لم يشهد الإعلام اللبناني المرئي في السابق حالاً من "التعبئة" تماثل الحال التي يشهدها اليوم. حتى في السنوات الأولى للحرب عندما انقسمت بيروت على نفسها ثم تبعها تلفزيون لبنان منقسماً بين محطة"غربية"وأخرى "شرقية"، لم تبلغ الشاشة التلفزيونية هذا الحد من المبالغة في"التجييش"الإعلامي والتحريض السياسي واللاموضوعية والانخراط في اللعبة الخطرة التي يقودها عادة السياسيون أنفسهم. أضحت الشاشات الصغيرة في لبنان متطرفة وشديدة التطرف أحياناً، في ما تقدم وتذيع، عوض ان تكون معتدلة وفق ما يفترض الإعلام المرئي الذي يعد الأخطر إعلامياً تبعاً لدخوله المنازل وأثره المباشر على الجمهور الكبير. وباتت كل شاشة، خلال الفترة الحرجة التي يجتازها لبنان الآن، كأنها طرف في الصراع القائم، تشهد لمصلحة السياسيين الذين يقفون وراءها، بدلاً من ان تشهد على الواقع متيحة للجمهور ان يستخلص ما يريد استخلاصه، من عبر ومواقف. وما يجب قوله بلا تردد هو ان المواطن المحايد والمعتدل والعلماني والمتنوّر لم يعد يجد محطة يثق بها تمام الثقة ويطلع من خلالها على الوقائع والأحداث بموضوعية. لم تعد هناك محطة توفّق بين الآراء المختلفة وتقارب ما يمكن مقاربته بين المواقف وتتوجه الى المشاهد بصفته شاهداً مستقلاً يهمه ان يلم بما يحصل ويجري. وليس مستهجناً ان تطغى الصفة السياسية أو الحزبية أو الفئوية على هذه الشاشة أو تلك، فيقال هذه تابعة للجماعة هذه وتلك للجماعة تلك... وهذه تميل الى الحزب الفلاني وتلك الى الفريق العلاني. وقد يجد المواطن المحايد نفسه مضطراً الى متابعة النشرات والندوات في اكثر من شاشة ليتمكن من إدراك شيء من الحقيقة السياسية والوقائع. فالمحطة الواحدة لم تعد تكفي لتكوين صورة قريبة من الواقع، بعدما باتت كل محطة تقصر مهمتها الإعلامية على جماعتها. وقد أدت هذه المحطات في الأيام الأخيرة مهمات إعلامية خطرة ساهمت في إذكاء الكراهية والبغضاء بين اللبنانيين وفي صب الزيت على النار. وليس من حاجة هنا لأي أمثلة فالجمهور يعلم بما جرى ويجري على الشاشات الصغيرة. ولم يكن مستغرباً ايضاً ان يلجأ بعض الأقطاب السياسيين مباشرة الى هذه الشاشات ليعرضوا مواقفهم وليردوا على"غرمائهم"ليس بالكلام فحسب وإنما بالصور ايضاً. وقد حمل بعضهم الصور والوثائق ليعرضها على الجمهور رداً على حملة ما او على مواقف ضده. الصور. أجل. وحدها الصور، الفوتوغرافية والتلفزيونية تستطيع ان تؤدي دور الدليل. ولكن فات بعض هؤلاء ان الصور اليوم قابلة تماماً للتزييف والتزوير، مثل الأخبار والوثائق. معظم"الجماعات"باتت لها شاشاتها والويل للجماعة التي لا تملك شاشة. حتى الصحيفة أو المجلة لم تعد قادرة على مضاهاة الشاشة السحرية ولا على مجاراتها. الشاشة هي التي تملك السطوة الإعلامية الآن وهي القادرة على بث السموم مثلما هي القادرة على بث الحقائق والأخبار الصحيحة. إنها الشاشة القادرة على اجتراح"العجائب"ولكن أي عجائب؟