قبل بدء الهجوم الأميركي على أفغانستان في شهر تشرين الأول أكتوبر 2001، وعبر برنامجه الإخباري Night Line، جمع المذيع الأميركي الشهير تيد كابل بين جنرالين عسكريين متقاعدين، أحدهما روسي والآخر أميركي، ليرسم صورة أوضح عن الوضع في افغانستان التي كانت الولاياتالمتحدة تطرق أبوابها. كان الجنرال الروسي غير متفائل على الإطلاق بدخول القوات الأميركية إلى أفغانستان، وحذّر مراراً أثناء اللقاء من أن القوات الأميركية ستلقى مصاعب ومتاعب مع المتمردين الذين عجز عن دحرهم أعتى نظام عسكري على وجه الأرض، خلال ما يزيد على عقد من الزمان. ثم ختم الجنرال الروسي حديثه بأن أسدى"نصيحة"الى"أصدقائه"الأميركيين - كما سمّاهم - مبنية على تجربة القوة العسكرية. اذ حذّر أصدقاءه الجدد من أن الأفغان أصحاب صبر طويل في الحروب، ويستطيعون الاختفاء في الجبال والكهوف وأن التجربة السوفياتية لم تفلح مع هؤلاء الذين بدوا وكأنهم يعشقون الموت. إلا ان الجنرال الأميركي الذي رسم ابتسامة ساخرة أكد أنه، وعلى رغم احترامه الشديد للقدرة العسكرية السوفياتية، إلا إنه لا تليق مقارنتها بنظيرتها الأميركية. ثم استطرد الجنرال الأميركي، وقال:"نحن نمتلك أفضل سلاح جوي وبري وبحري في العالم، وطائرات التجسس الأميركية عندها من القدرة ما يُمَكِّنها من معرفة نوع أي طائرة تمر في الجو، من خلال تصوير ظِلِّها! كما أن لديها القدرة على قراءة حروف أي صحيفة على سطح الأرض، من خلال جهاز تجسس في الفضاء"! اليوم، وبعد مرور ست سنوات عجاف على الحرب الأميركية على أفغانستان، لا تزال الولاياتالمتحدة ومعها قوات الحلف الأطلسي تواجه المصاعب التي تنبأ بها الخبير الروسي، من دون أن تحقق نصراً يذكر، ولا تبدو الولاياتالمتحدة قادرة على قراءة حروف وأفكار"طالبان"التي باتت شعبيتها تزداد داخل الأراضي الأفغانية يوماً بعد يوم، ومعها تهبط شعبية قوات"الناتو"التي لم تحقق للشعب الأفغاني أدنى توقعاته المعيشية. ذلك أن حركة"طالبان"اليوم، وبحسب التقارير الإخبارية، باتت تسيطر على مناطق واسعة في الجنوب الأفغاني، تشمل ولايات هلمند وقندهار وأورزغان، إضافةً إلى سيطرتها على عدد من المدن الكبرى، في حين تنحصر سيطرة قوات"الناتو"وقوات الحكومة الأفغانية في مناطق صغيرة متفرقة في هذه الولايات. ففي تقرير أعده مركز بحوث"سنلس كاونسيل"قبل أسبوعين، ونشرت"الحياة"مقتطفات منه، حذر المركز - الذي يُعنى بالأمن والتنمية من أن حركة"طالبان"باتت تسيطر بشكل كامل على أكثر من نصف الأراضي الأفغانية، وتسيطر سيطرةً جزئية على أكثر من ثلثي أفغانستان، وأنها ستطرق"أبواب كابول"مع بداية عام 2008. إلا ان المثير في ذلك التقرير الذي حمل عنوان"أفغانستان على شفير الهاوية"، هو التوصية التي أشارت إلى ضرورة مضاعفة عدد قوات"الناتو"في أفغانستان لدحر"طالبان". ففي الوقت الذي كان يُتوقع فيه لأصحاب العقل والرأي أن يبدأوا بتغيير النهج العسكري الذي لم يفلح خلال ست سنوات من الحرب الضروس التي لم تبق ولم تذر من أرض أفغانستان، وفي حين كان من المفترض أن يكون تركيز الولاياتالمتحدة والقوات الأوروبية منذ البداية، على تعمير أفغانستان بدلاً من تدميرها، كما فعلت الولاياتالمتحدة مع اليابان ومع أوروبا في خطة"مارشال"المعروفة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا إن السياسة الأميركية في أفغانستان ظلت تتخبط من فشل إلى آخر، بسبب إصرارها على الحل العسكري وحده. هذا التخبط هو ما أكده التقرير السالف الذكر، الذي أشار إلى أن"الأمور تتجه إلى الأسوأ"في أفغانستان، على رغم"كل الأموال التي تُضخ والالتزام الذي يظهره المجتمع الدولي". ولكن المخيف بحسب قول بول بيرتون الذي قرأ التقرير هو قوله إن"هزيمتنا في أفغانستان ستكون كارثية للغرب ولمستقبل الناتو". من أجل ذلك تأتي توصية التقرير بزيادة عدد قوات"الناتو"إلى الضعف، ولعله فات الخبراء العسكريين من حلف"الناتو"ما فات صاحبهم الخبير الأميركي من قبل، من أن قوة الحلف العسكرية ليست كافية وحدها لإرغام المقاومة الأفغانية على الاستسلام بقوة السلاح، وإن ضوعف عددها أضعافاً وليس ضعفاً واحداً. ذلك أن إدارة بوش التي لم تأل جهداً في استخدام جميع الأسلحة الممكن استخدامها ضد أفغانستان، بما في ذلك الأسلحة المحظورة دولياً كالقنابل العنقودية والانشطارية والقنابل التي تزن واحدتها سبعة أطنان والقنابل الخارقة للكهوف واليورانيوم المنضب إضافةً إلى القصف الذي طاول المساجد والمستشفيات والمناطق المدنية وبنية الكهرباء من دون فائدة تذكر، ربما كان عليها أن تعود إلى"نصيحة"الخبير العسكري الروسي. وإدارة بوش التي تتحسر على إنفاقها ما يزيد على تريليون دولار في حربيها في العراقوأفغانستان، ربما آن لها اليوم أن تتعلم أنها لو أنفقت عُشر تلك المبالغ على تحسين الأوضاع الاقتصادية في البلدين، لربما وفرت على نفسها عناء القتال! غني عن القول إن النهج السياسي الذي بدأته إدارة بوش في أفغانستان أخيراً غير مجد أيضاً. فدعوة الرئيس الأفغاني حامد كارزاي - المدعوم أميركياً - الى بدء حوار مع عناصر"طالبان"لن تلقى أذناً من الحركة التي سبق أن أعلنت مراراً رفضها القاطع لتلك الدعوات، لأن الولاياتالمتحدة فقدت كل صدقيتها في التعامل مع الشارع الأفغاني اليوم. كما أن التوصية الأخرى التي دعا إليها التقرير باستبدال قوات"الناتو"بأخرى إسلامية لن تجدي نفعاً، لأن نظرة"طالبان"لهذه القوات الإسلامية إذا ما توافرت لن تختلف عن نظرتها لأختها الغربية التي تجيء تحت الغطاء الأميركي. وإذا كان في أمثلة الشعوب ما يكفي، فإنه ربما كان على صانعي القرار في الإدارة الأميركية أن يعودوا إلى كلام الخبير الروسي ويتذكروا قول جبران خليل جبران الذي اشتهرت أمثاله في الولاياتالمتحدة كما في كل مكان"تعلم من أخطاء الغير، فإنك لا تستطيع أن تعيش طويلاً لتجعلها كلها أخطاءك". * حقوقي دولي.