ليس سراً لأحد أن الهدف الأساسي للولايات المتحدة من عقد مؤتمر أنابوليس للسلام لم يتمثل في تمهيد الطريق أمام توقيع اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل في جمع الدول العربية الصديقة لأميركا تحت مظلة عملية السلام لاحتواء أو على الأقل موازنة قوة إيران المتنامية. وفي حين أن الرئيس بوش يرغب كثيراً في أن يذكره التاريخ كالرئيس الأميركي الذي دعم حلاً للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي شبه الأزلي خلال السنة الأخيرة من ولايته، إلا أن أولويته الحالية وهدفه الملح هما كيفية منع الإيرانيين من تطوير القنبلة النووية وقلب موازين الرعب لصالحها. وعن طريق دعوة سورية إلى المؤتمر وإدراج مسألة الجولان على جدول الأعمال، أمل بعض المسؤولين في الإدارة الأميركية أيضاً في المباشرة في استراتيجية ترمي إلى قطع العلاقات بين دمشق وطهران، وهو هدف من شأنه مساعدة إسرائيل على تحييد التهديدات العسكرية المصوبة ضدها من جانب"حزب الله"و"حماس". لكن في حال لم يكن بوش ورئيس الوزراء الاسرائيلي إيهود أولمرت مستعدين للدخول في مقاربة جديدة تجاه دمشق، فستؤدي التدابير الجزئية والحلول النصفية على الأرجح إلى تقريب سورية من إيران وإقناعها بالتمسك بدورها كعابث بالسلام إما بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وإما بين الإسرائيليين واللبنانيين. وإذا استندنا إلى التاريخ وإلى آراء القادة البراغماتيين في سورية وايران، لوجدنا أن التحالف السوري الإيراني سيقوى على مؤتمر إنابوليس ونتائجه. إن إبعاد سورية عن المسار الإيراني هو سياسة سليمة لأسباب واضحة تحدث عنها عدد من المسؤولين في واشنطن والعواصم العربية، لكن لا بد أن نتذكر أسباب فشل المحاولات السابقة للفصل بين المسارين السوري والإيراني، والأسباب التي ستمنع على الأرجح هذه المحاولة الجديدة من حصد أية نتائج ملموسة. وطوال الثمانينات، حاول الأميركيون والعرب جاهدين إقناع الرئيس حافظ الأسد بقطع أواصر العلاقة مع إيران في عهد الخميني. وفي ذلك الحين، كانت أمام الرئيس الأسد أسباب مقنعة للتخلي عن تحالفه مع الإيرانيين، لا سيما حماية حدود بلاده الشرقية مع العراق بسبب احتمال اندلاع حرب مع اسرائيل، ووضع حدّ لتهميش سورية عن الساحة السياسية في العالم العربي نتيجة توطد العلاقات بين مصر والأردن والعراق، والتدخل الإيراني في لبنان عبر"حزب الله"، الذي هدد المصالح الحيوية لسورية في هذا البلد، وأخيراً قرار الخميني بوقف مدّ سورية بالنفط، مما ألحق بالاقتصاد السوري أضراراً بالغة. وعلى الرغم من كل هذه الأسباب والجهود الحثيثة التي بذلها العاهل الاردني الملك حسين والملك فهد بن عبدالعزيز والرئيس المصري حسني مبارك في صيف 1987 لممارسة ضغوط كبيرة على سورية لقطع ارتباطها بإيران، وإعادة علاقاتها مع العراق، غير أن حافظ الأسد لم يترك أصدقاءه الإيرانيين جانباً. ولطالما امتاز حافظ الأسد بفكره الاستراتيجي، ففهم أن الاصطفاف إلى جانب العراقيين لن يساعد على التخفيف من المخاطر الأمنية المسلطة على بلاده ولا على تعزيز مصالح سورية الإقليمية. وعلى رغم التباين الواضح في وجهات نظر كل من سورية وإيران حول الكثير من المسائل، إلا أنهما كانتا على اتفاق على المسألة الأهم ألا وهي أن انتشار القوات الأميركية في الخليج يهدد مصالحهما الاستراتيجية. وكان ذلك سبباً كافياً لهما لتمتين دعائم التحالف القائم بينهما. لا شك في أن الخطة الاستراتيجية للشرق الأوسط مختلفة اليوم عما كانت عليه سابقاً. ومن أوجه الاختلاف هذه، وفاة حافظ الأسد وتربع ابنه بشار المعروف بقلة خبرته وحبه للمجازفة على سدة الرئاسة. بيد أن الولاياتالمتحدة لا تزال موجودة في الشرق الأوسط، وهي متورطة اليوم في المنطقة أكثر من أي وقت مضى نتيجة احتلالها للعراق وجهودها المستمرة لتعزيز استراتيجيتها الهشة لنشر الديموقراطية، وهما أمران أديا إلى إثارة موجة من القلق بين صفوف القادة العرب المؤيدين لأميركا. واليوم كما في الماضي، عاد الإيرانيون والسوريون لينظروا إلى السياسات والإجراءات الأميركية والإسرائيلية على أنها تهدد أمنهم القومي. وبالفعل، شهد كل من البلدين استهدافاً لمنشآته النووية، وضغوطاً أميركية، وغارات جوية إسرائيلية. وهذه المرة أيضاً، كان ذلك بمثابة سبب كاف لسورية وإيران لتقوية تحالفهما. واليوم، ليس من المستحيل التوصل إلى اتفاق سلام بين سورية وإسرائيل، غير أن ذلك سيتطلب تنازلات كبيرة واقتناع البلدين أن هذه المقاربة ستعود بالفائدة على كليهما. وستضطر إسرائيل عندها إلى الانسحاب إلى حدود سنة 1967، بما فيها الشاطئ الشمالي الشرقي لبحيرة طبرية. أما سورية، فستجبر على تقديم ضمانات أمنية موثوقة لإسرائيل، والبدء بتوقيع الاتفاقية التي وافق عليها حافظ الأسد في شيبيردزتاون وجنيف سنة 2000، والتي تقضي بإنشاء مناطق محايدة على جانبي الحدود. وسيطلب الإسرائيليون من واشنطن، نتيجة المخاوف الامنية في حال قرروا التخلي عن الجولان، كما حصل سنة 2000 إبرام"صفقة أمنية"تساوي قيمتها حوالي 20 بليون دولار، إن لم يكن أكثر. وبالتالي، لن تكون واشنطن محصورةً بتأدية دور الوسيط لتوقيع اتفاقية سلام بين سورية وإسرائيل، بل ستؤدي أيضاً دور الممول. اعتقد السوريون سنة 2000 أثناء وجودهم في شيبيردزتاون ولا يزالون أن الإسرائيليين لم يكونوا في وضع يسمح لهم بفرض شروط على سورية كقطع علاقاتها مع إيران بهدف إحلال السلام، وأن انحساب الإسرائيليين من الجولان هو حق مشروع منحه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للسوريين بموجب القرار رقم 242. وبالفعل، تشكل السيادة على الأراضي السورية حقّاً غير قابل للجدل بالنسبة إلى السوريين. وفي حين كان هناك دائماً مجال للتعاون والمساومة بشأن لبنان والفلسطينيين، لكن كلما كان الامر يتعلق بحق سورية في التمتع بعلاقات جيدة مع إيران، استمر الإسرائيليون، بحسب ما أصر وزير الخارجية السوري فاروق الشرع نائب الرئيس اليوم على ترداده، في الذهاب الى ابعد مدى. واليوم، عندما يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت أن سورية"تعرف ما عليها القيام به"بهدف تحقيق السلام، فذلك يعني ضمناً أن على سورية التخلي عن إيران وقطع علاقاتها مع"حزب الله"و"حماس". وفي حين قد تقدم سورية على التفكير بفك ارتباطها مع هذين التنظيمين، إلا أنه ليس هناك ما يدفعها على المساومة بشأن إيران. إن التحالف السوري الإيراني، الذي تأسس منذ الثورة الإيرانية سنة 1979، لم يكن يوماً تحالفاً كاملاً، بل إنه حمل مساوئ بالغة لا سيما بالنسبة الى العراق ما بعد صدام ولبنان بعد الانسحاب السوري. لكن قدرة الدولتين على مواجهة تراجعات حادة ومراجعة علاقتهما بصورة دورية، والأهم من ذلك، الامتناع عن المساومة في مسائل ذات الصلة بالأمن القومي، أثبتت أن الارتباط السوري الإيراني تعدى شكل"زواج المصلحة"وأصبح بالفعل تحالفاً ناضجاً اتخذ طابعاً مؤسساتياً. وإنه من غير المحتمل أن ينكسر هذا الترابط بسبب محفزات وهمية ووعود فارغة من جهة واشنطن، والتي انضمت إليها اليوم موسكو. إن السلام بين سورية وإسرائيل، عندما سيتحقق وفي حال تحقق، سيعيد على الأرجح تحديد معايير التحالف السوري الإيراني، إلا أنه لن يؤدي إلى كسره. وهذه في نهاية المطاف نتيجة لا بأس بها بالنسبة الى الدولتين. * باحث في مركز سابان لسياسات الشرق الأوسط - مؤسسة بروكينغز. ** زميل أول في مؤسسة بروكينغز.