تعتبر الفوضى إحدى العلامات التي تشوب الحياة والعلاقات الدولية المعاصرة، وهي لا تتمثل في الحروب التي تُشَنُّ رغم انف الشرعية الدولية فحسب، إنما تتمثل أيضاً في إرهاب الجماعات المتطرفة والدول المتغطرسة التي أغرتها قوتها والتي تعمل على إدارة الصراعات المسلحة مخلفة الرعب والدمار والأمراض والمجاعات والأزمات الاقتصادية. والإرهاب ليس وجهاً جديداً، ولا ضيفاً حل قريباً، فقد عرف في كل العصور وهو منطقة مظلمة من مناطق السلوك البشري ومن أعقدها وهو قديم قدم التاريخ، فقد ظهر أول اعتداء على النفس في بدايات ظهور الحياة البشرية على الأرض حيث قتل هابيل أخاه قابيل قال تعالى: فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله. وكما أن الإرهاب قديم قدم التاريخ، فإن محاولة التصدي له قديمة قدم التاريخ أيضاً، فاتفاق"قادش"الذي صيغ عام 1281 قبل الميلاد يعتبر أقدم اتفاق في التاريخ، حيث عقد حلف بين تحتمس ومانوسيل لمواجهة الجرائم التي كانت ترتكب في ذلك الزمان الغابر ضد الآلهة أو المعابد. وإذا كان الإرهاب الدولي يعد انتهاكاً لحقوق الشعوب والأفراد، فإنه أيضاً يصطدم مع العديد من المبادئ المتعارف عليها في القانون الدولي ومفهوم العلاقات الدولية، وفي مقدمها وجوب عدم استخدام القوة والتهديد بها ضد أية دولة، وعدم التدخل في شؤون دولة أخرى، والامتناع عن دعم الحروب الأهلية وتمويلها وتشجيعها وعن القيام بأي عمل يعد إرهابياً من دولة على ارض دولة أخرى وانتهاك حقوق الشعوب والأفراد، والسياسات غير العادلة، وكل هذه الممنوعات تؤدي إلى الفقر والبطالة وحياة البؤس والأمراض وغيرها. إن الواقع يؤكد ان الدول الكبرى تطبق معايير مزدوجة في ما يخص التفريق بين الإرهاب وكفاح الشعوب من اجل تقرير مصيرها. فأميركا وبريطانيا مثلاً تعتبران أن الإرهابيين"قتلة"في بعض الأحيان، و"أبطال مغاوير"في أحيان أخرى، وليس هناك مثال حي أوفى ولا أصدق لازدواج المعايير من إضفاء الشرعية على أعمال إسرائيل وأفعالها ضد الفلسطينيين، وما ارتكبته ضدهم من جرائم بشعة في مخيمات صبرا وشاتيلا وجنين وكل ارض فلسطين ومجازر قانا وغيرها في لبنان وما ترتكبه اليوم من قتل وهدم وقهر تحت سمع العالم وبصره، بل وتأييده، وهو أقبح مثال لازدواج المعايير في محاربة الإرهاب الدولي. إنه عمى الغرض الذي جعل أميركا وحلفاءها يخلطون الأوراق بهذه الصورة السمجة، ويقلبون الموازين بهذه الطريقة الظالمة فيعتبرون المقاومة الفلسطينية الباسلة وكفاح الشعب الفلسطيني الصامد إرهاباً، بينما يعتبرون ما تقوم به إسرائيل من قتل وهدم وتشريد واحتلال الأرض جوراً وظلماً دفاعاً عن النفس وحقاً مشروعاً من اجل البقاء. ونحن نقول لهم ان أعجزتكم أغراضكم وأمراضكم عن إنصاف شعب احتلت أرضه وقتل أبناؤه وشردوا، فلا اقل من ان تسكتوا ولا تزيدوه ظلماً على ظلمه وقهراً على قهره بتصنيف جهاده إرهاباً وتصنيف إرهاب عدوه بطولة وحقاً مكتسباً بمعاييركم المزدوجة وأحكامكم المغرضة الظالمة. ان الدول إذا أرادت الوقوف في وجه الإرهاب لا بد لها من وضوح الرؤية والاقتراب من الجماهير والصدق في التخاطب معها، ولا بد من حل مشكلاتها بالأسلوب الذي يحدده النظام الشرعي والقانوني، لتوفير الأمن والاستقرار للأفراد والجماعات، وهذا بالتأكيد سيؤدي إلى محاصرة الإرهاب الذي يعد خروجاً على مبادئ الشرع وقواعد القانون. وإذا كان الرئيس الأميركي قد قَبِلَ استقالة فرانسيس تاونسيند كبيرة مستشاريه المسؤولة عن مكافحة الإرهاب لتنضم إلى قافلة من تخلوا عن رئيسهم بوش ومنهم العقل المدبر لحرب العراق وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، وكارل روف كبير المستشارين السياسيين وغيرهم، فإن السيد بوش الذي سيغادر البيت الأبيض في كانون الثاني يناير 2009 لن يتمكن هو وزملاؤه من القضاء على الإرهاب والإرهابيين، كما وصفهم. لماذا؟ لأن الهدف لم يكن في الأساس القضاء على الإرهاب، إنما كان وما زال ضمان أمن إسرائيل وضرب كل قوة يمكن ان تهدد ذلك الأمن، مع تأكيد استمرارية السيطرة الأميركية دعماً لسياسة القطب الواحد باسم محاربة الإرهاب وتحت غطاء من الشرعية الدولية. وإذا كان السيد بوش قد أعلن للعالم فور وقوع حوادث 11 أيلول سبتمبر 2001 انه لا حياد وان الدول صنفان"معنا أو ضدنا"وانه قام باسم محاربة الإرهاب بغزو أفغانستانوالعراق واحتلهما بقوة السلاح، فإنه اليوم وبعد مرور أكثر من 6 سنوات لم يقدم لشعبه والعالم سوى الدمار والهلاك بينما بن لادن الذي صرح بوش قائلاً انه سيقبض عليه حياً أو ميتاً لا يزال حياً يرزق، وذهبت وعود بوش أدراج الرياح. ولكن الحصيلة كانت أن أعاد رجل الحروب والدمار بوش الابن أفغانستانوالعراق من اجل النفط وأمن إسرائيل إلى عصور ما قبل التاريخ وأهدى لمواطنيه أكثر من 4 آلاف قتيل وأكثر من 20 الف جريح ومعوق من شباب أميركا، وفي العراق وحده أزهق جيشه الجرار أرواح أكثر من مليون عراقي وأضعافهم من الجرحى إضافة إلى حوالي 6 ملايين مهاجر تم تهجيرهم داخل بلادهم وخارجها، وزاد سيد البيت الأبيض ورجاله من"الشياطين الجدد"الطين بلة، حيث قدموا العراقلإيران من دون ان يطلق ذلك البلد رصاصة واحدة فيما وقف العراق في وجه إيران 8 سنوات في حرب ضروس لم يستطع جيشها اقتطاع شبر واحد من أراضيه. إن نضال بوش، قصد او لم يقصد، كان من اجل إيران. فقد جاء بجيوشه الظالمة من وراء البحار تحت شعار نشر الديموقراطية والحرية وتدمير أسلحة الدمار الشامل ومحاربة الإرهاب والإطاحة بالرئيس العراقي الراحل، لكنه لم يجد أسلحة دمار شامل ولا إرهاباً ولا من يحزنون، وغرق في مستنقع اسمه العراق، ومهّد الطريق لإيران بالأسلحة الأميركية المدمرة وحقق لها حلمها، ناهيك عن تغلغل إسرائيل في العراق بخاصة في شماله، ونقل بوش المنطقة والعالم من حال الأمن والاستقرار إلى حال من الفوضى والانزلاق نحو الهاوية وتسبب في رفع سعر النفط من 25 دولاراً إلى 100 دولار، وتكسرت على صخرة صلدة مقولته الناقصة انه سيجعل العالم أكثر أمناً! والمضحك المبكي ان السيد بوش لا يزال - على رغم تخلي معظم معاونيه ومؤيديه عنه - يحشد التأييد لمعركة إدارته ضد ما يسميه بالإرهاب. لقد وصلت شعبية بوش إلى الحضيض نتيجة حروبه على أفغانستانوالعراق التي كلفت مئات الآلاف من الأرواح البريئة ومئات البلايين من الدولارات إذ دفعت الخزانة الأميركية من جيوب دافعي الضرائب الأميركيين أكثر من 600 بليون دولار والحبل على الجرار، وكان حصاد كل تلك الأرواح والبلايين لا شيء غير عالم اقل أمناً واقتصاد أميركي يتهاوى. إن بعض الدول تستخدم حقها الشرعي في الكفاح، من اجل التحرر من الاستعمار والتخلص من الاحتلال، ولكن بعض الدول الكبرى، وبخاصة أميركا وبريطانيا، وبسبب عنادها ومكابرتها أو"لغرض في نفس يعقوب"تعتبر ذلك إرهاباً، وهذا ينفي مقولة وجود تعريف واحد مقبول لظاهرة الإرهاب، والمؤكد ان هذا المصطلح او التعبير الإرهاب أفلت حتى كتابة هذه السطور من محاولات تقنينه وتعريفه على رغم الاتفاق على خطورته وتهديده للإنسانية. وإذا كانت مكافحة الإرهاب قد أصبحت إحدى الضرورات المهمة اليوم شأنها شأن تقرير المصير وحق الشعوب في الاستقلال والحرية، وإذا كانت مطاردة الإرهابيين تتم من اجل توفير الأمن والأمان والاستقرار للمجتمعين الداخلي والدولي، لأن الإرهابيين يشكلون خطراً على البشرية بأسرها، فإن استعمار الشعوب واحتلال أراضيها بالقوة هو إرهاب أيضاً، وان كان إرهاب دولة وليس إرهاب أفراد، وهو أولى بأن يتم الاتفاق على مقاومته من قبل الأسرة الدولية، لأن الدول تملك من وسائل البطش ما لا يملكه الأفراد مهما كانت قوتهم، كما انه يمثل فساداً في العلاقات الدولية وخرقاً لقواعد القانون الدولي وميثاق منظمة الأممالمتحدة ومجلس الأمن، وإخلالاً بالسلام والاستقرار العالميين. وخلاصة القول انه لتحقيق العدل يجب التخلص من الازدواجية والمعايير المزدوجة وعدم الكيل بمكيالين. فخلط الأوراق ووصف القتلة والمحتلين بالمجاهدين، ووصف المدافعين عن أرضهم وعرضهم بالإرهابيين، هي التي تؤدي إلى تفشي ظاهرة العنف، فلا أحد يقابل الصفعات بالقبلات، والقنابل بالورود والرياحين، والتاريخ لم يحدثنا عن ظلم تمخض فولد أمناً... فأي مولود ينتظره هؤلاء مما يفعلون؟ * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية