ما زال ياسر عرفات، على رغم وفاته قبل ثلاث سنوات، مساهماً وازناً في صناعة اليوميات الفلسطينية، وما زال صوته السياسي العالي، حاضراً بين الأصوات، وما زال كلامه مقدمة أساسية للكلام الذي يأخذ بيد القضية الفلسطينية في مسالكها الوعرة. يختلط الأمر هنا ويتوزع بين ولاء ووفاء للزعيم الفلسطيني الراحل، لكن الأساسي يبقى ماثلاً في المرتبة التاريخية التي احتلها"أبو عمار"كرجل يحسن مخاطبة التاريخ، ويتقن الاستجابة لتقلباته وتطوراته. اكتسب القائد عرفات تاريخيته، من وزن قضيته، ومن وعيه لثقل هذا الوزن، في معادلة الصراع الإقليمية والدولية، وعلى الوزن، أسس وعي شروط الدور الاستثنائي وآليات إدارته، والى ذلك أضاف الصمود الباهر عن ثوابت الموقع، والسعي دائماً الى تطوير الوعي بالقضية الفلسطينية، والنشاط الدائب من أجل توفير مقومات نجاحها... النجاح الذي يتطلب أولاً بقاءها في قلب الصراع، وعدم دفعها الى أطرافه. لقد أدى النهج العرفاتي الى مقولة"الرجل - القضية"، لذلك يقود استحضار الرئيس الفلسطيني الغائب، الى استنطاق المسيرة الفلسطينية الحافلة، إذ من الصعب، كتابة"هذا الرئيس"، بغير الحروف الفلسطينية اللاهبة، أو بعيداً من أسطورة الدم، الذي يقرع، بعناد، واقع الأمل! يُشار، في مقدمة"التاريخ العرفاتي"الى أنه بادر الى جمع السلاح، وهو فتى، لمقاتلي فلسطين، من صحراء سيناء، إبان الحرب العالمية الثانية... وأنه من مطلقي الرصاصات الاستقلالية الأولى في عام 1965، وأنه من المقاتلين في معركة الكرامة، في الأردن، لاستعادة بعض من ملامح الصورة العربية، التي داسها الغزو الاسرائيلي عام 1967، وأنه قائد سياسة التجاوز على الأوضاع العربية التي حولت فلسطين الى مادة إعلامية... وأنه المحاصر الذي لا يلين، سواء كانت رقعة الحصار باتساع مدينة بيروت، عام 1982، أو كانت زنزانة في رام الله، التي لم يغادرها إلا الى... تراب فلسطين. لكن بعيداً من ضيق مساحة تعداد بعض محطات المقدمات، يتسع مدى الإنصاف قليلاً، ليحيط بسنوات الحراك السياسي الصاخب، الذي قاده ياسر عرفات، خصوصاً منذ مؤتمر مدريد في تسعينات القرن المنصرم، وحتى ساعة إعلان جسده"إضرابه"عن مواصلة الصمود... كان"مدريد"فترة ملامسة"الانجاز"الوطني الأول، مثلما كان فاتحة الاجتهادات الخلافية، داخل البيت الفلسطيني، ومع بعض من"أهل الديار"العربية. نشب الخلاف، حول المؤتمر المذكور، بدءاً من تحديد آلياته، وانتهاء باستمرار اعتماده كمرجعية يفيء اليها العرب لدى ارتطامهم بالشروط الأميركية - الاسرائيلية المتبدلة، تبعاً لتبدل موازين القوى. خاضت القيادة الفلسطينية، بزعامة ياسر عرفات، معركة حضور المؤتمر، أي معركة الوجود السياسي، بالشروط المجحفة التي تلاها الاسرائيلي، وتبناها الأميركي، ولم يصارع ضدها العربي... كان ذلك شرط البداية اللازمة، لانتزاع الاعتراف اللاحق بمنظمة التحرير الفلسطينية، ممثلاً وحيداً للشعب الفلسطيني، ومفاوضاً أوحد باسمه. إعادة التذكير الاسترجاعية هذه، هدفها السجال السياسي، المتأخر، ضد مقولة الانفراد، التي رُميت بها القيادة الفلسطينية، وضد ادعاء"بذل الجهود"من أجل وفد عربي موحّد في العاصمة الاسبانية، مدريد، لقد أكدت الأحداث اللاحقة، أن الانفراد كان وجهة عربية عامة، لأن النظام العربي الرسمي، كان، ولا يزال، أعجز من أن يضيف اضافة سياسية وازنة الى الفعل الفلسطيني... وأن التضامن العربي، كان، وسيظل، مطلباً فلسطينياً ملحاً، لأن التضحيات الفلسطينية وحدها، لا تستطيع أن تعدل جوهرياً، في ميزان القوى المختل لمصلحة اسرائيل. محطة مؤتمر أوسلو، كانت تجاوزاً لمؤتمر مدريد، فلسطينياً، ومادة خلافية إضافية، حول أداء القيادة الفلسطينية، وحول جدوى الخط السياسي الذي ارتضت خوض غماره. قاد ياسر عرفات"الفهم"الفلسطيني، الذي اعتبر اتفاق أوسلو محطة انتقالية ضرورية، لضمان النقاش اللاحق في المواضيع الفلسطينية المصيرية النهائية، وذلك في مواجهة فهم فلسطيني آخر، سحب سهولة اتفاق أوسلو، على تسهيل مرتقب من جانب اسرائيل لدى الدخول الى قاعة المفاوضات اللاحقة! كان أبو عمار قائد"النظرة الصراعية"وعلى أساسها بنى حساباته، وبالانشداد اليها أظهر تصلبه، وبسبب ذلك، نسب اليه، البعض، صفة التطرف وإضاعة الفرص، خصوصاً تلك التي روّج لها الأميركيون والاسرائيليون وبعض العرب... بعد مفاوضات كمب ديفيد، وبرعاية الرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون. من كمب ديفيد المشار اليه، خرج ياسر عرفات الى الانتفاضة، لأنه رفض النزول تحت سقف الحد الأدنى من الثوابت الفلسطينية، واحتكم الى ثقة شعبه به، معلناً أنه يخشى هذا الشعب، فيما لو فرّط بالقدس أو غيرها من المصالح الحيوية الفلسطينية. بالمقابل، خرجت اسرائيل الى آرييل شارون، الذي تمسك بالحد الأقصى الاسرائيلي، الذي معناه الوحيد: فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني. وسط هذه الظروف، قاد أبو عمار المواجهة بين الحدين المتناقضين، فلسطينياً واسرائيلياً، وسجل نقلة خطيرة في مسيرة النضال الفلسطيني، عندما ارتضى احتضان الكفاح المسلح، المتحرك فوق أرض الداخل الفلسطيني هذه المرة. كانت"كوفية"ياسر عرفات مظلة الشرعية السياسية الفلسطينية، لكل الفصائل المقاتلة، وكان صبر"القائد"وخبرته، رفيقيه الدائمين، في ادارة العلاقات الدولية والعربية المعقدة... لم تكن النتيجة وردية، للرئيس الراحل، لكن مسلكه تحول الى معلم وشاهد على طريقة أخرى في ادارة الصراع، وعلى تفاعل من نوع مختلف بين"الحاكم والمحكوم"مما لم تعرفه المنطقة العربية، ومما لا يبدو أنها قادرة الآن، على مباشرة الانتساب الى صفوف معرفته. لقد أنصف الموت ياسر عرفات، ولم تنحن مسيرته، أو تكذبها، الأحداث اللاحقة، فقد تكفل الملف الاسرائيلي تظهير المبررات التي كانت وراء ارتضاء الرئيس لحصاره، وها هي السلطة الوطنية الفلسطينية، ترى نفسها مجبرة على المكوث داخل"القفص"العرفاتي، لأنها لا تستطيع مغادرة الثوابت التي صارت مفاتيح وطنية لا بد منها للدخول الى رحاب القضية الفلسطينية من بواباتها. من المفيد التذكير، أن طليعة الثوابت ظلت محفوظة لمكانة القدس، كعاصمة لفلسطين، وأن الوحدة الوطنية ورفض ركوب مركب الحرب الأهلية، يحتلان المقعد نفسه الى جانب مطلب"العاصمة"، كرمز للاستقلالية الفلسطينية، وللحق التاريخي الفلسطيني في ديارهم المسلوبة. من المؤسف القول الآن إن الثوابت اهتزت، بعد ما شهده قطاع غزة وما لحقه من اقتسام فعلي"للسلطة" بدأت بواكيره أيام ياسر عرفات، وظل مكتوماً، في الإعلان، وواضحاً في الميدان، حتى حانت لحظة"الوهم السياسي"القائل بالقدرة على الانفراد بالأوضاع الفلسطينية. يراود البعض سؤال: ما الذي كان سيفعله ياسر عرفات إزاء محاولات الانشقاق السياسي الفلسطيني؟ لكن السؤال الواجب طرحه مسبقاً: هل كان ممكناً الإقدام على الانشقاق أيام"أبوية"أبو عمار الحاسمة؟ أغلب الظن أن تاريخية عرفات كانت قادرة على لجم"سياسات الانتحار الأهلي"، بل المؤكد، أن الفرادة"الأبوية العرفاتية"قامت على سد كل المنافذ أمام هكذا سياسات. هذه الملاحظة، تفتح مجالاً للاستطراد بالاشارة، الى أن البعض نعى على الرئيس الفلسطيني منهج الأبوية المشار اليه، وانتزع نهج القيادة وطريقة ادارة الصراع من سياق التجربة، والواقع، التاريخيين، للشعب الفلسطيني، وفق مسار تطور"اجتماعه"سيكون على هذا البعض، أن يقدم شرحاً للسائد الآن في"المجتمعات"الفلسطينية، في الداخل وفي الشتات، وأن يعللوا فهمهم للتأثيرات المتبادلة بين هذه"المجتمعات"والأوطان العربية الأخرى، وأن يفسروا الروابط والعلاقات التي نشأت في الداخل الذي أخضعه الاحتلال الاسرائيلي طويلاً... كل ذلك، لفتح الباب أمام نقاش مسألة الديموقراطية التي يحتاجها الشعب الفلسطيني فعلاً، بحيث تتجاوز ديموقراطية التسليم بالأمر الواقع، والتنازل عن الثوابت، التي انساق اليها بعض"الديموقراطيين الجدد"، وتتجاوز أيضاً، الارتداد بالواقع الفلسطيني، من طبيعته الجمعية، الى طبائعه الفئوية مثال غزة وتبقى قريبة من المنطق الوطني العام الذي أسست له"أبوية"ياسر عرفات، ودافعت عنه بعناد. بعد رحيل ياسر عرفات، ما الذي يمكن تعديله من منهجه راهناً؟ الأرجح، ليس الشيء الكثير، فالموقف الفلسطيني العام لا يزال عند نقطة الصمود إياها. والقيادة الفلسطينية الحالية مجبرة على التمسك بالإرث العرفاتي، على صعيد إدارة معاركها الديبلوماسية والميدانية وعلى صعيد بناء علاقات"المجتمع"الفلسطيني الداخلية على رغم كل ممارسات بعض"الأبناء الضالين"من حاملي هموم المسألة الفلسطينية. ما مصدر ذلك الثبات مجدداً؟ إنه ثقل القضية الفلسطينية واستعداد الشعب للصبر حتى الانجاز، وعدم التنازل عن الحق في الاستقلال الوطني وتقرير المصير... وإلا فإن معركة الحق الفلسطيني ستظل مفتوحة الى أجيال مقبلة... أجيال تحمل صور"أبو عمار"وتردد كلماته، وتروي أسطورة صموده في متراسه الأخير. * كاتب لبناني