كان البطريرك الماروني نصرالله صفير يفضل لو ابتعدت هذه الكأس، كأس مصالحة الزعماء الموارنة عنه. فهو أكثر المدركين لحدود الدور الذي يستطيع ان يلعبه في ظل التناقض الحاد بين اللبنانيين الذي لا تمثل الخلافات بين المسيحيين الا صورة مصغرة عنه. كم فرقة يملك البابا؟ سأل ستالين يوماً عن امكانات البابا بيوس الثاني عشر! ولعل كثيرين في لبنان يسألون اليوم: كم مدفعاً وكم قذيفة كاتيوشا يملك البطريرك صفير؟ فالنيّات الطيبة لم تعد تصلح وحدها لتؤهل بكركي لقول كلمتها الفاصلة في النزاعات. وقد اختبر صفير نفسه حدود دوره في الآونة الاخيرة مرتين، الاولى عندما أبدى رغبة خطية من رئيس الجمهورية اميل لحود بتقديم استقالته كمخرج للأزمة. وقوبلت تلك الرغبة بالرفض. والثانية عندما حاول التوفيق بين الرئيس السابق امين الجميل والعماد ميشال عون في انتخابات المتن في الصيف الماضي، وفشلت تلك المحاولة ايضاً وذهب الفريقان الى معركة قاسية اضافت ذيولاً جديدة الى الانقسام المسيحي. وللإنصاف، فمحاولات التوفيق التي يقوم بها البطريرك صفير لا تعني أنه يقف في الوسط بين المتنازعين، أو ان موقفه ملتبس من القضايا المطروحة. عظاته وتصريحاته وبيانات الأساقفة الموارنة في ظل الوصاية السورية تشهد له بالمواقف الواضحة الى جانب الاستقلال والسيادة. فهو يعتبر ان القيّم على كرسي بكركي هو وريث دور لعبه بطاركة عظام ابرزهم البطريرك الياس الحويك، الذي ذهب الى مؤتمر السلام في باريس سنة 1920 مطالباً باستقلال"دولة لبنان الكبير"الذي كرس ضم ما كان يعرف باسم"الاقضية الاربعة"ايام الحكم العثماني الى الكيان الجديد. كما أن الزيارة التاريخية التي قام بها صفير الى الجبل في صيف سنة 2001 وفتحت المجال امام المصالحة المارونية الدرزية، هي التي مهدت الطريق في نظر كثيرين الى التغيير الانقلابي الذي عرفته مواقف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط منذ ذلك الوقت حيال الوصاية السورية. وجاء بعدها كما نذكر البيان الشهير للمطارنة الموارنة الذي كان الأرفع صوتاً في انتقاد الممارسات السياسية الداخلية ووضع اليد على القرارات الوطنية. لكن البطريرك يعرف أن الخلاف الحالي بين قادة الموارنة هو خلاف على قواعد سياسية تتصل ببناء الوطن واستقلال قراراته الداخلية. وهو خلاف بين فريقين لكل منهما نظرة الى مفهوم هذا الاستقلال تختلف عن نظرة الآخر. ولكل منهما مصالحه وارتباطاته الداخلية والخارجية التي لا تضع بكركي على رأس اولوياتها. اضف الى ذلك ان واحداً من هذين الفريقين يملك الى جانب القرار السياسي القرار الحربي ايضاً، وهو ما تفتقر اليه بكركي بالطبع. سألت البطريرك صفير مرة كيف ينظر الى دوره السياسي بالمقارنة مع الدور الذي يلعبه امين عام"حزب الله"السيد حسن نصرالله؟ فقال لي: نحن لسنا رجال سياسة. نحن نفضل الدور الرعوي والروحي ولكن الظروف هي التي فرضت علينا هذا الدور. فنحن ليس لدينا سلاح ولا ميليشيات ولا مواقف حربية. نحن موقفنا مبدئي فقط. باسم هذا الدور الرعوي قام البطريرك صفير بالخطوة الاخيرة، التي تردد قبلها كثيراً، بدعوة الزعماء الموارنة الى مقره لمحاولة التفاهم معهم على مخرج للأزمة الرئاسية. وقد فعل ذلك مغامراً مرة جديدة بهيبة المنصب وبصوته الذي يفترض أن يكون مسموعاً في الأزمات الوطنية. ويقول بعض من حضروا اللقاء ان البطريرك بدا قليل الحماس ولم يعرض أي تصور للحل، بل شجع على الانفتاح بين الجانبين مركزاً على أهمية إجراء الانتخابات من دون الدخول في التفاصيل. يهمس بعض الزعماء الموارنة انهم كانوا ينتظرون من البطريرك موقفاً حاسماً بالنظر الى ما يتمتع به من رصيد معنوي بين اللبنانيين. كانوا ينتظرون أن يقول للمجتمعين من الطرفين: لأنني ادرك المصلحة الوطنية ولأنني اعرف المواصفات المطلوبة من الرئيس الجديد، وأهمها أن لا يخجل مستقبله من ماضيه، فإن بكركي تعتبر"فلان"هو الافضل في هذا الظرف لتولي الرئاسة. كانوا ينتظرون ما يشبه موقف البطريرك بولس المعوشي من دعم ترشيح الرئيس فؤاد شهاب في وجه المشاعر المسيحية آنذاك، لأنه اعتبرها خطوة انقاذية للبلاد. ويراهن هؤلاء على ان بكركي اذا فعلت ذلك فإنها تفتح باباً واسعاً نحو الحل، وتسهل مهمة الرئيس نبيه بري الذي يقول انه يقف وراء البطريرك في أي خطوة رئاسية. هل يفعلها البطريرك صفير؟ هل يعتبر دوره السياسي مطلوباً هذه المرة اكثر، ربما، من دوره الروحي؟.