بعد التحولات السياسية الأخبرة في الأردن التي عزّزت التناغم شبه المفقود بين الحكومة والديوان والمخابرات وجدّدت النخب السياسية في البرلمان بطريقة"مقصودة"، يدخل الاردن اليوم مرحلة صعبة تتنافس فيها أعمال التحديث الاقتصادي مع مثيلاتها السياسية- بينما تجلس نخب تقليدية على كراسي المتفرجين. بدأ التغيير الممنهج مع الإنتخابات البلدية قبل أربعة أشهر عندما جنّدت الدولة كل امكانياتها العلنية والخفية لافشال ما تعتبره"استراتيجية"التيار الإسلامي للزحف صوب السلطة، على منوال حليفه الفلسطيني"حماس"المخترق إيرانياً. ف"حماس"اتجهت الى إقصاء القوى المضادة وفي مقدمتها فتح بعد نجاحها في الانتخابات البلدية والنيابية قبل عامين.پ وبدورها شهدت الانتخابات التشريعية قبل أسبوعين في الأردن تراجع التيار الاسلامي، حليف الدولة التقليدي لستة عقود، قبل ان تنقلب الأهواء وتتبدل الاجندات، إذ حصد ستة مقاعد فقط من 110 نزولا من 17 في المجلس الأخير. الإسلاميون اتهموا الحكومة بالتزوير لكّنها نفت ذلك، لكنْ بقي أن مجلس النواب الجديد"قليل الدسم"يهيمن عليه نواب تقليديون، عشائريون ومتقاعدون عسكريون مؤيدون للسياسات الرسمية. تغيب عنه عدة شخصيات نيابية مستقلة عرفت بمواقفها المعارضة وسط صفقات شراء أصوات غير مسبوقة وترحيل جداول ناخبين بين الدوائر. في المقابل، تدخله مجموعة رجال أعمال ومقاولين يبحثون عن نفوذ سياسي لدعم الملايين التي جنوها من فرص وفّرتها الحرب على العراق ومن فورة العقارات فضلا عن بعض"الليبراليين"- رواد العولمة الاقتصادية. لكن هذه التوليفة- على ما فيها من مظاهر ديموقراطية- لم تنتج جديدا، بحسب ساسة ومراقبين. القديم ظل على قدمه ليس في ميدان الأفكار والسياسات فحسب بل بالأشخاص الذين يقودون االبرلمان. بعد ذلك عين الملك عبد الله حكومة"أمنية-تكنوقراطية"همّها الأول اقتصادي اجتماعي تنموي بقيادة الباشا المهندس نادر الذهبي، الشقيق الاكبر للفريق محمد الذهبي 47 عاما الذي يرأس دائرة المخابرات العامّة- الأكثر دينامية ونفوذا بين أجهزة الدولة خلال العقد الماضي. بالتزامن رُفع الدكتور باسم عوض الله - السياسي الأكثر إشكالية وحركة واندفاعا في عهد عبد الله الثاني، وأحد مهندسي الإصلاحات الاقتصادية الجدلية من منصب مدير مكتب الملك الخاص إلى رئيس الديوان الملكي- ثالث أهم منصب في هرمية القيادة الأردنية. وهذا ما يوفّر له دوراً دستورياً وقدرة على التحرك العلني لتنسيق علاقات القصر مع سائر أذرع الدولة بعد أن طالته سهام النقد بسبب دوره النشط في آخر منصب نُحت له. من خلال ترقيته أراد الملك دفع أجندة الإصلاح قدما بصورة أوضح بعد سنوات من المماطلة والمراوحة، على ما يقول مقربون من القصر. وقد أعيد تشكيل مجلس الأعيان أو ما يعرف ب"صمام الأمان"الدستوري من أصحاب الخبرة السياسية والاقنصادية والقضائية، وغالبيتهم محافظون من المدرسة التقليدية- برئاسة رئيس وزراء أسبق هو زيد الرفاعي، الرئيس لثلاث دورات متتالية. واختير ضمن التشكيلة الجديدة المراقب العام السابق للإخوان المسلمين عبد المجيد ذنيبات، ما يعكس رغبة القيادة بفرز أصوات الاعتدال عن الأجنحة المتشددة. وأعيد انتخاب عبد الهادي المجالي القريب منه فكريا رئيسا لمجلس النواب للمرة الخامسة ب 81 صوتا بعد أن أفهم منافسه الديموقراطي الدكتور ممدوح العبّادي أن ينسحب من السباق. واحتل الأخير منصب نائب رئيس المجلس ب 82 صوتاً. يقول العين طاهر المصري، وهو رئيس وزراء أسبق 1991 وأحد رموز التيار الديموقراطي:"أصبح هناك تناغم حقيقي"بين حلقات صنع القرار الأساسية من جهة والبرلمان من جهة أخرى، مكونة من"شبكة او عقلية"منسجمة. وقد رأى، في مقابلة مع"الحياة"، أن"هذا التناغم والتناسق بين المفاصل الأربعة جاءت بطريقة مدروسة ومنظمة حتى تساعد الأردن على الخروج من عنق الزجاجة واجتياز المطبّات التي يمكن ان تمر بها المنطقة، خاصة في ضوء الملف الايراني وتبعات مؤتمر انابوليس للسلام في الشرق الاوسط". وهذا التوافق، في رأي ساسة ومراقبين، سيساعد على تسريع الإصلاحات الاقتصادية على حساب الاصلاحات السياسية الى حين تعزيز تقافة الديموقراطية على نطاق شعبي وتسوية القضية الفلسطينية في بلد نصف سكانه من اصول فلسطينية لم يحسم بعضهم بعد أمر انتمائه السياسي. كل ذلك بينما تقبل البلاد على استحقاقات خطيرة في مقدمتها تحرير أسعار النفط وجنون كلفة المعيشة وانفلات التضخم وتناسل العجز في الميزانيةپتحت وطأة الفقر والبطالة والفساد البيروقراطي والمحسوبية والجهوية. وسيكون لرفع الدعم في الموازنة المقبلة كلفة سياسية باهظة. لذا تعكف الحكومة على إيجاد آلية لربط الأجور بالتضخم لكل من يتقاضى راتبا من خزينة الدولة، وهم بحدود 550 ألف عامل ومتقاعد في الجهازين المدني والعسكري، تآكلت مداخيلهم بنسبة تجاوزت النصف، بحسب التقديرات الرسمية. فحوالى 85.4 في المئة من الموظفين تقل رواتبهم الشهرية عن 300 دينار 400 دولار اميركي فيما تستفيد الشريحة الأغنى من 80 في المئة من دعم المحروقات البالغ 300 مليون دينار 400 مليون دولار هذا العام. ويتحدث اقتصاديون عن ضرورة تصحيح الخلل الهيكلي وخلق شبكة امان اجتماعي لتحمي ذوي الدخل المحدود وتوسع مظلة التأمينات الصحية وتحسن نوعية التعليم وتضبط جودة الدواء والغذاء والماء. لذا سترصد الحكومة 301 مليون دينار العام المقبل لدعم الشبكة التي لم تتضح بعد تفاصيلها. وفي الخلفية تساؤلات مشروعة حول من سيملأ الفراغ السياسي الذي يخلفه تراجع نفوذ التيار الإسلامي في الحياة السياسية العامة وسط مخاوف من صعود صقور يعتمدون على دعم القواعد المحبطة. وهناك مخاطر من انقسام الحركة وتشظيها إلى خلايا عمل في السر مستغلة ظروف الفقر والبطالة والاحباط السياسي. وتوجه هذه الإفرازات سيكون اقرب، على الأرجح، الى خط القاعدة والجهاد التكفيري. ويدور جدل نخبوي حول المفاجأة التي أثارها تعيين شقيقين على رأس أهم أذرع الدولة في سابقة. وثمة تساؤل: كيف يتجاوز الشقيقان الروابط العائلية والاحترام والود، ويتصرفان كما تقتضي تقاليد الوظيفة العامة في غياب آلية رقابية قانونية ودستورية فاعلة؟ هذه المعادلة رسّخت القناعة لدى قوى سياسية بأن الملك، الذي دخل سنته التاسعة على العرش، متحرر من تقاليد الماضي ويقيس الأمور خارج منظار روابط الدم. والمعايير التي يعتمدها تتضمن الإخلاص في العمل، الصدقية، المهنية، النزاهة المسلكية والجدارة التي حكمت وتحكم أداءهما وإنجازاتهما في المواقع الرسمية التي خدما فيها. أما الشقيقان نادر ومحمد الذهبي فيفترض أن يرتكز تعاملهما مع بعضهما البعض على أسس مستقلة وكمسؤولين عن جهازيهما. دستورياً هي حكومة جلالته. لكنها أيضا مسؤولة مسؤولية مباشرة أمام نواب الشعب. فمن الناحية النظرية يرتبط رئيس المخابرات برئيس الوزراء. لكن الأمور تختلف عند التطبيق. والأصل في العلاقة التقليدية بين المؤسستين هو التناغم في الأداء. لكنه لم يكن على هذا النحو دائما خلال مسيرة الأردن الحديث لأسباب متعددة منها اتساع دور الجهاز الأمني الذي يرصد المشهد بشمولية، يتابع أداء الحكومات وعثراتها ويستبق الأحداث بسيناريوهات وقائية. مع مرور الوقت ونظرا للتطورات الأمنية الداخلية وتشابكها مع الملفات الإقليمية في عالم عربي على شفا الإنهيار بات الجهاز الأمني الطرف الحاسم في تقرير مصير الأحداث وتقييم أداء الحكومات وتحديد الاولويات. ولهذه الأسباب مجتمعة تتشكل في العادة علاقات معقدة وحسّاسة بين رئيس الوزراء ومدير المخابرات. وأحيانا تلامس حدود التجاذب والتنافر. لكن رشحت معطيات بأن مدير المخابرات أمر كوادر الجهاز- في قرار غير مسبوق- بعدم الاتصال أو التأثير على أي صحافي دفاعا عن ساكن"الدوار الرابع"وحكومته. وأغلب اصحاب القرار الاردني يراهنون على ان ولاء مؤسسات الدولة جميعها لرأس الدولة، بمقتضى الدستور. فمدير المخابرات العامة- الذي يتواصل على مدار الساعة مع الملك- يكن ولاءً مطلقا للعرشپولمصالح الدولة. "الباشا"الذهبي، كما يقول معارفه، من أكثر مدراء المخابرات إيمانا بهذا الولاء"قولا وفعلاً". أما الذهبي الرئيس - الذي يجمع أربعة عقود من الخبرة العملية في سلاح الجو و إدارة الملكية الاردنية، ثم كوزير نقل وأخيرا رئيس مفوضية منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة ? فيعرف أنه سيحصل على كل أشكال الدعم التي حصل عليها رؤساء الوزارات السابقون بصرف النظر عن الاعتبارات الشخصية. ويعرف الرئيس أيضا أن تلك الإعتبارات لن تحميه إذا قرّر صاحب القرار تغييره لأنه لم يفلح في تحقيق الحد الأدنى من المهام الموكولة إليه، وعلى رأسها أولويات الاقتصاد، ما سينعكس على أجواء المناخ السياسي العام المشدود. في مراحل سابقة كان لفقدان"الهارموني"بين رئيس الوزراء ومدير المخابرات أثر سلبي على الاداء. في الوضع الحالي هناك أكثر من الهارموني. اليوم ثمّة رابطة دم من الدرجة الاولى وإرادة ملكية تتعامل معهما بمقياس الانجاز وجهد كبير - قيل إن الشقيقين يبذلانه- للتعامل مع بعضهما البعض طبقا للأعراف والتعليمات التي يقتضيها منصباهما. وثقة البرلمان المرتفعة بحكومة الذهبي تعطيها دعما لاتخاذ القرارات الاقتصادية الاصعب. لكن على المدى المتوسط، الثقة الزائدة والتناغم قد يشكلان عبئا على الحكومة لا تستطيع تحمله سرعان ما ينقلب الى عكسه عند أول خلاف مع النواب، بحسب ما يرى المحلل السياسي فهد الخيطان. إلى ذلك يضر"غياب الرأي المعارض بقدرتها على امتحان مدى صحة سياساتها"، في غياب قاعدة دائمة للدعم كما هو حال البرلمانات في الدول الديموقراطية. هناك ايضا خوف من تصادم بين القوى الليبرالية- التي تريد إطلاق العنان للانفتاح الاقتصادي والخصخصة رغم الانعكاسات الخطيرة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة الآخذة بالتآكل- مع البيروقراطية التقليدية ذات القاعدة العشائرية التي تعودت على مبدأ الدولة الرعوية. وقد تنتهي لعبة الشد بين الطرفين الى تعميق مشاعر اصطفافية ضيقة أثناء دفاع الجبهتين عن مفهوم الهوية الوطنية التي تثير حساسيات داخلية عالية. الدكتور محمد المصري، وهو باحث اكاديمي في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية، يرى أن ثمّة"خوفا من ان يتحول أي اختلاف سياسي او اقتصادي بين المجموعتين الى العودة الى قصة المواطنة ومتفرعاتها". لذا يبقى التكامل بين مكونات المجتمع- ليبراليين وإسلاميين واغنياء وفقراء ووسطيين ويمينيين- ضرورة لتحقيق الأمن المجتمعي بدلا من تعميق الشعور بالتهميش والفوقية. وهناك خوف من ان يأتي الانسجام السياسي بين الفريق الحكومي ومفاصل الدولة الاخرى على حساب الدور الرقابي الذي يجب ان يمارسة البرلمان على الحكومة واغلب نوابه جدد ليس لديهم خبرة سياسية. والمساحات السياسية اصبحت ضيقة، بحسب ساسة ونشطاء. والتوافق حل مكان لعبة الاكثرية والاقلية"وهيمن شعار كلنا أغلبية على خطاب الجميع"بحسب خيطان. بالمقابل تفترض الرواية الرسمية ان تغيب الخلافات التعطيلية التي اجهضت التحديث خلال عهد الملك عبد الله، بسبب التوافق السياسي الجديد والكيمياء و"التشبيك"غير المسبوق للمصالح والغايات. ويدعو ساسة ونشطاء إلى مراجعة بين الدولة والاسلاميينپللاتفاق على رؤية وطنية لمستقبل الديموقراطية والمجتمع المدني. والمطلوب ان يراجع الاسلاميون مسيرتهم فكريا وسياسيا لاعلان مواقف واضحة من الدولة الدينية ومن التشريع ومرجعية الدولة والدستور والإرهاب. يقول العين هشام التل، وهو نائب رئيس وزراء سابق وقاض مخضرم، ان التناغم"بين أعضاء السلطات التشريعية والتنفيذية ستؤدي الى نتائج ايجابية نظرا لأننا دولة مؤسسات تستند الى الدستور ومشروعية اعمالنا برضا الشعب". وإذا"لم تنجح هذه التجربة بإيجابياتها فإن المسؤولية والمحاسبة تقع على الفرقاء أجمع". * صحافية أردنية