سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ولى زمن استجداء القروض ولغة الردع النووي تجدد رياح الحرب الباردة . عودة الروح الى روسيا بعد 17 سنة على نعي الاتحاد السوفياتي بوتين يحيي عرض العضلات وأساطيل الكرملين تعود الى المحيطات
يجمع المحللون داخل روسيا وفئة كبيرة منهم في الخارج على أن العام 2007 كان عام الرئيس فلاديمير بوتين، ليس فقط لأنه العام الأخير لبوتين في الكرملين، بعد ولايتين رئاسيتين حفلتا بالتطورات التي تدفع كثيرين الى مراجعة كل منعطفات المرحلة السابقة، بل أيضاً لأن هذا العام تحديداً كان نقطة تحول كبرى أعادت روسيا الى واجهة الأحداث في العالم، من بوابة استعادة روح الدولة العظمى تارة، بما يستتبع ذلك من محاولات لزيادة النفوذ والتأثير في الملفات الاقليمية والدولية، وأخرى لجهة عودة الحديث بقوة عن حقبة الحرب الباردة وتجلياتها القديمة والجديدة. عام 2007 شهد محاولة روسية لإعادة رسم ملامح العالم في شكل"أكثر عدلاً"بالنسبة الى موسكو كما يصر الكرملين. ومع انقضاء العام الأكثر سخونة منذ سنوات طويلة، تكون بقيت للرئيس الروسي في منصبه ثلاثة أشهر، يتوقع كثيرون أن تكون حافلة بالأحداث، خصوصاً انها مكرسة لإعادة بناء هياكل السلطة في روسيا في شكل يبقي السيطرة لنخبة يقودها بوتين نفسه، حتى من خارج مكتبه في القصر المحاذي للساحة الحمراء. ويعتقد كثيرون بأن مراسم نقل السلطات وتوزيع المهمات في العهد الجديد، لن تكون مرتبطة بالماضي بمقدار ما ستحدد ملامح السياسات الروسية لسنوات طويلة مقبلة، وهو أمر دفع الإدارة الأميركية أخيراً الى اعلان"عدم التفاؤل بإمكانية انتصار الديموقراطية في روسيا خلال العقد المقبل على الأقل". وبصرف النظر عن النظرة الأميركية الى التطورات الروسية خصوصاً لجهة ان العام 2007 كرس مصطلحاً جديداً أطلقه الكرملين وروّجه بقوة، جوهره"الطريق الخاص لروسيا"ما يعني ان أبرز نتائج العام المنقضي في هذا المجال جاءت على شكل اعلان"الطلاق النهائي"مع مصطلحات فترة الإصلاحات الليبرالية التي اعتمدت الطريق الغربي في نشر الديموقراطية. وهذا تجلى بوضوح في تصميم المركز الفيديرالي على تركيز السلطات في شكل قوي، وترسيخ هياكل هرم السلطة في شكل عمودي من دون الالتفات الى اعتراضات الآخرين، باعتبار ان هذا السبيل وحده كفيل بضمان أمن روسيا المترامية الأطراف. واللافت ان الحديث عن استعادة عافية روسيا سياسياً واقتصادياً ودرجة الاستقرار الداخلي المريحة انعكست خلال 2007 في طريقة تعاطي الكرملين مع التأثيرات والضغوط الخارجية، فبدا أكثر ميلاً الى تجاهلها والاستخفاف بها. وهذا تجلى في منعطفات أبرزها عدم الاهتمام بحضور المراقبين الدوليين للإشراف على انتخابات الهيئة الاشتراعية في مطلع الشهر الأخير من العام، وكذلك صم الآذان عن اعتراضات الغرب على طريقة التعامل القاسية مع المعارضين الروس من التيارات اليمينية الليبرالية، ناهيك عن المنعطفات الأكثر حدة مثل اعلان موسكو انسحابها من معاهدات تسلح دولية، وتلويحها المستمر بمزيد من الانسحابات وتعزيز قدراتها العسكرية على كل الأصعدة. ويرى كثيرون أن أبرز ما تمخض عنه العام 2007 هو العودة الروسية القوية الى روح الاتحاد السوفياتي، ليس فقط عبر بسط الحزب الواحد سيطرته على كل مناحي السياسة والاقتصاد، بل حتى في الخطاب الروسي الرسمي الذي عاد يطلق التحذيرات والتهديدات. عادت الروح للقوة العظمى، من دون أن تعود الأعلام الحمر، ف2007 كرس رمزاً واحداً هو فلاديمير بوتين. ويمكن القول ان الروس بعد انقضاء 2007 سيذكرون عهد بوتين بفضل استقرار الاقتصاد أو على الأقل شبه استقراره وعدم تعرضهم لهزات كبرى كما حدث في السابق، وتنظيم الحياة السياسية الداخلية في شكل يضعف مواقع المعارضة التي لا تحظى باستثناء الحزب الشيوعي بشعبية أصلاً، لأنها مرتبطة في أذهان الروس بعهود تراجع قدرات روسيا واستجدائها القروض على موائد المانحين الدوليين. باختصار غدت الحياة الداخلية الروسية أكثر هدوءاً وربما مللاً بحسب بعض المعلقين، لأن التطورات السياسية باتت متوقعة وقليلاً ما حملت مفاجآت كبرى. خارجياً، شكلت العودة الروسية القوية الى الساحة الدولية عنصراً مهماً في التغيرات التي بدأت قبل سنوات، لكنها بلغت ذروتها في 2007. وواضح ان التوجهات الأساسية للسياسة الخارجية الروسية حددها بوتين في مؤتمر الأمن والتعاون في ميونيخ في شباط فبراير 2007. في ذلك المؤتمر وعندما وجه بوتين انتقادات قاسية الى"الاندفاع الأميركي"الذي أسفر عن زيادة حال الاضطراب في العالم، وتفجير فتيل أزمات تهدد بزعزعة الأمن الدولي، مشيراً الى ان المسؤول عن الفوضى العالمية هو الأحادية القطبية، خرج بعضهم بانطباع مفاده ان روسيا أعلنت حرباً باردة جديدة، فيما رأى آخرون في الخطاب عودة طال انتظارها للدب الروسي القادر على اعادة التوازن الى العلاقات الدولية. منذ ذلك الوقت زاد توتر العلاقات الروسية مع الغرب وبدأت مرحلة جديدة لم يعد فيها مكان للحديث عن التحالف في مواجهة الأخطار المشتركة وأبرزها الإرهاب الدولي. حتى ان وسائل الإعلام الروسية بدأت التركيز على أن واشنطن وحليفاتها الغربيات قوضن هذا التحالف الى غير رجعة، عبر تجاهل مصالح روسيا عمداً. لقد قرر الرئيس الروسي أن يبدأ عامه الأخير في الكرملين بفرض معادلة جديدة تغدو بلاده فيها طرفاً أساسياً في كل الحوارات والنقاشات في العالم. وسرعان ما عكست المستجدات الإصرار الروسي على المضي في هذا الطريق. ففي الأزمات الاقليمية وسع الكرملين اتصالاته وزاد الحضور الروسي تأثيراً وضغطاً في كل مكان تقريباً، من الأزمة اللبنانية - السورية وملف التسوية في الشرق الأوسط، الى مشكلة استقلال كوسوفو، والبرنامج النووي الإيراني، حتى الوضع في أفغانستان والعراق. وبعدما كانت موسكو تلعب دور الشاهد والوسيط الداعي الى ضبط النفس وتجاوز الخلافات، ظهر مبعوثون روس في سورية ولبنان في مهمات لتحقيق نقلات أساسية، منها مثلاً محاولة فك التحالف السوري - الإيراني وحض السوريين على الذهاب الى أنابوليس، في مقابل تحريك ملف التسوية السورية - الإسرائيلية. وفي الوقت ذاته عمدت موسكو الى ترسيخ تعاونها مع دمشق على كل الأصعدة، خصوصاً العسكرية، فلمحت الى أن قاعدة طرطوس التي كانت في العهود السابقة مركز صيانة للسفن"السوفياتية"ستغدو مركزاً أساسياً لتحركات الأساطيل الروسية في البحار الدافئة. ايرانياً، عملت موسكو لتخفيف الضغط على حكومة الرئيس محمود أحمدي نجاد، وحققت نجاحات في تأجيل فرض عقوبات مشددة على طهران. وكان لزيارة بوتين العاصمة الإيرانية للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين البلدين، دوي قوي في الغرب. ومع عودة الروح للسياسة الدولية الروسية ظهر عنصر آخر، لم يخف القادة الروس ارتباطه بدور بلادهم الجديد، وهو محاولة استعادة الأمجاد العسكرية الغابرة. اذ اعلن الكرملين مرات ان الوجود العسكري المباشر في مناطق في العالم، يهدف الى ضمان أمن روسيا في عالم متوتر حافل بالأخطار، وأنه لا يمكن الحديث عن استعادة روسيا عافيتها من دون ذراع عسكرية قوية تحمي"الإنجازات". وفوجئ العالم في مرحلة تميزت بحدة السجال بين واشنطنوموسكو حول مشروع نشر الدرع الصاروخية الأميركية وتوسيع الحلف الأطلسي شرقاً، برؤية القاذفات الاستراتيجية الروسية تجوب أجواء المحيطات الدولية، في استعادة لتقليد سوفياتي لعرض العضلات. وعادت الأساطيل الروسية الى التوغل في بحار العالم، من شماله الى جنوبه، وبدأ الكرملين الحديث عن مراكز سترابط فيها السفن الحربية الروسية، بينها طرطوس في البحر المتوسط. تزامن ذلك كله مع خطط عملاقة لإعادة البناء العسكري الداخلي، والحديث عن تعزيز القدرات العسكرية، خصوصاً على الصعيد النووي. باختصار، بدا كأن الاتحاد السوفياتي ينهض بعد 17 سنة على نعيه. لكن هذه الخريطة التي رسختها بقوة مجريات العام 2007، لا تعني لدى كثيرين في روسيا عودة مباشرة للمواجهة الباردة، ولو أمعنت موسكو في استخدام شعارات العهود الماضية والتباهي بطول ذراعها الصاروخية، رداً على خطط واشنطن لنشر الدرع الصاروخية، وبالتهديد بالسلاح النووي للرد على أي عدوان محتمل. فالنخبة السياسية الروسية تجمع على أن خطر عودة الحرب الباردة ليس واقعياً، على رغم كل الصعوبات التي تميز العلاقة بين موسكووواشنطن. وهناك من لا يزال يذكر ان خطاب بوتين في ميونيخ حمل"تحذيراً ودعوة الى الحوار أكثر منه تهديداً بإطلاق النار"، لأن"التجربة دلت على انه لم يعد بإمكان بلد واحد أن يرسم سياسات العالم، والدليل الوضع المتفجر الآن بسبب سياسات واشنطن"... ما يعني ضرورة اطلاق حوار جدي يأخذ في الاعتبار المستجدات العالمية، والتطورات في بلدان مهمة مثل روسيا والصين. ويعزز هذا التوجه غياب العنصر الأيديولوجي في الخلاف الروسي - الأميركي، وارتباط البلدين بمصالح مشتركة اقتصادية وسياسية في مناطق من العالم. ولا يخفى ان مناخ الانتخابات الروسية والأميركية كان له تأثير مباشر في تصعيد المواجهة خلال العام 2007، لكن هذه الحال لن تستمر في رأي كثيرين. في مقابل هذا التفاؤل، يصر آخرون على ان المرحلة المقبلة ستشهد تصعيداً في التوتر، باعتبار ان وصول الديموقراطيين الى السلطة في واشنطن، سينقل الأولويات الى مشكلات حقوق الإنسان وحرية الرأي في روسيا، وان السلطة المقبلة في روسيا ستكون أقوى لمواجهة محاولات التدخل في شؤونها، بحكم الاستقرار السياسي ومعدلات النمو المتواصلة، اضافة الى أن الأزمات الاقليمية ليست مرشحة للحل، بمقدار ما هي آخذة في التأزم. ضمن هذه الرؤية، يعدد أصحاب هذه النظرية عناصر تعزز الموقف الروسي، بينها إخفاق الثورات الملونة التي وصلت الى حال سيئة في جورجيا وأوكرانيا مثلاً، ما يعني ان الجهود الغربية لدعم قيام"ثورة ملونة"في روسيا محكومة بالفشل سلفاً بحسب أصحاب هذا المنطق... ولأن انتخابات مجلس الدوما أظهرت غياباً مدوياً للمعارضة، وعجزها عن لعب أي دور في السياسة الداخلية أو الخارجية الروسية. بالمقياس ذاته فإن مرشح الكرملين للرئاسة ديمتري ميدفيديف الذي ينتظر أن يتوج رئيساً في آذار مارس المقبل، أعلن توجهات سياسته الداخلية والخارجية عبر"الحفاظ على النهج الحالي وتعزيزه". ويرى كثيرون بناء على التركيبة القائمة، ان 2008 لن يحمل مفاجآت بمقدار ما سيشكل استمراراً للعام 2007 على كل المحاور. سيخرج بوتين من الكرملين بعد شهور قليلة، لكن الأكيد انه سيظل اللاعب الرئيس في السياسة الداخلية والخارجية لقوة عالمية، هاجسها استعادة أمجادها، ولو بالتلويح بالذراع العسكرية الطويلة، لإحياء دور في صنع القرار العالمي.