هناك مؤشرات ملموسة تعين المراقب على تشكيل تصور دقيق لمسيرة التطورات السياسية في أي بلد. وفي المشهد السياسي في الكويت لا تستطيع تجاهل حقيقة مفزعة هي أن الحكومة الحالية أعيد تشكيل حقائبها الوزارية أربع مرات في 16 شهراً، وهي مدة قصيرة جداً في عمر الحكومات التي تنتظرها عادة برامج تطوير تتطلب في بعض الأحيان عقوداً من الزمن. غير أن الحكومة في الأنظمة الديموقراطية لا تتمتع بإطلاق يدها لتنفيذ سياساتها الخاصة كيفما تشاء، فثمة برلمان منتخب يمارس دوره الرقابي لتقويم مسار الأداء الحكومي ومحاسبته، ويتفاوت هذا التقويم من بلد الى آخر بحسب الجرعة الديموقراطية التي يمنحها الدستور، فهي تصل أحياناً الى درجة طرح الثقة بالحكومة بأكملها كما هي الحال في الديموقراطيات الغربية، وقد يقصر مفعولها فلا تتمكن إلا من إطاحة وزير أو زيرين. وفي الكويت تتشكل قناعة لدى المراقبين أن طرح الثقة بالحكومة الحالية يتم وفق نظام التقسيط غير المريح! في ظل الاستجوابات المتلاحقة الذي يسمح بها نظام الاستجواب البرلماني الذي نجح في قطف رؤوس لم تينع ولم يحن قطافها! ويبدو التشكيل الحكومي الأخير - الذي أجري الأسبوع الماضي وشمل تدويراً لمعظم الحقائب الوزارية وضم وجوهاً جديدة وقديمة لهذا التشكيل - أقصر عمراً من اخوته السابقين، إذ أثار التعديل حفيظة معظم النواب، لا سيما مع إبقاء الوزير بدر الحميضي في هذا التشكيل وإن تغيرت حقيبته من المالية الى النفط، وكأن الحال يلخصها المثل الكويتي المعروف لا طبنا ولا غدا الشر، فالتأزيم يخيم على العلاقة بين الحكومة والبرلمان ويؤذن بأن البلد سيواجه شتاء سياسياً ساخناً تظل فيه كل الخيارات العلاجية مفتوحة بما فيها الحل الدستوري للبرلمان. في اعتقادي أن الخطأ الأكبر الذي ارتكبته الحكومة يكمن في انسحابها السريع من أي مواجهة استجوابية برلمانية، فهي تستبق الأحداث بإعادة تشكيلها من جديد لتتفادى صعود بعض أعضائها الى المنصة، وهو ما قد يعرض الوزير في ما بعد للتصويت على طرح الثقة به، مما يسجل في نظر المتابعين نصراً جليلاً للمستجوبين، إذ لو لم تكن مادة استجوابهم دسمة ومحكمة لما هربت الحكومة من المواجهة. وبذلك فتحت الحكومة شهية النواب لمزيد من الاستجوابات التي ستمنحهم انتصارات غير مكلفة، كما حصل في التشكيل الأخير، وستصدر وقائع هذا النصر البرنامج الدعائي للنائب/ المرشح في الانتخابات المقبلة وهو أمر لا يغيب عن بال النواب الحاليين للحظة. هذا السلوك الحكومي الانسحابي يكشف عن عدم دراية الحكومة الحالية بأصول اللعبة السياسية، فالحكومات السالفة كانت تخوض غالباً معركة الاستجواب وتخرج منها سليمة معافاة إلا في حالات قليلة نادرة، وكان سلاحها الفاعل في المواجهة: تلك الصفقات التي تعقد مع الكتل البرلمانية وراء الكواليس في مقابل تحييد تلك الكتل لضمان أكبر عدد من المؤيدين، بحيث لا يتمكن المستجوبون من تقديم طلب طرح الثقة وإن فعلوا فلن ينجحوا في الحصول على الأصوات اللازمة لطرح الثقة بالوزير. في عالم البورصة والأسهم يقال إن السهم الضعيف المهزوز يفتقر الى صانع سوق يقف وراءه لدعمه والحفاظ على قيمته المالية، والحكومة الحالية تفتقر الى صانع الصفقات الذي يستطيع أن يواجه لعبة الاستجواب بحرفنة ودهاء، وهذا ما يفسر صمود التشكيلات الحكومية القديمة لأعوام في وجه برلمان كان أشد فتكاً وأشرس أنياباً من البرلمان الحالي الذي كان يفترض فيه أن يكون مسالماً مهادناً! أما الموقف الشعبي من ساسة التأزيم التي تصطبغ بها العلاقة بين الحكومة والبرلمان فلا يحتاج الى استطلاعات رأي ولا الى استبيانات ميدانية، فالجميع يتحسر على تفويت فرصة ذهبية للنهوض بالدولة والمجتمع في ظل وفر اقتصادي لا نظير له من قبل مع ارتفاع سعر برميل النفط الكويتي لسعر قياسي، كما أن الاستياء ليس بقاصر على الأداء الحكومي الضعيف بل يتعداه الى الأداء البرلماني الذي بات يغلّب سياسة الصراخ ولغة التهديد والوعيد، ولا يمنح الحكومة مهلة زمنية كافية لتتمكن من التقاط أنفاسها، بل ربما وصل الأمر به الى حد وضع العصي في الدواليب والمطالبة برأس الناطور عوضاً عن العنب. * كاتب وأكاديمي - جامعة الكويت.