الحقيقة البارزة اليوم، هي ان الوقت يداهم مصير لبنان من خلال الاستحقاق الرئاسي وان الاجتماعات والمبادرات الوطنية والخارجية ليست في مستوى الآمال والمطامح الوطنية، كما تبرز عقد يصعب إيجاد حلول لها. الحقيقة الأخرى، هي ان الوفاق الوطني الصحيح، يعتريه الإبهام والحذر وينقصه الإخراج المحكم، وهنا يبدو النقص الذي يسيطر على بعض السياسيين، في الوقت الذي يجب استعمال أدق الصيغ والألفاظ وأحكمها، مما يحبب ولا ينفر. إن الوطنية الصحيحة ليس لها لون، فليس أسهل من ذوبان الوطنية المتغلغلة في صفوف المعارضة، بوطنية 14 آذار الكبرى، كما تتلاشى قطرتان من الماء الزلال إحداهما في الأخرى. كما لم يعد من فائدة كبيرة في الجدل السياسي الذي يدور حول نوعية الوطنية اللبنانية والمحافظة عليها، لا سيما وان الجدل في هذا كله ? ولو كان عن نية حسنة ? يعود بنا في الخلاف إلى النقطة التي أنتجت الخلاف وهي البحث في كيف سيكون لبنان، محارباً يلفه الموت أو مستقلاً يضج بالحياة؟ لذلك على ضوء الأزمة القائمة الآن حول الاستحقاق الرئاسي، وخطرها على الوطن، على السياسيين الوطنيين ان يجدوا صيغة تنقذ الوطن ويقدموا أعظم القرابين، فمصلحة الوطن فوق كل مصلحة أخرى، لا سيما ان الاتفاق على مرشح لرئاسة الجمهورية من السياسيين أو من الشخصيات المعروفة، أمر في منتهى الصعوبة إن لم يكن من المستحيلات. ان صيغة حل لأزمة انتخاب رئيس الجمهورية، تكون في التمني بل بالطلب بإلحاح إلى سيد بكركي البطريرك نصر الله صفير ترشيح نفسه للرئاسة الأولى إنقاذاً للبنان وشعبه، لأنه الشخصية الوحيدة التي تُجمع اللبنانيين حولها، بالاتفاق والتراضي والاقتناع والإيمان بأن ذلك هو لخير جميع اللبنانيين، لا لخير فريق واحد. وحين نقدم هذه الحقيقة الجلية إلى اللبنانيين على نزاهة الفكرة، لا يمكن ان ننتظر منهم إلا ان يدفعوا بلبنان إلى الدائرة المرنة التي اسمها المصلحة الوطنية. ولا أجد عجيباً أن يرى البطريرك صفير نفسه محرجاً بين بعض قومه الذين يحاولون إيقافه عند حد سياسته الوطنية الراقية إلى إعادة بناء وطن يستطيع ان يحوي عناصر الحياة الكريمة والمحبة بين أبنائه، ويعيد اللحمة بينهم. ولا ننسى، ان البطريرك صفير الذي هو فوق الزعامات ممثلاً الوطنية الناضجة والقوة الهادئة، هو الوحيد الذي يمكن جميع الأطراف السياسية الاتفاق على توليه الرئاسة الأولى في لبنان وبذلك ينقذ الاستحقاق الرئاسي ومن ورائه لبنان ويعيد له الاستقرار ويريح أصحاب المبادرات. يشاء قدر البطريرك صفير، بقبوله رئاسة الجمهورية، ان يكون المنقذ التاريخي للبنان وجعله أرض التسامح والمحبة، واللبنانيون يقدرون بلا ريب دور بكركي الذي كان ولا يزال دوراً وطنياً تاريخياً. ومن باب الفائدة التاريخية، يمكن استعادة ما كتبه المفكر اللبناني كاظم الصلح عن حقبة مهمة في تاريخ سورية ولبنان:"إن هذه المرحلة من تاريخ القضية، هي في الحقيقة من أعجب ما رأى تاريخ الشرق، ان بكركي التي كانت أكبر حجة الوجود فرنسا في لبنان وسورية، أصبحت ذات يوم موطن المعارضة لذلك لوجود في شكله الحالي، على اعتبار انه معطل للحيويات القومية والسياسية والاقتصادية، فجاءت الوطنية السورية بدورها تعجب بوطنية اللبناني الكبير وتواليه وتخدمه، وهكذا قام التعاون العاطفي والمادي بين الجانبين، وكان يتزايد مع الزمن بنسبة عظمى على نظام طبيعي، كما تتزايد الكرة الثلجية المتدحرجة من أعلى الجبل. وإذا كان من ثمرة هذا التعاون، ان قام المصلون في دمشق في الجامع الذي هتف المسلمون فيه بحياة مئة خليفة من خلفاء الإسلام، يُكبِرون الله ثم يشكرون البطريرك، وإذا كان من ثمرته ان سار مشيعو الشهداء، يجهرون بالطعن على"شيخ"معروف كان رئيساً للجمهورية ويقولون ان البطريرك هو الحبيب إلى الله، فإن هذا البطريرك من ناحيته قد بكى لبكائهم ولم ينسهم في زمن الشدة، بل لبس السواد حداداً على كوارثهم وترك الأرجوان التقليدي الذي ارتداه من قبله مئة حبر من أحبار الكنيسة في بكركي. ولست أشك في أن كل رجل منا يعرف الكثير من أنواع التعاون، في ما خلا هذا الميدان العاطفي، فإن النصرة المادية التي تقدم بها البطريرك وأعوانه القائلون بقوله إلى القضية السورية سواء بمعارضتهم الإيجابية للسياسة الفرنسية الحالية، أم بمعارضتهم السلبية، قد أدت أجمل خدمة لتلك القضية وللقضايا الاستقلالية عموماً، فكان عمله هذا من حيث الضخامة التاريخية لا يقل ضخامة عن الدعاء له من صميم الجامع الأموي الكبير". إن الوقوف أمام هذه الحقيقة التاريخية وجهاً لوجه، يزيد من تقدير الوطنيين اللبناني ودعمهم دور بكركي الذي كان ولا يزال دوراً وطنياً بامتياز. كما يباركون الآن، ويدعمون التضحية الوطنية الكبرى للبطريرك صفير بقبوله تولي رئاسة الجمهورية إنقاذاً للبنان وشعبه. فضخامة الأحداث في لبنان وأخطارها المرتقبة، توجب على البطريرك مسؤولية وطنية تاريخية ضخمة توازي ضخامة الأخطار. إن البحث في الأمور المصيرية، تلك المتداولة الآن من اللبنانيين، يخرج لا شك عن دائرة تلمس غالبية هذا الرأي أو ذاك... فالموقف السليم هو الذي يقوم على أسس شرعية راسخة ومستقرة في كل الأزمنة والأمكنة: إن مضمون هذه الشرعية هو عدم جواز حرمان مواطني أي دولة، من حقهم في تقرير مصيرهم وإدارة شؤونهم بملء إرادتهم، لأي سبب من الأسباب. ان النظام الديموقراطي والتقيد بمواد الدستور كاملة يحميان حق اللبنانيين جميعاً. * فنان لبناني