ياسر عرفات بعد عام على رحيله، كأنه في اجازة قصيرة، صورته ناطقة، وصوته واضح النبرة، وإن تعذر الإدلاء بمساهمة عملية مباشرة. لا غرابة في الامر، فالرجل قضية، وتاريخه مشتق من محطاتها، وفرادة قيادته نهضت على مداميك حسن تمثله لهذه القضية، ومرابطته في مواقعها الامامية. استحضار الرئيس الفلسطيني الغائب، يفضي مباشرة الى استنطاق المسيرة الفلسطينية الحافلة، اذ من الصعب"كتابة"ياسر عرفات بغير حروف اليوميات الفلسطينية اللاهبة، وبغير الوجع الفلسطيني الحارق، او بعيداً من اسطورة الدم الذي يقرع باستمرار واقع الأمل! من مقدمات"التاريخ العرفاتي"، انه جمع السلاح باكراً لمقاتلي فلسطين، من سيناء، إبان الحرب العالمية الثانية... وانه من مطلقي الرصاصات الاستقلالية الاولى في عام 1965، وانه من المقاتلين في"الكرامة"لاستعادة بعض من ملامح الصورة العربية التي داسها الغزو الاسرائيلي عام 1967، وانه قائد"التجاوز"على الاوضاع العربية الرسمية التي حوّلت فلسطين مادة اعلامية، من الاردن، ومن لبنان... وانه المحاصر الذي لا يلين، سواء كانت رقعة الحصار باتساع مدينة بيروت عام 1982، او كانت"بيتاً زنزانة"في رام الله التي لم يغادرها الا الى... تراب فلسطين. لا يتسع المقام إلا لتعداد بعض من محطات المقدمات. لكن مدى الإنصاف يتسع قليلاً ليحيط بسنوات الحراك السياسي الصاخب الذي قاده ياسر عرفات خصوصاً منذ مؤتمر مدريد في تسعينات القرن المنصرم، وحتى ساعة اعلان جسده"اضرابه"عن مواصلة الصمود... كانت تلك فترة"الإنجاز"الوطني الاول، مثلما كانت فاتحة الاجتهادات الخلافية، داخل البيت الفلسطيني، ومع بعض من"اهل الديار"العربية. مؤتمر مدريد كان مثار خلاف، بدءاً من تحديد آلياته، وانتهاء باستمرار اعتماده كمرجعية يفيء اليها العرب لدى ارتطامهم بالشروط الاميركية والاسرائيلية المتبدلة، تبعاً لتبدل موازين القوى. لقد خاضت القيادة الفلسطينية بزعامة عرفات معركة الحضور، أي معركة"الوجود"، بالشروط المجحفة التي املاها الاسرائيلي وتبناها الاميركي، ولم يقارع ضدها العربي. كان ذلك شرط البداية اللازمة، لانتزاع الاعتراف اللاحق بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. اعادة التذكير الاسترجاعية هذه هدفها السجال، المتأخر، ضد مقولة الانفراد، وضد ادعاء"بذل الجهود"من اجل وفد عربي موحد في مدريد. الحقيقة التي عادت لتجلوها الاحداث هي ان الانفراد كان توجهاً عربياً، لأن النظام العربي الرسمي كان وما زال اعجز من ان يضيف اضافة سياسية وازنة الى الفعل الفلسطيني... وان التضامن، كان وما زال مطلباً فلسطينياً لأن التضحيات الفلسطينية وحدها لا تستطيع ان تعدل جوهرياً في ميزان القوى المختل لمصلحة اسرائيل. محطة اوسلو كانت تجاوزاً لمؤتمر مدريدفلسطينياً، ومادة خلافية اضافية حول اداء القيادة الفلسطينية، وحول نجاعة الخط السياسي الذي ارتضت خوض غماره. قاد ياسر عرفات"الفهم"الفلسطيني الذي اعتبر اتفاق اوسلو محطة انتقالية تضمن النقاش في المواضيع النهائية مع اسرائيل، وذلك في مواجهة فهم فلسطيني آخر، سحب سهولة اتفاق اوسلو على تسهيل مفترض من جانب اسرائيل في المفاوضات اللاحقة. كان ابو عمار قائداً ل"النظرة الصراعية"، وعلى اساسها بنى حساباته، وبالانشداد اليها اظهر تصلبه، وبسبب ذلك، نسب اليه صف من رفاقه صفة"التطرف"وإضاعة الفرص، خصوصاً تلك التي روّج لها الاميركيون والاسرائيليون وبعض العرب... بعد مفاوضات كامب ديفيد، وبرعاية الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون. من كامب ديفيد المشار اليه خرج ياسر عرفات الى الانتفاضة. رفض النزول تحت سقف الحد الادنى من الثوابت الفلسطينية واحتكم الى ثقة شعبه به، معلناً انه يخاف هذا الشعب لو فرط بالقدس او غيرها. ومن كامب ديفيد خرجت اسرائيل الى ارييل شارون الذي تمسك بالحد الاقصى الاسرائيلي الذي يعادل فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني... قاد ابو عمار المواجهة بين"الحدين"المتناقضين، وسجّل نقلة خطيرة في النضال الفلسطيني باحتضانه السياسي لكفاح مسلح آخر ينطلق من الداخل هذه المرة. كانت"كوفية"ياسر عرفات مظلة الشرعية الفلسطينية لكل الفصائل المقاتلة، وكان صبر ابو عمار وخبرته"رفيقيه"الدائمين في ادارة العلاقات الدولية والعربية المتشابكة... لم تكن النتيجة"وردية"للرئيس الراحل، كما صار معلوماً، لكن المسلك"الوفاتي"تحول الى معلم وشاهد على طريقة اخرى في ادارة الصراع، وعلى تفاعل من نوع مختلف بين الحاكم والمحكوم، مما لم تعرفه المنطقة العربية، وما لا يبدو انها قادرة الآن على مباشرة الانتساب الى صفوف معرفته. لقد أنصف الموت ياسر عرفات، ولم تخن مسيرته احداث العام اللاحقة، وتولى الصلف الاسرائيلي تظهير المبررات التي كانت وراء ارتضاء"الرئيس"لحصاره. ها هي السلطة الوطنية الفلسطينية بعد عام تتخذ الوضعية"العرفاتية"نفسها.: تمسك بالثوابت اياها، من القدس عاصمة لفلسطين الى رفض ركوب مركب الحرب الاهلية الفلسطينية... مؤدى هذه الثوابت السالفة، تحقيق انجاز فعلي يقدم آنياً للشعب الفلسطيني، ويكون مفتوحاً على انجازات لاحقة تمثل الحد الطبيعي والمقبول للحركة الوطنية الفلسطينية، كل ذلك لا يجد مفرداته في القاموس الاسرائيلي، وهو غير مفتوح على التفسير في القواميس الاميركية. لقد خرج العدوان الاسرائيلي من غزة كقوة مادية، وما زال يكرر دخولها كطاقة تدميرية، ولأن غزة غير مدرجة اصلاً في"الاستراتيجيا الصهيونية"فإن الانسحاب منها لا يمثل في"التفكير الاسرائيلي"خطوة تراجعية، بل اجراء وقائياً. على هذا المنوال يريد الاسرائيلي مجدداً ان يسوّق"الموقت"من انسحابه، على انه النهائي من"تقديماته"ومن مبادراته السلمية! هكذا يعود الموقف الفلسطيني الى نقطة"الصمود"اياها، وترى القيادة الفلسطينية الحالية نفسها مجبرة على التمسك بالإرث العرفاتي على صعيد ادارة معاركها الديبلوماسية والميدانية، وعلى صعيد بناء علاقات المجتمع الفلسطيني الداخلية. عليه لا يعود مستغرباً سماع آراء اسرائيلية تجهد بانتفاء الاختلاف بين ياسر عرفات ومحمود عباس، وتعلن ان التبدل"الوحيد"حصل على مستوى اللباس فقط! ما يغيب عن بال اسرائيل، ان الثبات مصدره ثقل القضية، واستعداد الشعب، وضرورة الوصول الى انجاز الاستقلال الوطني، والا فإن معركة تقرير المصير ستظل مفتوحة الى اجيال مقبلة... اجيال تحمل صورة"أبو عمار"وتردد كلماته، وتروي اسطورة صموده في متراسه الأخير. كاتب لبناني.