بعد أسبوع من المداولات السرية، خرج رئيس الوزراء الأردني الجديد سمير الرفاعي يوم الاثنين بفريق غير متجانس، وسط شكوك بقدرته على شق طريق ثالثة لتعزيز دولة المواطنة والمساواة في الحقوق المدنية بعيداً من صراع محتدم منذ خمس سنوات حول شكل وهوية أردن المستقبل بين غالبية محافظة مدعومة بثقل الجهاز البيروقراطي، وأقلية ترفع لواء الليبرالية الاقتصادية مقربة من القصر وبعض النخب. ما يعمق الجدل، مدى قدرة الفريق الجديد على تنفيذ كتاب تكليف ملكي طموح لتحديث مبرمج وفق منظومة سياسية، واقتصادية، وإدارية، واجتماعية تسير بالتكامل والتوازي ضمن خطط وزارية يفترض البدء في تنفيذها خلال شهرين، بعد سنوات من تردد ألقى بظلاله على الخطاب الرسمي. على الحكومة الجديدة إصدار ثلاثة مواثيق شرف قانونية، لتنظيم عمل الوزراء وكبار المسؤولين، وضبط إيقاع العلاقة بين النواب والحكومات بعيداً من تبادل المنفعة على حساب الناس، وتنظيم قطاع الإعلام بما يوقف ممارسات سميت ب «لا مهنية ولا أخلاقية». رئيس الوزراء، المحافظ سياسياً والليبرالي اقتصادياً، أبقى على 13 وزيراً من حكومة سلفه نادر الذهبي، الذي أقيل الأربعاء بصورة مفاجئة. المفارقة ان هذا الاختيار جاء بعد أيام على نشر استطلاع رأي عن مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للجامعة الأردنية يفيد بأن تراجع شعبية الفريق الوزاري يفوق التراجع في شعبية الرئيس. فملف الاقتصاد أنيط بفريق متشدد في التعاطي مع المال العام، والملف السياسي/ التشريعي بمحافظين غير متحمسين لإدخال تغييرات جذرية على قانون الانتخاب الحالي، على رغم أن وزير شؤون التنمية السياسية موسى المعايطه، اليساري العتيق، يدفع باتجاه تعديل قانون الانتخاب بالعمق ويريد أن يكون العام المقبل عام الإصلاح السياسي. أدخل الرفاعي 15 وزيراً جديداً، بينهم وجوه مجربة، وخليط من التكنوقراط لتصبح أقرب الى إعادة تشكيل حكومة برأس جديد. لذا، يخشى ساسة أن يكمن التحدي الأكبر في بناء كيمياء شخصية وسياسية بين أفراد الحكومة، تعين على حمل ثقل التغيير المطلوب وتنفيذ مهمات تقترب في مضامينها من ثورة بيضاء. تواجه الحكومة التاسعة في عهد الملك عبدالله الثاني، الذي بدأ عام 1999، تحديات مصيرية أهمها إعادة الاعتبار الى هيبة الدولة المتراجعة على وقع انخفاض مؤشري الحريات والشفافية، وتضارب المصالح وشبهات الفساد، فضلاً عن استمرار الشكاوى من خلل في توزيع ثروة البلاد على أسس عادلة. عليها أيضاً مهمة إنقاذ الاقتصاد الذي تراجعت معظم مؤشراته الفصلية تحت وطأة الأزمة المالية العالمية، التي حاول غالبية المسؤولين التقليل من تداعياتها محلياً بعد سنوات من التوسع في الإنفاق على مشاريع البنى التحتية لاستقطاب الاستثمارات. تضاف إلى ذلك قرارات رفع أجور موظفي الحكومة ورجال الأمن والجيش (أكثر من 380 ألف شخص) في دولة شحيحة الموارد تعتمد موازنتها على المساعدات الخارجية والضرائب. بالتزامن، عليها تعبيد الطريق لإصلاح سياسي مبرمج طال انتظاره بما في ذلك قانون الانتخاب القائم على نظام الصوت الواحد منذ عام 1993 بهدف كسر شوكة الإسلاميين، والتحضير لإجراء انتخابات لا مركزية ونيابية قبل خريف 2010، هذا الملف الأكثر حساسية في بلد نصف سكانه من أصول فلسطينية. فأي تغيير في تقسيم الدوائر أو نظام التصويت قد يوسع التمثيل الديموغرافي على حساب تعزيز المكاسب الجغرافية التي يسعى إليها غالبية الشرق أردنيين. الأمر ذاته ينسحب على القطاع العام المدني والأمني الذي يشغر شرق أردنيون غالبية وظائفه، بينما يدير الأردنيون الفلسطينيون القطاع الخاص ضمن معادلة حسّاسة ظلت قادرة على التأقلم مع الواقع لعقود. وبين التقليديين والليبراليين، يقف تيار ثالث مشرذم من «الاصلاحيين الوطنيين» يدفع صوب تحديث سياسي تدريجي يفضي إلى تشكيل تيارات وكتل وأحزاب ذات برامج وطنية واضحة، تتبعها تغيرات في آلية تشكيل الحكومات بالاعتماد على هذه القوى الفاعلة برلمانيا، على أن تحاسب السلطة التنفيذية أمام المعارضة بحماية سلطة نزيهة وإعلام محصن. خلال السنوات العشر الماضية خاض تجربة الإدارة ستة رؤساء وزارات بتسعة تعديلات حكومية، وأربعة مديري مخابرات، وسبع رؤساء ديوان ملكي ووزيرا بلاط، فضلاً عن جيش من الوزراء والأمناء العامين ومديري الدوائر والمستشارين. غالبية تلك الوجوه اعتلت المنصب العام وسط تهليل وتوقعات عالية قبل أن يرحلوا فجأة، من دون تبريرات مقنعة أو محاسبة عن أخطاء المقصر منهم. وبدلاً من ذلك كيلت الاتهامات، وعلى أعلى المستويات سراً وعلناً، حول سوء الإدارة، والتراخي وتجاوزات طاولت السلطات الدستورية، عبر سياسات الاسترضاء والخوف من الحسابات الشعبية. في الأثناء دفعت مكونات الدولة كافة ثمن إخفاقاتهم الكثيرة، في غياب أي مقياس لحجم انجازاتهم إن وجدت، بحسب ساسة وحزبيين. ولم يحاسب أي منهم لتاريخه. خطابات التكليف الملكية خلال العقد الماضي، وبيانات الوزارات المشكلة تضمنت قواسم مشتركة بما فيها الترويج لمنظومة إصلاحات شاملة يريدها الملك الشاب لضمان أمن مملكته واستقرارها. وتم كسر هذه الحلقة المفرغة بخطاب التكليف الأخير، الذي ضاعف سقف التوقعات بقرب بزوغ فجر إصلاحي جديد في حال سارت الامور بحسب خريطة الطريق الملكية. الخطاب استعمل لغة مختلفة صريحة قد تساعد على شحذ الهمم، بسبب جملة ما تضمنه من تشخيص دقيق للحال الحرجة التي وصلت إليها البلاد في مختلف المناحي. يوم الاثنين وعد الرفاعي رأس الدولة بأن يقدم وزراؤه خطط عمل وبرامج تنفيذية تحديثية متكاملة ضمن جداول زمنية محددة خلال أربعين يوماً من أداء القسم الدستوري. وزاد أنه سيتخذ الخطوات الكفيلة بضمان انتخابات نيابية نزيهة، في الربع الأخير من 2010، وتعهد أيضاً بألا تتكرر «أخطاء الماضي» التي شابت عمليات الاقتراع، ومعالجة التحديات الاقتصادية والتعليمية وغيرها. لكن التسريبات من مراكز صناعة القرار تؤشر إلى تنامي إجماع على إبقاء الصوت الواحد من دون تغيير، مع إحداث تعديلات «تجميلية» بما يضمن نزاهة أكبر في سير عملية الاقتراع. صدقية الدولة مرة أخرى ملامح المرحلة المقبلة تسير، بحسب سياسيين، باتجاه مواصلة شراء الوقت والتكيّف مع تسويات داخلية وسيناريوات إقليمية، عبر تبديل الوجوه من دون تحديث السياسات وتطوير أدوات ممارسة السلطة لرسم شكل الأردن الجديد، وذلك في غياب توافق مجتمعي وانغلاق أفق قيام دولة فلسطينية مستقلة غرب النهر، يراهن عليها الأردن لضمان أمنه واستقراره. في المقابل، وفر الملك عبدالله الثاني للرفاعي وسائل إسناد سياسية وأمنية نادرة لتعزيز فرص نجاحه. مستشارو الملك طلبوا من الصحافيين وكتّاب الزوايا هذه المرة أن يتحول كتاب التكليف إلى أساس التقويم العام، بدلاً من التخمينات والآراء المتصلة بشخصية الرفاعي الجدلية. طلبوا منهم أيضاً التريث قبل إطلاق أحكام تستهدف «إنجازات الوطن». وبعد حلف اليمين، توالت الاتصالات معهم ومع ناشري المواقع الإخبارية الالكترونية لحضهم على عدم خلق انطباعات سلبية سيصعب تغييرها لاحقاً. بدوره، بات كتاب التكليف بيان عمل حكومة الرفاعي، المعفى من خوض معركة انتزاع ثقة مجلس النواب، ذلك أن التشكيل جاء بعد ثلاثة أسابيع على حل المجلس من دون توضيح الأسباب. وبخلاف أسلافه، أعطى الرفاعي مدة زمنية كافية لاختيار طاقم وزارته، عقب إقالة الذهبي، الذي طلب منه قبل أيام تجهيز قانون انتخابات حتى يكون الاقتراع المقبل «مثالاً في الشفافية والعدالة والنزاهة». زاد من فقدان البوصلة الشعبية، تحليل نشرته قبل أسبوعين وكالة الصحافة الفرنسية في عمان، حول سيناريوات المرحلة المقبلة، بما فيها تأجيل الانتخابات بعدما فهم سابقاً أنها ستكون مبكرة، أي ربما خلال المدة الدستورية (أربعة شهور)، من تاريخ الحل مع أنها قابلة للتمديد لعام. وتوقعت الوكالة أن يكون ناصر اللوزي، رئيس الديوان الحالي، الشخصية الأكثر ترشيحاً لتولي رئاسة الحكومة المقبلة بعد أسابيع. وقبل صدور الأمر الملكي بتعيين الرفاعي بدقائق، نشرت الوكالة ذاتها و «رويترز» في عمان ومراسل قناة «الجزيرة»؛ وجميعهم إعلاميون مخضرمون، خبراً بتكليف اللوزي تشكيل الحكومة الجديدة، ليسارع إعلام الديوان الملكي إلى نشر خبر نقل فيه قنبلة تعيين الرفاعي. ويتوقع سياسيون ومسؤولون إعلان عدد من التغييرات في المناصب العليا الحساسة لاستكمال المراجعة التي وعد بها الملك عشية بدء عشرية عهده الثانية قبل ستة شهور. وأول التغييرات أعلنها مجلس الوزراء في أول جلسة له الثلثاء تمثلت بإقالة اللواء توفيق الحلالمة مدير عام جهاز الدرك، الذي أثار أخيراً انتقادات واسعة بسبب أسلوب التعامل الخشن مع تجمعات سكانية ومتظاهرين، أودت بحياة شخص على الأقل في مواجهات متفرقة. ما قد يعين الرفاعي (43 عاماً)، معرفته التامة بنمط تفكير الملك وأسلوب عمله، منذ لازمه في أعلى المناصب، الى حين خروجه إلى عالم المال والأعمال عام 2005 على وقع إعادة ترتيب الديوان الملكي آنذاك. على المستوى الشخصي، يتشارك الرئيس مع الملك في الكثير من الهوايات بما فيها ركوب الدراجات النارية. للرفاعي نائبان. الأول عضو مجلس الأعيان رجائي المعشر، السياسي المخضرم والخبير في شؤون المال والأعمال. فهو صاحب البنك الأهلي وناشر صحيفة «العرب اليوم» المستقلة، والصوت المعارض لنهج الليبرالية من دون ضوابط. الثاني نايف القاضي، السياسي المحافظ الذي احتفظ ايضاً بحقيبة الداخلية. هذان الرجلان (66 عاماً) من جيل زيد الرفاعي الأب (73 عاماً) ويتمتعان بعلاقة صداقة ومهنية وثيقة معه. الأب استقال يوم السبت من رئاسة مجلس الأعيان (مجلس الملك) تحاشياً لتداخل السلطات، ولإبعاد سهام النقد التي طاولت صلات القرابة بين الكثير من شخصيات المرحلة الماضية، المتهمين بتوفير مظلات تغطية لبعضهم بعضاً في أعلى المناصب. كذلك احتفظ ناصر جودة، ابن عمة الرفاعي، بحقيبة الخارجية. يرى محللون ان د. المعشر، الذي دخل الحكومة للمرة الأولى عام 1974 وزيراً للاقتصاد الوطني في أول حكومة شكلها زيد الرفاعي وظل ملازماً له في تشكيلات لاحقة، سيوفر له ثقلاً إعلامياً واقتصادياً وسياسياً وعشائرياً. الرفاعي سياسي محافظ على شاكلة والده وغالبية أعضاء أسرته العريقة، التي دخلت موسوعة السلالات السياسية في الأردن. فجدّه سمير من أوائل رؤساء الحكومات الذين خدموا مع الملك عبدالله المؤسس عقب استقلال المملكة عام 1946. رئيس الحكومة الجديدة يتمتع بالدعم في أوساط النخب الاقتصادية المؤثرة، مع أن غالبية رموزها غير معنيين ببرامج تعزيز الحريات السياسية والديموقراطية التي قد تعزز الشفافية وتوسع مساحة المنافسة. لكن على رغم التحديات المتداخلة، أمام الرفاعي الحفيد فرصة تاريخية لإعادة إنتاج نفسه كأول رئيس وزراء في عهد عبدالله الثاني، قد يترك بصمات في ما يتعلق بتعزيز الولاية العامة للدولة، على خطى والده، الذي جلس على رأس السلطة التنفيذية لثماني سنوات على فترات متقطعة، في محطات عصيبة من تاريخ الأردن الحديث، بدءاً من عام 1973 وانتهاء بخروجه عقب أحداث شغب مدبّرة في نيسان (إبريل) 1989 في مناطق عشائرية في الجنوب. وقتذاك، أمر الملك الحسين بالعودة إلى مسار الديموقراطية المتعطلة منذ عام 1967، بعدما كشف عمق الأزمة الاقتصادية توق الناس الى توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع القرار. في انتخابات 1989 التي أُجريت على أساس القوائم في دوائر واسعة، فاز الإسلاميون بنصيب الأسد. لكن المسار لم يكتمل. إذ عدل القانون قبل توقيع معاهدة السلام الأردنية - الإسرائيلية عام 1994 لكبح جماح الإسلاميين المعارضين للسلام. ولا يزال المنسوب يتأرجح صعوداً وهبوطاً في غياب منهجية مؤسسية يفترض ان تتبدل. الرفاعي الأب استبدل بنائبه طاهر المصري، رئيس وزراء أسبق (1991)، المولود في مدينة نابلس في الضفة الغربية، ويحظى بصدقية عالية في الأوساط الحزبية والنخبوية لتوجهاته الديموقراطية الواضحة. يقول المصري في مقابلة ل «الحياة»: «كتاب التكليف مهم، وما ورد في الرد مهم... يبدو أن الملك نفسه والناس ستحاسب الحكومة حساباً شديداً بحسب الجدول الزمني الموضوع». لكن الإسلاميين، القوى الأكثر تنظيماً على الساحة، غير متفائلين. فيقول عضو المكتب التنفيذي في الإخوان المسلمين رحيل غرايبة: «نعترض على آلية تشكيل الحكومة. فهي لا تخضع لأي أسس سياسية أو برلمانية أو تيارات حزبية، ولا لأي حراك شعبي». ويضيف غرايبة: «الآلية التي تم تشكيل حكومة الرفاعي على أساسها هي المزاجية والعلاقات الشخصية والمحسوبية، وفي النتيجة لم تخرج هذه الحكومة عن سياق التحالف بين التجار وأصحاب الشركات والمقاولين». ويرى أيضاً أن «منهجية اختيار الرئيس والوزراء لا يمكن أن تكون صحيحة إلا إذا كان الشعب هو صاحب السلطة. وذلك لا يكون إلا إذا كان الرئيس ووزراؤه ممثلين تمثيلاً حقيقياً عبر قانون انتخاب صحيح». لذلك، يستدرك غرايبة: «نحن أمام حكومة تأتي وترحل من دون أن نعرف لماذا أتت ولماذا رحلت. ذلك الحال ينطبق على مجلس النواب الذي حلّ من دون أن نعرف لماذا، في مخالفة دستورية واضحة». أما حمزة منصور، القيادي الإسلامي الذي كان يحتل أحد مقاعد الحركة السبعة في مجلس النواب المنحل، فيقول: «الحكومة عادية، ومعظم الوزراء من سابقتها. والتعديلات والإضافات لم تمثل أي إضافة نوعية؛ وبالتالي، فإن الحديث عن التحديات التي تواجه الأردن، والحديث الدائم عن الإصلاح سيذهبان أدراج الرياح». على أي حال ستشكل المئة يوم الأولى من عمر الحكومة محكاً لقياس مدى قدرتها على ترجمة ما جاء في كتاب التكليف إلى واقع ملموس، وبالتالي ستحدّد ما إذا كان أعضاؤها سيقفزون لإدارة المرحلة التي ستلي انتخاب مجلس نواب جديد. سيف الوقت حاد، وهو لا يرحم.