للناقد الفرنسي تزفيطان طودوروف، في دار توبقال للنشر، كتابان مهمان يلخصان، إلى حد بعيد، تجربته في النقد وتطوافه الثقافي بعد أن قدم من بلغاريا، ووطّن خياله الأدبي والإنساني في فرنسا، البلد الذي فتح له قلبه، وأعطاه، بعد الجنسية، كل حظوظ النجاح والمغامرة النقدية، بعيداً من السائد، وقريباً من نسوغ الحرية التي لا يستقيم بحث في الأدب من دونها. الكتابان طبعاً هما"الشعرية"، ترجمة شكري المبخوث ورجاء بن سلامة 1990 وپ"الأدب في خطر"ترجمة عبد الكبير الخطيبي 2007. وإذا كان الكتاب الأول يؤرخ المغامرة البنيوية، التي كان تزفيطان طودوروف، مع رولان بارت وجيرار جنيت، أحد المؤسسين لها في حقبة الستينات، فإن الكتاب الثاني هو أحدث عمل له، وقد أثار، لحظة صدوره عن دار فلاماريون في باريس 2007، جدلاً واسعاً داخل الأوساط التربوية والنقدية والصحافية. يخرج كتاب"الأدب في خطر"الممارسة الأدبية من برود غرفة التشريح البنيوية، ليدخلها في عمق الانشغالات الإنسانية والاجتماعية، التي لا تضحِّي بالمعنى لمصلحة تضخيم التقنية الأدبية وتحويلها من أداة للتحليل إلى غاية. وإذا لم تعد البنيوية تتمثل الأدب، منذ عقود بعيدة، إلا كمرآة تنعكس عليها"الأحشاء"الداخلية للنصوص باعتبارها عناصر تقنية وشكلانية خالصة، فإن كتاب"الأدب في خطر"يستعيد موضوع الأدب من المختبر البنيوي، ليعيد وصله بشرايين الانسان والمجتمع. وهو ما يفتح أفق الرؤية على تجديد مقاربة الأدب، على نحو يساهم في توسيع تلك الشرايين التي لا تحيا نصوص الثقافة من دونها. يتكون كتاب"الأدب في خطر"من سبع مقالات وتمهيد، وتندرج كلها ضمن ذلك الجنس من التأليف السجالي، الذي يجمع بين قوة الطرح وبساطة الصياغة، ما يجعل من الكتاب عملاً موجهاً إلى كل المنشغلين في شؤون الأدب والثقافة، في علاقتهما معاً بالشأن التربوي في أبعاده الإنسانية والاجتماعية. في التمهيد، نطالع ملامح دالة من سيرة طودوروف، خصوصاً ما يتصل منها بسيرة التعلم، فنتعرف على صبي بلغاري، ابن والدين"يمارسان مهنة قيِّم مكتبة"، وهما على ولع خاص بالكتب، جعل الصبي تزفيطان يحبو وسط أكداسها. ويذكر طودوروف أن إقباله المبكر على القراءة كان يوفر له"استمتاعاً"أشبع تطلعه، وجعله يحيا مغامرات ممزوجة بالرهبة والمسرة، من دون أن تناله إحباطات العلاقة بين الأطفال الذين كان يحيا بينهم ص5. ولعل هذا الولع المتعاظم بالقراءة، هو ما جعله يختار مسلك الآداب، في نهاية المرحلة الثانوية:"الكلام عن الكتب سيكون مهنتي"ص 6. غير أن ثقل الإيديولوجية الشيوعية شدد الخناق على الدراسة في الجامعة:"كان نصف دروس الأدب علماً متعمقاً والنصف الآخر دعاية"ص6، وهذا الواقع دفع الطالب طودوروف إلى ممارسة نوع من التقية، فاختار لبحث التخرج الانشغال بپ"مقارنة نسختين من قصة طويلة لمؤلف بلغاري"، حاصرتا اهتمامه في"التحليل النحوي للتحويرات"التي أجراها الكاتب على قصته. وهذا الهروب"الشكلاني"، وإن كان ينم عن ضجر من الأدب الإيديولوجي، فقد نجّى الطالب من صراع مباشر مع المؤسسة. اختار طودوروف بعد ذلك، مغامرة باريس 1963 حتى يمكنه الجمع في الأدب، بكل حرية، بين"القناعات الحميمة والمشاغل العامة"، بعيداً من"الفصام الجماعي الذي يفرضه النظام الكلياني البلغاري"ص7. غير أن واقع الدراسة الأدبية في الكليات الباريسية آنذاك، كان خاضعاً لثقل المنهج التاريخي، ما شكل إحباطاً لطالب يريد التخصص في نظرية الأدب. ولم يخرج طودوروف من هذا الإحباط إلا عند لقائه بالناقد جيرار جينيت الذي كان يقاسمه الميول ذاتها، فدله على رولان بارت الذي يدير حلقة دراسية في معهد الدراسات العليا، فأصبح هذا المعهد مكاناً للقاء. أنجز طودوروف أطروحة دكتوراه تحت إشراف بارت سنة 1966، والتحق بموجبها بالمركز الوطني للبحث العلمي، وفي غضون ذلك، ترجم نصوص الشكلانيين الروس في مجلد بعنوان نظرية الأدب". ثم أسس، مع صديقه جينيت، مجلة"بوتيك"التي تسندها سلسلة من الدراسات، كان الهدف منها تخليص الأدب من"شبكة الأمم والقرون"وفتحه على"ما يربط الأعمال الأدبية بعضها ببعض"ص8. بعد اندماج طودوروف في الحياة العامة، تلاشت أسباب تعلقه الحصري بالشكل، ومن دون أن يسقط في أسر"إعجاب ساذج"، شرعت الديموقراطية الفرنسية في التأثير في اختياره لمقاربة الأدب. من هنا كان استئناسه بمعطيات أو مفاهيم علم النفس والأنتروبولوجيا والتاريخ، وبدأ يعتقد بأن"الأدب لا ينشأ في الفراغ، بل في حضن مجموع من الخطابات الحية"ص9، وغير بعيد من مجرى المجتمع والتاريخ. يذكِّر طودوروف في مقالة"اختزال عبثي للأدب"، بالأسباب الذاتية التي دفعته لدق ناقوس الخطر:"صرتُ أباً وما عاد بمقدوري البقاء عديم الإحساس بنداءات الغوث التي يبعث بها أطفالي عشية الاختبارات أو تسليم الفروض"ص11. لذلك كانت مشاركته، في لجنة استشارية تابعة لوزارة التربية، مناسبة ليقف على الخلل التربوي الذي تحوّل بموجبه تدريس الأدب إلى غاية في ذاته، إذ أن"قراءة القصائد والروايات لا تسوق إلى التفكير في الوضع الإنساني. بل في مفاهيم نقدية. في المدرسة، لا نتعلم عما تتحدث الأعمال الأدبية وإنما عما يتحدث النقاد"ص12. وهذا القلب للأدوار، هو ما جعل طودوروف ينظر بازدراء الى النقاد، فهم، برأيه، مجرد"أقزام يعتلون أكتاف العمالقة"، أي الكتاب المنذورين للخلود:"يمكن الرهان على أن روسو وستندال وبروست سيظلون مألوفين لدى القراء زمناً طويلاً بعد أن يكون النسيان قد طوى أسماء المنظرين الراهنين أو تشييداتهم المفاهيمية"ص14. في مقالة"ما وراء المدرسة"، يلقي طودوروف باللائمة، في تأزيم الأدب، على الجامعة التي كان أحد المبلورين لمنهجها البنيوي، ويلقي بها على الصحافة، التي تقدم الكتب والإصدارات في كبريات الجرائد مركزة على الطرائق والصيغ والأدوات، ويلقي بها أيضاً على الأعمال الأدبية المعاصرة في فرنسا، التي تتأرجح بين نزعة العدمية الكارثية، ونزعة الذاتية النرجسية. أعمال بقدر ما يبدو فيها العالم منفراً، تبدو الذات جذابة ص22. وهذه الذات هي التي أفضت إلى ما اصطلح عليه النقد بالتخييل الذاتي المتحرر من كل قيد مرجعي. هذه العوامل الثلاثة الشكلانية، والعدمية، والأنانية، برأي طودوروف، هي التي أزمت الأدب، وجعلت التلامذة يبتعدون عن شعبته المحفوفة بغير المتوقع :"إما أن يصيروا بدورهم أساتذة للأدب أو يسجلوا أنفسهم في لائحة العاطلين من العمل"ص19. يمارس طودوروف، في المقالات الثلاثة اللاحقة:"نشوء علم الجمال الحديث"،"جماليات عصر الأنوار"وپ"من الرومنطيقية حتى الحركات الطليعية"، حفريات معرفية تجمع بين الدقة والاختزال، سعى عبرها الى إثبات أن فكرة استقلالية الأدب عن الواقع، ليست اختراعاً للبنيوية، وإنما هي مرتبطة بپ"تاريخ طويل ومعقد، مواز لتاريخ الحداثة"ص23، وإن أخذت، في كل مرحلة، لوينات فلسفية مختلفة. فعلم جمال الأنوار مثلاً، وإن قال باستقلالية الفن، فهو لم يكن"يجهل بتاتاً العلاقة التي تربط الأعمال بالواقع: إنها تساعد على معرفته وتؤثر بدورها فيه"ص35، وعلم الجمال الرومنطيقي يعتبر الفن في عمقه"معرفة للعالم"، أما الحركة الرمزية فقد وصلت بين الفن وحقيقة مختلفة عن"طبيعة الحقيقة التي يطمح إليها العلم"ص36. ولم تحدث، برأي طودوروف، القطيعة الحاسمة بين الفن والواقع إلا في مطلع القرن العشرين، مع الحركات الطليعية التجريد في الرسم، والمستقبلية في الشعر، بتأثير من ارتيابية نيتشه، ليتأكد، عقب الحرب العالمية الأولى، مع حركات فنية كانت ترغب في الوقوف ضد إرادة"تسخير الفن"في خدمة المشاريع اليوتوبية. أما في مقالة"ماذا يستطيع الأدب؟"، فيؤكد طودوروف أنه يطمح إلى معرفة"واقع التجربة الإنسانية"، كما أنه"يجعلنا أفضل فهماً للعالم ويعيننا على أن نحيا"ص45. إن قراءة الأدب، تمثل"تجربة اللقاء بأفراد آخرين"ص47، والأفق النهائي لهذه التجربة"ليس الحقيقة بل الحب، الشكل الأسمى للعلاقة الإنسانية"ص48. هذا الإيمان جعل طودوروف يجدّد، في مقالة الختام"تواصل لا ينفذ"، الدعوة إلى ربط الأدب بعمقه الإنساني، عبر انتهاج مقاربة لا تقدس التقنية إنما تنشغل بقضايا"الوضع البشري"، ما يعني انفتاح المقاربة الأدبية على"الإنسان"وپ"التاريخ"و"البنية"، يجعلها تجد موقعها بين"الإنسانيات"، المكان الطبيعي لكل تأمل في النتاج الرمزي.