سبق أن تبرّأ الاصلاحيون من نزعة الهيمنة والرسالية الايديولوجية عند الاشتراكيين الثوريين، ودافعوا عن مراكمة المكتسبات تدريجياً من خلال المشاركة والأداء البرلماني، بالتواصل مع الحراك الشعبي، ومهادنة البورجوازية، بغيّة احداث تحوّلات تؤول الى العدالة الاجتماعية. على خلفية صعود الطبقة العاملة وتطور الرأسمالية، تعدَّدت قراءات القطع النوعي والتفسيرات العائدة للحتمية التاريخية، تبعاً لحصرية المرجعية الماركسية المختزلة لينينياً، أم عملاً بمنهجية تنفتح على سائر المدارس وتعاليمها، وصولاً إلى التكيّف مع الرأسمالية وشطط الانحرافية والانتهازية. إن حال الحركات الاسلاموية، على اختلافها، شبيهة بورثة الحركة العمّالية من حيث صدق تطابق القول والفعل، اي مدى الاخلاص عملياً للمرجع المؤسس القاضي أمراً بالمعروف، وحرصاً على التسامح والمعاملة بكلمة سواء. فعلى قاعدة الاحتكام الى السلف الصالح والغلوّ في سكب القدسيّة على حرفية مُبسترة للنص، نشطت المجموعات الخارجة من رحم الأصولية، وتفرّقت شيعاً متناحرة تتقاذف التكفير المتبادل، وتتقاطع في رفضها لحواصل التاريخ والمعاصرة باعتبارها ظلامة وقهقرة، وحتى ارتداداً الى الجاهلية عند بعض الفرق. تمتزج الغيبية بالأسطورة لاستيلاد عالم منقّح من الشوائب، تسكنه وتمتلك مفاتيحه وقفاً كل دعوة، وتبنى على المقدمات العقيدية رسالية جامحة متفلتة من قيود الواقع ومعايير الموضوعية والمساحة المتروكة للغير. بذلك تعيد انتاج الشمولية في دوائرها المغلقة، وتختصر المسافة بين التنظيم والسلطة، قافزة فوق مكوّنات المجتمع ومتجاهلة عمداً الوجود المدني، في فواصله وتلاوينه وعلاقاته. وفي سبيل توطيد لحمتها وسطوتها، اعتمدت، جميعها، نمطاً عمودياً يُجسِّد ولاء القاعدة المباشر والمطلق للقائد مغلفاً بالبيعة والشورى، وتوسّلت الإذعان قسمة للآخرين. مهما بدا من توليفات، سيظل هذا النموذج الاقصائي ينمو في جوف الاسلاموية، ويتحكم بمفهومها الخلاصي ليقودها إلى أفدح السلوكيات. وكما التهمت الثورات أبناءها، لن تنجو حركاتها وصحوتها الجهادية من عامل التناحر العضوي والخصام، أياً كان انتماؤها المذهبي الحاضن. أطلقت الثورة الاسلامية في إيران صفارة الانطلاق، وأيقظت كوامن التبليغ والهجرة التي زرعها سيّد قطب والمودودي في جسد الأمة وهيّأ لها حسن البنا بادئاً في مصر، وتبعه عزّام في مضافات الأفغان العرب المنشأة في بشاور، بوابة أفغانستان في غربي باكستان. من رحم حركة الاخوان المصرية، تناسلت التشكيلات تنهل من بئر التيمية والجوزية المحافظة، وتستزيد من اضافات الدعاة المحليين وترسيمات شيوخ"الاصلاح"والأمراء المُبايعين من تابعيهم على هامش الاسلام الرسمي الموسوم بالجمود وتبعية الحكام. وعلى امتداد الجغرافيا العربيةودار الاسلام، فرّخت وحدات بتسميات مختلفة وبيارق خاصة، وحملت أفكارها الى جاليات المهاجرين في عقر المغتربات. تزامن بروز حركة التوحيد الإسلامي في طرابلس ? لبنان، من تركة مجموعات مسلّحة بلدية شاركت في الجولة الأولى من الحرب الأهلية، مع عملية اغتيال السادات المدويّة في أرض الكنانة التي نفذها الزّمر والاسلامبولي ورفاقهما. وحيث اقتصر الترتيب الانتقامي على الانحراف الخياني في القاهرة نتيجة محاصرة النظام وبطشه بالتشكيل الوليد، تسنَّى للتوحيد بأمرة شيخ مغمور سعيد شعبان غريب عن نسيج الدّيار، بسط سلطته الكاملة على المدينة وجوارها لسنوات وإسكات أهلها واقتلاع المناوئين لصيغتها الفاضلة في عهدته، نظراً لتمزّق الدولة وضعف أجهزتها وحضورها. آنذاك، كانت طلائع المجاهدين قد انخرطت في الحرب على الشيوعية والإلحاد الدائرة في أفغانستان وانتظمت شبكات إيفادهم الى أرض المنازل، البعيدة عن الخريطة العربية، على أنقاض حركة التحرّر المتصدّعة والمتهاوية. كرّت المسبحة تستبدل العقاقير القومية التحرّرية بالشحنات الدينية والفكر الخلاصي، في ما يُشبه التوبة وإعلان فشل المنظومة السياسية والسلطوية التي رافقت تصفية جيوب الاستعمار، وبدايات التكلّس الاشتراكي وضمور فعل الرافعة الاجتماعية، المطلبية والحقوقية في إطار كيانيّة سيادية مُهترئة عاجزة عن المواجهة الحضارية مع الأجنبي والاستكبار. ساعدت لوحة الظلم الاجتماعي والفوارق الطبقية في رفض القائم وإدانة السياسات. وحرّر الغلاف الايماني أرباب الصحوة من مشقة الامتحان وتسجيل نتائج ملموسة في حقل المُعاش والآفاق، بذريعة أولوية الاصلاح وتقدم صلاح النفس واستعادة الهوية والكرامة على الدنيوي، ومكسب الجنة على مباهج الأرض. هكذا باتَ القياس أسير معايير هُلامية، مثالية ظاهراً ، برع الاسلامويون في إبراز رفعتها وانتصارها على القيم الغربية المادية واتصالها بالأصالة والعروة الثقافية الجامعة. نهضت فصائل وفروع بدءاً من الثمانينات، فكانت حماس في فلسطين والجهاد الاسلامي في عدة أمصار، وخرجت الجماعة المسلحة من باطن جبهة الخلاص الاسلامية في الجزائر، ولبّى حزب الله في لبنان نداء الإمام الخميني، فيما أدّى تصدير الثورة الايرانية الى يقظة شيعية بين اقليات الخليج العربي، وائتلاف التيارات العراقية المُتحلقة حول مرجعيات/ تيارات في حزب الدعوة القديم العهد الذي أفرز لاحقاً المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق وجناحه المسلّح المكنَّى بفيلق بدر، بينما أنشأ التيار الصدري جيش المهدي في مرحلة متأخرة. قابل أسامة بن لادن الاندفاعة الخمينية من موقع أهل السنّة بعنوان احيائي جهادي تمرّسَ في العمل السري وعمليات التفجير ضد المصالح والأهداف الأميركية في المنطقة، من ملاذه السوداني وامتداداته في القرن الأفريقي، قبل ان يُجبر على المغادرة والاستقرار في أفغانستان عبر باكستان. من ثم انطلقت القاعدة في مشروعها الكوني الأوسع وتمتعت بحرية التخطيط والعمل في كنف إمارة طالبان. هكذا تكاملت لوحة جهادية بجناحيها المذهبيين، وتناسلت مقلّدين وأتباعاً وأنصاراً من وسط آسيا الى المغرب العربي. استوت الجهادية على محاربة العدو الأكبر في دعواتها وأدبياتها وغاياتها المعلنة، دفاعاً عن الأمة وتوكيداً لصحوتها. إنما سرعان ما انحرفت في مسارها نحو الإكراه، سواء لإتباع منهج التكفير أو لما ارتأته من ضرورات ومقدمات"اصلاح"بغية إيقاظ الأمّة من الخمول والسّبات والنيل من المتهاونين وأعوان الشيطان في الساحة الاسلامية. هكذا تحوّل الأمر بالمعروف في الممارسة الى سيوف قاطعة واغتيالات وحملات تأديبية ومجازر، أخصّها في الجزائروالعراق واليمن وأفغانستان، ناهيك عن الغزوات في دار الحرب الواسعة، تحصد الأبرياء وتنزل الويلات بالآمنين. وغدا العُنف العشوائي سِمة غالبة لمعظم التفرّعات، وثقافة الموت والعدم مصدراً للمزيد من الانغماس. حاذر كلّ من حزب الله وحماس أساليب مصادمة الداخل والاقتتال، وتمكّنا من العمل المقاوم للاحتلال الإسرائيلي، بل سجل حزب الله نجاحاً بامتياز. وخوَّلهما حسن الإداء والتنظيم والتفاني من إبراز التحامهما بالقضية الوطنية وإسباغ علامة فارقة على هويتهما الجهادية، ما قادمهما الى امتلاك قاعدة شعبية عريضة والمشاركة السياسية الكاملة وتبوء موقع صناعة القرار. بيْدَ أن سدود الحكمة انهارت فجأة وأطاحت بالموانع في خضم اللعبة الاقليمية وتجاذباتها، فانقلبت حماس على السلطة الوطنية في قطاع غزّة المحرر نظرياً وانقادت الى ممارسات دموية وبطش وتصفيات، أعادتها إلى مربع جهادي اقصائي متزمت والى خصام مديد مع مكوّنات العمل الوطني الفلسطيني. بدوره، طمس حزب الله ايجابيات التحرير دفعة واحدة، وتنكَّر للضوابط التي زيّنت كفاحيته ودأبه المقاوم، فانزلق الى التشكيك والمشادة في مرحلة اولى تبعت حرب تموز مباشرة، ليقيم في دائرة الكيدية والتخوين، ويمارس الاستعلاء والتعطيل المنهجي على خلفية حيازة الأحقية وترسانة السلاح. وإذ لم ينحدر الوضع في لبنان الى درك غزّة، فإنه يقف على عتبة انشطار أهلي وطلاق للعمل الدستوري والمؤسسات. رسبت الحركات الاسلاموية في امتحان القبول بالغير والالتزام بالاتزان والسلم الأهلي. وبالإضافة الى نزعة فضاءها الأيديولوجي ومنظومتها، ارتمت جميعها أمام إغراء السلطة العارية وممارسة القمع المعنوي والجسدي. على غرار سابقات شمولية بيّنت البون بين المولود المحقق، استعجلت التاريخ وفرّطت بالكائن، الفرد ، غرقت هذه الجماعات في رسالية قاتِمة تعمّدت بالدم على محك الممارسة، وهي تعطي الدليل تلو الآخر على مخزونها الخلاصي المتشدد ورؤيتها العصبانية الآيلة الى تفرّد مهجوس وانزال المغاير في الدونية والخطيئة، ما يستوجب المصادرة والعقاب. لكن حاصلها، بخلاف المتطلع إلى ولادة فجر جديد قيصرياً ورومانسياً الى حد الابتكار، يرتدّ إلى نوستاليجيا تحفها الظلامية وتجنح نحو الاستبداد. بذلك تطيح بالحاضر كتلة مساوىء وشرور، وتخشى من الماضي مضيئه وتراثه الخلاّق، وتوقف الحياة على غابر مفقود، أبدي الصورة والمفعول، حاقد على ما بعده من مسار. ان هكذا تعريفاً جامداً جليدياً للمنكر يؤدي بالضرورة الى اغتيال الأمر بالمعروف. * كاتب لبناني