماً في مرحلة التحرز لكن دورنا الحالي يكاد يكون هامشياً. لأن التحدي الحقيقي أمام افريقيا والعالم الاسلامي وافريقيا تشكل جزءاً لا يستهان به هو مشكلة الفقر والتنمية وهي ما لم نولها اهتمامًا كافياً. ان المبادرة التي قامت بها مجموعة من الشخصيات العامة لإنشاء المجلس الافريقي العربي للتنمية في افريقيا يؤمل أن يشترك فيها العديد من الشخصيات المهمة في مجال الأعمال والفكر. كما ان التحرك الحكومي المصري والعربي لابد أن يضع استراتيجية لمكافحة الفقر داخلياً وخارجياً في افريقيا والعالم الاسلامي معتمداً على العنصرين اللذين يمتلكهما - القوى البشرية مصر ودول المغرب وسورية ولبنان والامكانات المالية الخليج وليبيا والجزائر - وكلا العنصرين يكادان يكونان ما تفتقر اليه مبادرة مكافحة الفقر. فالمشكلة ليست في التمويل - وهو ضروري - وانما ايضاً في تكوين وإرسال كوادر بشرية في مجالات الصحة والتعليم والصناعات الصغيرة تدرب وتعلم وتداوي هذه المجتمعات وتدريجيا تخرج بها من دائرة الفقر وتداعياته. ورغم ان المؤسسات العربية الحكومية والأهلية تقوم بدور لا بأس به في افريقيا وفي العالم الاسلامي إلا أنها تفتقر الى الاستراتيجية الشاملة التي يمكن ان تجعل دورها مؤثراً وهو ما يمكن للمجلس الجديد ان يقوم به. كذلك ان التعاون بين المؤسسات العالمية الحكومية والأهلية سيؤدي الى زيادة الفعالية ونجاح الجهود المشتركة. * مكافحة الفقر داخل مصر والعالم العربي: لكن التحدي الأقرب هو مكافحة الفقر داخل مصر والعالم العربي. ومنذ كتب طه حسين كتابه"المعذبون في الارض"فإن الفقراء في مصر والعالم العربي لم يجدوا من يتحدث عنهم بشكل واضح ودقيق. كما أن تقارير الأممالمتحدة والمنظمات الدولية تتحدث عنهم كأرقام وكأنما هم مجرد احصاءات اقتصادية لا تعني معاناة البشر وأحزانهم. وفي هذه اللحظة الفاصلة في تطور مصر والمنطقة العربية فإن معالجة قضية الفقر لا بد أن تتحول الى قضية أساسية تعلو على كل القضايا فهي أساس المشاكل التي تواجهنا الآن. ومعالجة قضية الفقر لابد أن تتحرك على محاور أربعة: 1- ان تحدد الدولة دورها في مكافحة الفقر في برنامج محدد تحت هذا العنوان ويتحدث عن المعدمين من البشر وكيفية التعامل معهم وتقديم الحد الأدنى من الرعاية الصحية والتعليمية والتدريب لتحركهم من دائرة الفقر الى دائرة محدودي الدخل. 2- ان تقوم الدولة بفتح مجال العمل الاجتماعي أمام المجتمع المدني وان تهتم وتحترم المنظمين الاجتماعيين Social Entrepreneurs وقضت الدولة في مصر ومعظم العالم العربي على هذه الفئة وسيطرت على دورها باعتبارها المنظم الاجتماعي الوحيد للصحة والتعليم...، اذ أممت الوقف وسعت للحد من جمع التبرعات او إنشاء الجمعيات الأهلية أو المبادرات الفردية وكانت النتيجة انتشار الفقر والمرض بشكل مخيف واستخدام المؤسسات الدينية الاسلامية والمسيحية للمشكلة لدعم دورها السياسي في ظل الفراغ القائم. ان وضع نظام، يتيح لقادة المجتمع المدني ان يتحركوا من خلال الافكار الجديدة والإبداعية ومن خلال قدرتهم على جمع التبرعات وإنشاء صناديق لمكافحة الفقر حيث ان قانون الضرائب يعفو عمن يقدم هذه التبرعات، سيغير من شكل المجتمع تماماً. 3- وضع برنامج فعال للمشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر وتجربة بنك القاهرة والدكتور محمد يونس في بنغلاديش تمثلان نجاحاً باهراً يمكن البناء عليه في كل انحاء العالم الاسلامي وافريقيا. لكن هذه المبادرة يجب ان تكون في إطار الشراكة ما بين الدولة والمجتمع المدني. 4- ايجاد تنسيق أفضل بين الجهود المحلية والجهود الدولية والاقليمية. ان العودة الى الأساسيات في معالجة قضايا المجتمع المصري والعربي هي مفتاح حل المشاكل الساخنة التي تواجهنا، فرغم كل ما نجده من صراعات وتقاتل وصدامات فإن الأساسي في هذا هو حاجة الإنسان الى الحياة الكريمة وعندما يفتقدها يدخل دائرة اليأس ثم الارهاب والعنف. لكي نتحرك في القرن الواحد والعشرين يجب ان نعالج مشاكل الفقر التي تركتها لنا العقود السابقة. * كاتب وديبلوماسي مصري