لفتت السياسات التي ينتهجها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنظار المراقبين واهتمامات المحللين السياسيين، لما تؤشر إليه من اتجاه نحو عودة روسيا الى احتلال موقعها كدولة عظمى على المسرح الدولي، بحيث تستطيع التعامل مع الولاياتالمتحدة تعامل الند للند. وبذلك تخرج روسيا من الكبوة التي وقعت فيها، عقب تفكك الاتحاد السوفياتي، نتيجة سياسات بوريس يلتسين الليبرالية التي حققت خدمات كبيرة لواشنطن والحركة الصهيونية التي انتعشت في روسيا خلال فترة حكمه، وكادت تلك السياسات أن تطيح بما تبقى من قوة لروسيا وأمل في عودتها الى تبوؤ مكانة مرموقة على الصعيد الدولي. وفي الوقت الذي كانت الولاياتالمتحدة والدول الغربية تأمل في أن تتمكن من تفكيك روسيا، من خلال تفجير التناقضات القومية والدينية داخل الاتحاد الروسي، انطلاقا من الشيشان، جاء صعود بوتين الى سدة الرئاسة في الكرملين خلفا ليلتسين ليشكل بداية النهاية لهذا الحلم الأميركي الأوروبي، وبداية انتقال روسيا من حالة الاختلال والاضطراب والضياع الى حالة استعادة التوازن في الداخل عبر انتهاج سياسات مكنتها من ترميم وضعها الاقتصادي الذي كان يتدهور باضطراد وتمكنت من التخلص من الديون مستفيدة من الارتفاع الكبير في اسعار النفط والغاز ومن تصفية مراكز القوى الصهيونية في الكرملين وبعض وسائل الاعلام، ومن ثم تجميع عناصر القوة الروسية واستخدامها على المستويين الاقتصادي والسياسي والمتمثلة في: النفط والغاز، الطاقة النووية، الأسلحة التقليدية الحديثة التي توازي الأسلحة الأميركية اضافة الى موقع روسيا كعضو دائم في مجلس الأمن ومنظمة شنغهاي. 1- على صعيد النفط والغاز، بسبب اهميتهما الاقتصادية وضعت إدارة بوتين خطة لاستخدام هاتين المادتين الحيويتين لتعزيز نفوذها واحياء دورها، خصوصا انها تزود بهما الجموريات السوفياتية السابقة ومعظم دول أوروبا الشرقية الى جانب دول أوروبية عديدة. وكان واضحا كيف استخدمت موسكو في الشتاء الماضي الغاز كوسيلة للتأثير على أوكرانيا التي خرجت منذ الانتخابات الماضية من دائرة التحالف معها لتقترب من التحالف الأميركي الغربي. واذا أخذنا تأثير مادتي النفط والغاز على اقتصاديات الدول ندرك حاجة الدول المذكورة الى اقامة علاقات جيدة مع روسيا وعدم معاداتها. 2- في الطاقة النووية تعتبر روسيا في طليعة الدول التي تنتج الطاقة النووية المتطورة التي تحتاج اليها دول تسعى الى امتلاكها ولا تستطيع الحصول عليها بسبب الحصار الأميركي المضروب على هذه الدول، وهو ما ظهر من خلال تعاون موسكو مع طهران في بناء العديد من المفاعلات النووية. وفيما يعود هذا التعاون بالفائدة المادية الكبيرة على روسيا، فانه يعزز أيضا موقعها ودورها كلاعب مؤثر على الساحة الدولية. 3- من المعروف ان روسيا هي في مقدمة الدول، الى جانب أميركا، التي تملك صناعة اسلحة تقليدية متطورة سواء في مجال الطائرات الحربية أو أنظمة الصواريخ والدبابات وغيرها. وبعد توقف لسنوات اثر انهيار الاتحاد السوفياتي استأنفت موسكو في عهد بوتين بيع هذه الأسلحة الى سورية والجزائر وزادت عليها ايران وغيرها من الدول التي لا تدور في الفلك الأميركي وتتعرض لضغوط أميركية، وقد وفر ذلك لموسكو مردوداً مالياً مهماً أسهم في تطوير صناعة السلاح لديها وفي ذات الوقت أعاد حضورها في مواجهة النفوذ الأميركي في منطقة الشرق الاوسط، وهو ما أثار انزعاج الإدارتين الاسرائيلية والأميركية، ودفع الصحافة الأميركية الى اتهام بوتين بحماية الأنظمة التي يهاجمها بوش ويعتبرها جزءاً من"محور الشر". 4- يمنح المقعد الدائم في مجلس الامن روسيا موقعا مؤثرا في تعزيز سياساتها وفي العودة الى المشاركة بفعالية في صياغة القرار الدولي بما يصون مصالحها ويجعلها تستعيد مكانتها كدولة عظمى وتعيد التوازن الى السياسات الدولية وهذا ما برز أخيراً من خلال المواقف الروسية المساندة لايران وسورية. 5- تتشكل منظمة شنغهاي من دول لها وزنها وتأثيرها هي روسيا والصين والهند وجمهوريات آسيوية أخرى. بدأت شنغهاي منظمة للتعاون الاقتصادي وتحولت في اجتماعاتها الأخيرة الى حلف سياسي يتصدى لسياسة الهيمنة والتفرد الأميركية وتغلغل الغرب في آسيا الوسطى، ما جعل المراقبين يتحدثون عن ولادة عملاق آسيوي في اطار نشوء عالم متعدد الأقطاب. من الواضح ان هذه السياسة الروسية في استخدام عناصر قوتها المتعددة والمهمة تعيد العالم الى أجواء الحرب الباردة والتي تتمثل في احتدام التنافس على السيطرة على اسواق السلاح والنفط خصوصاً في المناطق الحيوية التي يشتد فيها الصراع ان كان في المنطقة العربية وايران أو في آسيا الوسطى. ولاشك أن بوتين الذي يسير بخطى ثابتة نحو تعزيز مكانة روسيا كدولة عظمى يحسن الاستفادة أيضا من أخطاء وسقطات الرئيس الأميركي جورج بوش، الذي تثير سياساته العداء للولايات المتحدة حول العالم، ويحولها الى أوراق قوة لمصلحته، حيث ينتهج الرئيس الروسي سياسة تتميز بالمرونة والاستقطاب لتصبح المعادلة: أميركا تخسر يوما بعد يوم المزيد من مواقع نفوذها وتفقد معها الميزات التي كانت تسمح لها بقيادة العالم والتحكم بقراراته، بينما تحقق روسيا بالمقابل المكسب تلو الآخر مستعيدة مكانتها كقوة عظمى. وما كان يتحفظ في قوله سابقا عبر عنه بوتين أخيراً عندما تعهد باستعادة موقع روسيا في العالم وعدم تكرار أخطاء القيادة السوفياتية السابقة، وعمد الى استكمال ذلك بتوجيه الضربة الأقوى منذ سنوات الى رموز الفساد وسوء استخدام السلطة باقالة شبه جماعية لمسؤولين كبار فيما يشبه تصفية لكل الطاقم الذي أتى الى الحكم في عهد يلتسين مستجيبا بذلك لضرورات التغيير ومطلب قيادات المؤسسة العسكرية الذين كانوا الأكثر تضررا من سياسات يلتسين التي كادت تدمر القوة الروسية. ويتكامل هذا التوجه على الصعيد الداخلي مع التوجه على الصعيد الخارجي لأنه لا يمكن التحدث عن تعزيز مكانة روسيا دولياً من دون أن تكون هناك دولة متماسكة وقوية ومزهرة اقتصاديا وقادرة ان تصبح أحد مراكز القوى الرئيسية المهمة في العالم بسبب ما تملكه من مقومات القوة وعناصرها المتنوعة. * كاتب فلسطيني