إثر الشكوى التي تقدم بها البطريرك انطونيوس خريش ضد الرهبانية المارونية اللبنانية، استدعى الفاتيكان الآباتي بولس نعمان للنظر في صحة التجاوزات التي يقدم عليها بصفته رئيساً للرهبانية. وانحصرت الشكوى التي اشترك في تقديمها بطاركة آخرون يدينون بالولاء لحاضرة الفاتيكان، بانتقاد ممارسات ليست من صلاحيات الرهبانية. ولم ينكر الآباتي نعمان امام الهيئة التي شكلها البابا لهذا الغرض، دوره في توسيع نشاط الرهبانية بسبب غياب المرجعيات الروحية العليا. وقال في دفاعه عن موقفه انه على استعداد للتقيّد بنظام التراتبية، شرط ان يؤدي سيد بكركي وسواه من البطاركة الادوار المطلوبة منهم خلال الازمات التي عصفت بلبنان. ولما اتسعت اعتراضات الهيئة مطالبة الآباتي نعمان بضرورة التوقف عن التعاطي بالشأن السياسي، قال انه تأثر بالدور السياسي الذي يلعبه الحبر الأعظم لانقاذ وطنه الاصلي بولندا، وان ممارساته لا تتنافى مع مسؤوليات الكنيسة تجاه هموم الناس. المؤكد ان شكاوى عديدة من جهات مختلفة تسلّمها الفاتيكان بشأن اتساع حجم الدور السياسي الذي يقوم به في لبنان البطريرك الماروني الكاردينال نصر الله صفير، خصوصاً وان جولته الراعوية في الولاياتالمتحدة وكندا وسّعت قاعدة المطالب التي يجهر بها، وربطت موقف المغتربين بموقف المقيمين الذين ضاقت بهم ساحة بكركي يوم الثلثاء السابق. وبعكس سلفه البطريرك المعوشي الذي أوجد خلافه مع رئيس الجمهورية، الماروني كميل شمعون شرخاً داخل الطائفة الواحدة، رفض البطريرك صفير ان يستغل فريق من مستقبليه المناسبة للتشويش على كلمة ممثل الرئيس لحود. ولقد عزّز بيان الاعتذار والاستنكار الذي صدر عن بكركي نزعة التهدئة والحوار مع الرئيس الذي رفض التعاطي مع هذا الموضوع من زاوية شخصية. وقال في جلسة مجلس الوزراء انه يميّز بين مطلقي الهتافات ضده وبين موقف البطريرك، مؤكداً ان الاتصال معه لم ينقطع حتى اثناء وجوده خارج البلاد. وقوبلت ملاحظة الرئيس بالارتياح لدى سيد بكركي، فكان يكرر امام زوّاره عبارات الاحترام "لإبن العائلة العريقة المؤتمن على الدستور وسيادة البلاد". الرئيس لحود لم يستخدم يوماً علاقته الحسنة مع بكركي للتوسط بينها وبين دمشق، حرصاً على الاحتفاظ بصفة الحكم المحايد، ومنعاً من تحول السجال بشأن الوجود السوري الى موضوع خلاف على أعلى المستويات داخل الطائفة المارونية. ولقد حمل هذه المسؤولية الوزير السابق فؤاد بطرس ضمن مبادرة غايتها تقريب وجهات النظر بين بكركي ودمشق وفتح باب الحوار في أقرب فرصة. وربما ساعد الاستقبال الحاشد الذي لقيه البطريرك من ابناء طائفته على تعديل الموقف السوري الرافض فتح اي حوار خارج القنوات الرسمية. ويؤكد وسطاء الخير ان إهمال هذا الموضوع سيقود الى مزيد من البلبلة السياسية القادرة على تعطيل عملية النهوض الاقتصادي التي وعد بتحقيقها رئيس الحكومة رفيق الحريري. والسبب ان المحتمين بعباءة البطريرك سيزداد عددهم يوم ينضم الى مسيرة المطالبين بانسحاب الجيش السوري المغبونون والمهمّشون والمحرومون الجدد. ومن الطبيعي ان تقابل دمشق صيحاتهم بتحريك مسيرات مضادة تحشد لها طلاب المدارس وممثلي جمعيات الاندية الرياضية والكشفية ورؤساء البلديات والمخاتير وكل من يخشى سطوة الدولة. وكما طلب المفتي الشيخ محمد رشيد قباني من أئمة المساجد بأن يعيروا هذا الموضوع اهمية خاصة، فإن الدعوة لتوسيع قاعدة المطالبين ببقاء الجيش السوري، ستأخذ منحى المعارضة الطائفية التي عرف لبنان تجربتها عام 1975. خصوصاً بعد التجمع الضخم الذي حشده "حزب الله" في الضاحية الجنوبية بمناسبة الاحتفال بذكرى عاشوراء. وكان ذلك بمثابة ردّ مباشر على البطريرك صفير ومستقبليه اختصره السيد حسن نصرالله، الامين العام ل"حزب الله"، بخطاب ناري انتقد فيه مصادري الموقف الوطني الموحّد في حين لا يمثلون في نظره، الا فئة يعوزها الإجماع الشعبي. وخاطب المسيحيين عموماً بلغة الحرص على العيش المشترك، ولكنه حذّرهم من الرهانات الخاسرة مذكّراً زعماءهم بأنهم خسروا في السابق رهانهم على اسرائيل، كما سيخسرون رهانهم اليوم على اميركا. وهكذا وضع نصر الله موضوع الدعوة لانسحاب الجيش السوري، في اطار الدعوة الخاطئة المضلّلة "لأن مصلحة لبنان المحلية والاقليمية، تقتضي بقاء سورية كواجب قومي". وبمثل هذه اللغة تحدث ايضاً السيد محمد حسين فضل الله الذي انتقد اسلوب التعبير عن سحب الجيش السوري، مشدداً على صرف النظر عن حديث ملتهب في زمان ملتهب، طالباً ادارة الحوار بطريقة سياسية لا تثير التعقيدات الطائفية. واعتبر المراقبون ان الطوائف اللبنانية بدأت تمارس مناورات استعراضية سبق ومارستها قبل انفجار 1975، وان عمليات حشد الأنصار ليست اكثر من نماذج عسكرية تستخدمها الجيوش عادة. والدليل ان الزعيم الدرزي وليد جنبلاط جمع بضعة آلاف في ذكرى والده لتحصين طروحاته السياسية بدعم شعبي. كذلك فعل البطريرك صفير الذي طالب بسيادة وطنية محررة من كل تدخل خارجي، امام حشد قدّرته الصحف بمئة وخمسين الف مواطن. كما قدّرت الاعداد الهائلة التي استقبلها "حزب الله" بثلاثمئة الف شخص. ويستدل من هذه المنافسة الحارة ان لبنان لم يبرأ من مرض الطائفية، وان زعماء الطوائف فيه أهم وأقوى من زعماء السياسة. والدليل انهم نجحوا في سحب موضوع الوجود السوري من التداول داخل البرلمان، وطرحوه في الشوارع حيث السجال يرتدي طابع العنف. وقد تكون هذه هي المرة الاولى التي ينتقل فيها "حزب الله" من مهمة حماية الحدود الجنوبية الى حماية الخيار السوري داخل الحدود. ربما أقلق خطاب نصر الله وليد جنبلاط اكثر مما أقلق البطريرك، لأن "حزب الله" أخاف الأقليات الصغرى، وعكس حدة الانقسامات الاهلية، حول موضوع بالغ الاهمية، اي موضوع سيادة لبنان التي ينص عليها المبدأ الاول من وثيقة الوفاق الوطني بالعبارة التالية: "لبنان وطن سيد حرّ مستقل، وطن نهائي لجميع ابنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات، في حدوده المنصوص عليها في الدستور اللبناني والمُعترف بها دولياً". وكما أفشل زعماء الميليشيات خلال سنوات الحرب دعوة ممثلات وممثلي القوى المحايدة مثل الدكتور نجيب ابو حيدر والدكتور منير شماعة ويوسف سلامة ولور مغيزل وزاهية سلمان واميلي فارس ابراهيم، يتخوف السياسيون من فشل مهمة "التجمع الوطني الانقاذي" بسبب افتقاره الى شعبية المؤسسات الطائفية، والى منطق الشحن العاطفي. ذلك ان اللجنة التحضيرية التي تألفت من 59 شخصية بينها الياس سابا ونجاح واكيم وهنري اده وعاصم سلام وغادة اليافي، لم تنجح في اجتذاب اكثر من 300 شخصية في المؤتمر الاول التأسيسي الذي عُقد في قاعة "لونغ بيتش". وقرأت الدكتورة غادة اليافي على الحضور نص مشروع الوثيقة التي تقول: "ان الحروب الاهلية التي شهدها لبنان لم تهدف مرة الصيغة الطائفية وممثليها السياسيين، وانما كانت تعيد انتاج الطبقة السياسية نفسها". وعلى هذه الوتيرة تركزت مداخلات النقابيين وخبراء الاقتصاد والمثقفين والفنانين الذين أجمعوا على ضرورة ابعاد المؤسسات الطائفية عن هذه الحركة السياسية كشرط لضمان نجاحها. ولكنهم فوجئوا بنمو المدّ الطائفي على نحو كاسح لم يعرفه لبنان حتى في مطلع سنوات الحرب. وهم يعتقدون بأن نموذج "القوة الثالثة" سيكون مصدر استقطاب للمؤمنين بأهمية تعزيز الوعي الحضاري المتقدم ضد التشرذم والتفتت الذي احدثه نظام الطوائف والمحاصصة. يبقى السؤال المهم: هل اجهضت استعراضات القوة الشعبية التي قام بها "حزب الله" مبادرة الوزير السابق فؤاد بطرس بعدما حسم التجمع الشيعي موضوع الوجود السوري باخراجه من التداول؟ يقول السياسيون المحايدون ان دمشق آثرت طرح الموضوع من زاوية لبنانية لبنانية كردّ عملي على البطريرك الذي أعلن في بكركي ان غالبية اللبنانيين متفقون معه حول مسألة الانسحاب السوري. ومعنى هذا انها أصبحت اكثر استعداداً لاستقبال البطريرك والاصغاء الى مطلبه، ثم إحالة المسألة الى الاستفتاء الشعبي ما دام انصاره يتهمون دمشق بمصادرة قرار الرئاسة والحكومة ومجلس النواب. وتحاشياً لكل هذه الاشكالات ربما يلبي صفير دعوة البطريرك هزيم الذي باشر هو في دعوة البابا، اضافة الى دعوة رسمية وصلت الى الفاتيكان منذ سنة تقريباً بواسطة سفير سورية في باريس الياس نجمة. خصوصاً وان البابا يوحنا بولس الثاني يريد ختم رسالته بزيارة الاماكن التي ظهر فيها السيد المسيح على المحامي شاوول بولس الرسول الذي أبحر الى بلدة "عمشيت" وتوجه منها الى دمشق لملاحقة المسيحيين واضطهادهم. كما يريد ايضاً تحسين مكانة الكنيسة في العالم الاسلامي عن طريق اجراء مصالحة تاريخية تتمثل بزيارة الجامع الاموي في دمشق، وتقديم اعتذار امام ضريح صلاح الدين الأيوبي عن الحروب الصليبية . وربما استغل هذه المناسبة ايضاً لاجراء مصالحة اخرى بين الرئيس بشار الاسد وبين الزعيم الروحي للطائفة المارونية التي ولدت في دير مار مارون قرب أفاميا على وادي العاصي شمال سورية حوالى سنة 700 ميلادية. روى الرئيس كميل شمعون انه واجه سؤالاً مُحرجاً عندما زار دمشق بعد دخول القوات السورية الى لبنان عام 1976. وكان ذلك يوم استقبله الرئيس حافظ الأسد مع الرئيس سليمان فرنجية والشيخ بيار الجميّل. باشر الرئيس الاسد حديثه بطرح السؤال التالي: فخامة الرئيس، تتحدثون دائماً عن جماعة يتميز بها لبنان... جماعة فريدة... وبعد صمت طويل اجابه شمعون بأن لبنان يضم جماعات كثيرة متميزة وفريدة، ولكنه لا يعلم الهدف من السؤال؟ قال الرئيس الاسد: أعني الموارنة. أليس أفضل ما يفتخر به موارنة لبنان جاءهم من سورية... من أفاميا قرب وادي العاصي؟ وابتسم الرئيس كميل شمعون وردّ عليه مازحاً: انا قلت يا سيادة الرئيس انكم تتدخلون في شؤون لبنان منذ اكثر من الف سنة! وقهقه الاسد ضاحكاً ثم نظر الى فرنجية فرآه هو الآخر غارقاً في الضحك. * كاتب وصحافي لبناني.