في غمار الأحداث الدامية والصراعات الخطرة والتفاعلات المتسارعة، تحولت منطقتنا العربية الى منطقة ملتهبة، تحتدم فيها المشكلات المعقدة وتشدنا معها في تصاعدها المستمر، منذ قامت إسرائيل عام 1948 على ارض فلسطين، ولو أمعنا النظر لوجدنا ان السبب يكمن في الكيان الصهيوني، الذي زرعه أعداء الأمة العربية والإسلامية وسط المنطقة، ليصبح المصدر الرئيس للألغام المدفونة، التي أخذت تتفجر بشكل متواتر على رؤوس الفلسطينيين والعرب"المتشتتين". وإسرائيل - وليدة وعد بلفور"اللعين"- منذ قيامها كشرت عن أنياب الكره والعداوة للعرب والمسلمين، والهدف الحقيقي لقيام إسرائيل هو إثارة المشكلات والصراعات في منطقة الشرق الأوسط وتبديد طاقاتها والقضاء على هويتها، مدعومة بشكل غير مسبوق من الإدارة الأميركية بمحافظيها الجدد المتشددين حتى"النخاع". بالأمس انتخبت حماس انتخاباً حراً ديموقراطياً، فانقلبت أميركا وإسرائيل على الإرادة الحرة للشعب الفلسطيني. وبالأمس اتفقت فتح وحماس على وثيقة الأسرى بعد جفاء بينهما أوشك على صراع بين الأشقاء، بعد أن قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس إحالة الوثيقة الى الاستفتاء. هذا أثار حفيظة إسرائيل الدنيئة التي غرست في أعماق أعماقها الحقد والكراهية، فحمل تاريخها الفظائع التي ارتكبها جنودها ضد الفلسطينيين والعرب أصحاب الأرض الأصليين، وكعادتها تستغل كل ثغرة في"لهو"النظام الدولي الغافل دائماً، والمشغول اليوم بكأس الكؤوس، وقضية كوريا الشمالية التي تصعدت مع تجربتها لصواريخ جديدة، أحدها"تايبو دونغ 2"بعيد المدى، يطاول بعض الأراضي الأميركية، ومنها كاليفورنيا، والملف النووي الإيراني واللاءات الإيرانية، ورفض إيران للرد المتعجل، ولوقف التخصيب، وعدم رضوخها للإملاءات الأميركية والأوروبية، كما هو مشغول بالوضع المتردي في العراق الذي صنعه المحافظون الجدد، وبروز دور المحاكم الإسلامية في الصومال. كل هذه عوامل لا تتركها الدولة العبرية تمر مر السحاب من دون استغلالها، فجاء الاجتياح الإسرائيلي الأخير الفج لغزّة شاهداً على فظاعة الجرائم الإسرائيلية، إذ دمرت وما زالت تدمر المنازل على رؤوس أهلها، وتقتل النساء والأطفال والشيوخ، وتسوي المباني بالأرض، وتدك البنى التحتية وتقطع الماء والكهرباء لتحول النور الى ظلام... لكن يبقى نور الحق والعدل في صدور الفلسطينيين يضيء. هي إسرائيل التي أغرتها قوتها المدمرة بالتحكم في سورية فحملتها مسؤولية اختطاف الجندي الإسرائيلي، واعتبرتها مسؤولة عن سلامته، وإسرائيل هذه التي تقيم الأرض ولا تقعدها من اجل شخص واحد هي التي تقتل الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء، وهي التي من اجل هذا الشخص اختطفت المسؤولين من حماس"المنتخبين"وتغتال رموز المدافعين عن أرضهم غدراً وخيانة، ومن اجل هذا الشخص الواحد شنت الحرب براً وبحراً وجواً على الفلسطينيين، وقتلت وتقتل بدم أبرد من الثلج أطفال فلسطين ونساءها ورجالها! حتى الذين تحصنوا بالمقابر حولت ما حولهم الى جحيم! جندي القرن الواحد والعشرين الصهيوني له دم غير دم الأمم، وفصيلته تختلف، لأن جذوره تعود الى لغة الدمار القوة المعرّاة، هدفها إسقاط حماس! لغة الكيان العنصري الاستيطاني تقتل وتسفك الدماء بشتى الوسائل، وتعلن براءتها والمجتمع الدولي يسمع ويرى! أكثر من عشرة آلاف فلسطيني يقبعون في سجون إسرائيل الشريرة اختطفتهم إسرائيل وهم يمثلون كل ألوان الطيف الفلسطيني، فمنهم قادة الفصائل والفلسطينيون والشيوخ والنساء والأطفال، ومن بينهم مرضى ومعوقون، هؤلاء عند إسرائيل"وأمها"أميركا ليسوا بشراً، ولا ينطبق عليهم قانون حقوق الإنسان الذي دنسته إسرائيل وأميركا! لكنه ينطبق على الجندي الإسرائيلي الذي اختطف في معركة تخضع لقانون أسرى الحرب! كل القوانين والأعراف الدولية وقرارات الأممالمتحدة ومجلس أمنها عند إسرائيل في"مزبلة التاريخ"، والمؤسف أن العالم يدرك هذا ويتقبله بنفس راضية، ولا تحرك فيه صرخات الفلسطينيين ودموعهم ساكناً، وان خجل وتحرك فلا يعدو ذلك ان يكون شجباً واستنكاراً لا يجاوز الحلقوم، ولا يلبث ان يتوارى وهكذا كان حال العالم ولا يزال منذ صدور قرار التقسيم اللئيم حتى يومنا هذا. نموذج نذكّر به ونضربه مثلاً، وهو مقتل الطفل البريء محمد الدرة رأينا رصاصات الغدر الإسرائيلية تختطفه من بين ذراعي والده وهو في الثانية عشرة من عمره، إذ لم تجد صيحات ذلك الوالد الحنون وحتى تضحيته بحياته من اجل إنقاذ ابنه، فسجل التاريخ لذلك الفلسطيني الشجاع قدرته على الصمود، كما سجل لإسرائيل وجيشها عاراً لا يغتفر، وسجل للعالم صمته المريب وللعرب موقفهم المتخاذل من شعب فلسطين المظلوم! الشعوب العربية وقتها سجلت انتفاضة عريضة، فهاج الشارع العربي من المحيط الى الخليج غضباً، وهذا غيض من فيض على اليهود المغتصبين لأرض فلسطينوالقدس الشريف والجولان ومزارع شبعا! إسرائيل كيان عنصري استيطاني متعطش للدماء تدعمه اكبر قوة غاشمة على الأرض اليوم العم سام، وانطلاقاً من عنصريتها والدعم الظالم من أميركا شددت ضرباتها المجنونة الى شعب فلسطين، حتى لو وجدت صخرة لحطمتها، معتقدة أنها تخبئ وراءها فلسطينياً. إسرائيل تضرب بقلب قاس ودم بارد لأنها مستوردة عسكرياً وسياسياً من بوش الصغير صاحب التصريحات الشهيرة ضد العدالة الإنسانية،"ان إسرائيل من حقها الدفاع عن نفسها"،"ان إطلاق الجندي الإسرائيلي هو مفتاح إنهاء الأزمة، ويجب ان يكون الهدف الأول"هذه عدالة أميركا التي أعجب أناس كثيرون بحضارتها وحريتها لحقبة من التاريخ! عشرة آلاف سجين فلسطيني أو أكثر ليسوا هدفاً أول ولا عاشراً عند سيد البيت الأبيض، أما جندي صهيوني واحد فتقوم قائمة دبليو بوش ولا تقعد في زمن عنجهية وصلف المحافظين الجدد! هؤلاء القوم الجدد ناضل أجدادهم من اجل الاستقلال، وواجهوا الدول التي استعمرت بلادهم في حروب اعتبروها - ونحن معهم - عادلة، من اجل تقرير المصير، لكن صقور الإدارة الأميركية الذين يعدون نضالهم ضد من كان يستعمر بلادهم شرفاً ما بعده شرف، يعدون من يناضلون للانعتاق من المحتل في افغانستانوالعراقوفلسطين إرهابيين! ويؤكدون ان المناضلين من اجل حرية بلادهم في ابو غريب وغوانتانامو والسجون السرية مجرمون وقتلة! ونموذج آخر لا يقل ظلماً ولا حزناً عن مقتل الدرة نقدمه مثالاً لبطش إسرائيل وظلم الإنسان لأخيه الإنسان وصمت هذا العالم المريب، فعلى احد الشواطئ في غزة الحزينة أغارت طائرات إسرائيل المقاتلة على فلسطينيين أرادوا ذرة من حرية لكن القوة الطاغية الإسرائيلية قتلتها، ورأى العالم الصامت الطفلة هدى غالية البالغة من العمر عشر سنوات وهي تهيم على رمال الشاطئ تدفن جسدها في التراب بحثاً عن أسرتها والدها ووالدتها وإخوانها وأخواتها الذين طاولتهم يد الغدر الإسرائيلية، لتبقى هدى وحيدة، تعيش مأساة فراق أسرتها في مشهد مريع مليء بالحزن والأسى مغطى بنحيب طفلة بريئة على رمال شاطئ غطي بالدماء. وليس محمد وهدى ولا اجتياح غزة أو محاصرة مقبرة تحصن فيها مدافع عن أرضه، أو حتى زج أكثر من عشرة آلاف في سجون إسرائيل نهاية السيناريو، ولا اختطاف الوزراء في حكومة شرعية في سابقة لم يسبق لها مثيل نهاية القصة، فالقصة ستستمر مليئة بالأحزان والمآسي والظلم المرير، وستظل إسرائيل تذبح وتقهر شعب فلسطين الذي يبحث عن السلام والأمن وشرعية البقاء، ولن تتوقف إسرائيل عن جبروتها وشدة بطشها، فما الذي يردعها وسط ضعف العرب وتخاذلهم غير المسبوق أمام القوة الإسرائيلية، التي تعربد وتبطش وتعيث في الأرض فساداً، قيل لفرعون ما فرعنك، قال لم أجد احداً يردني. العرب عاجزون عن الوقوف في وجه القوة الإسرائيلية، لا يملكون إلا بيانات الشجب والاستنكار، أمام الانحدار والانكسار في نظامهم العربي برمته، وتضاؤل وجودهم وتفاعلهم السياسي في ميدان العلاقات الدولية، وأصبحت إسرائيل المدعومة أميركياً وعالمياً تهدد نظامه بكل وجوهه. وعلى رغم الهزال والكساح الذي أصاب الأمة، فان إسرائيل تدرك ان ارض الغير لا يمكن ان تكون يوماً من الأيام محل مساومة،- وهي على يقين من ان الفلسطينيين أهل كفاح صادق وصارم ومستمر عن تراب القدسوفلسطين، وانه لن يكل او يمل من الكفاح مهما طاول الزمن، حتى يستعيد أرضه وسيادته عليها. وإذا كانت الأمة اليوم مثقلة بالنكبات في أفغانستانوالعراقوفلسطين، الذي يحكي قصة انتكاس العرب والمسلمين وضعفهم متجاهلين ان هذا هو زمن القوة، وان العالم لا يصغي الا لأصحاب القوة، وخير مثال على ما نقول إسرائيل العنصرية، فان التاريخ لا شك سيشهد نهوض الأمة بعون الله، بعد الخروج من نفق الضعف الذي يحيط بالمسلمين، لتسمع صرخات الشعب الفلسطيني وتهب لمقتل طفل فلسطين الدرة وصرخات فتاة فلسطين هدى، وتستجيب لنداء استغاثة كل مسلم وعربي مظلوم كما لبى الخليفة المعتصم نداء المرأة التي نادته عبر الفيافي صارخة"وامعتصماه"، لعل التاريخ يعود الى الوراء ليبزغ ذلك الفجر! إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة.