يحضر الموت في نصوص الكاتب الفرنسي إيمانويل أريك شميدت في شكل دائم على وجه التقريب. الموت، لا كواقعة تحصل للكائن، بل كفكرة فلسفية. وقد يكون هذا من آثار التجربة الروحية التي مر بها ذات ليلة في أحد جبال الشرق الآسيوي. وتجربته هذه تشبه التجربة التي كان مر بها الكاتب البرازيلي باولو كويلو والتي أضحت، بالنسبة إليه، بمثابة"الخيمياء"الروحية فبدلت حياته تبديلاً. كان إيمانويل أريك شميدت في صحبة ثلة من أصدقائه يتسلقون الجبل. خطر له أن يسبق الجميع في الوصول إلى القمة والنزول من ثم إلى السهل ليستريح قبل أي شخص آخر. غير أنه، حين الوصول، ضل الطريق وكان الليل أرخى سدوله. اضطر المغامر أن يقضي الليل وحده. غير أن الحادثة، بدلاً من أن تبعث الرهبة في داخله، فتحت أمامه أفقاً مضيئاً غير مسبوق. لم يكن لديه ما يتدفأ به فحفر الرمل ورقد تحته وأخذ يراقب النجوم بذهول. سحره المنظر البهي. خطر له أن ثمة"رسالة"ما وراء تيهه وحيداً مع الليل والنجوم. حاصرته الأفكار وأخذ يبحث عن قوة تساعده على ترجمة هذا الانخطاف. في تلك اللحظة ولدت رغبة الكتابة في داخله. تسربت سواقي الكتابة إلى الحقل الروحي لذلك الشخص الذي كان حتى تلك اللحظة يبحث عن طريق يتعرف منه إلى ذاته. صار لحياته معنى. منذ تلك الليلة بدأ الشروع في الكتابة الحقيقية كما يقول. كان كتب، من قبل، أشياء اعتبرها من دون قيمة. تلك الليلة حددت مصيره في شكل نهائي:"يتعين عليّ أن أكون كاتباً". غير أن فكرة الموت هي أهم ما طفا على السطح في تلك اللحظات. الموت المخيف لم يعد مخيفاً. لم يعد يشكل، بالنسبة اليه، نهاية قاسية، بل غدا بداية مفاجئة مدهشة. تلك الليلة الغامضة انطبعت في ذاكرته وسرعان ما تمخضت فول!دت مسرحيات وقصصاً وروايات وسيرة ذاتية ومقالات تكاد، كلها، تحفر في الأرض ذاتها: أرض التأمل. لكن التعرف إلى الموت سبق تجربة الليلة الغريبة تلك بزمن. حين كان طفلاً كان يقضي وقتاً طويلاً في المستشفى، لا لأنه كان مريضاً بل لمرافقته والده الذي كان يعمل معالجاً فيزيائياً في مركز للصم والبكم للأطفال. أول انطباع خالجه من زيارته الأولى لوالده في مراكز عمله هو الخوف. الخوف من الأطفال الذين كانوا في وضع مختلف. الخوف من المرض الذي قيّدهم إلى ذلك المكان. هناك تعرف إلى هؤلاء الأطفال وأصبح صديقاً لهم. كبر في جو كانت الأمور فيه غير طبيعية. هناك كان الأطفال يختفون ليس لأنهم يعودون إلى بيوتهم بل لأنهم يموتون فيختفون الى الأبد. تعرف الصبي إلى الموت عن قرب وغدا شيئاً قريباً منه. هذه الوقائع حاكت، إلى حد كبير، القماش الكتابي للمؤلف الذي ولد عام 1960 ودرس الأدب والموسيقى قبل أن يتخرج في الفلسفة من المدرسة العليا في ليون. بدأ الكتابة في ميدان المسرح بمسرحية"الزائر"حيث يدور حوار بين سيغموند فرويد وشخصية أخرى. ثم تلاحقت مسرحياته. وحصل أريك شميدت على جوائز كثيرة بما في ذلك جائزة الأكاديمية الفرنسية للمسرح. ولكن أكثر القراء يعرفونه من خلال رواياته القصيرة التي تباع بنسخ كثيرة وتترجم إلى مختلف اللغات. من هذ القصص:"أوسكار والسيدة القرمزية"وپ"مسيو إبراهيم وزهور القرآن"وپ"ابن نوح"وپ"ميلاريبا". كما أنه ألف في مجال السيرة الذاتية كتاب"حياتي مع موتسارت". كتب أيضاً وأخرج فيلماً بالرسوم المتحركة عرض في التلفزيونات الأوربية بعنوان"أوديت تولموند". هو يعيش الآن في بروكسيل في بلجيكا. في مقابلة معه يقول إيمانويل أريك شميدت: أسوأ شيء بالنسبة الى طفل مريض في المستشفى ليس الألم أو الخوف بل العزلة. هذا هو حال الصبي الصغير أوسكار، بطل قصته"اوسكار والسيدة الزهرية". وحيداً، يرقد أوسكار في المستشفى. هو يرقد هناك، بعيداً من أهله بلا أمل في أن يرجع إليهم. إنه هنا ليس بأمل الشفاء بل بانتظار أن يأتي الموت ليأخذه. وحدها الممرضة التي ترتدي الصدرية الزهرية، تهتم به وتغدق عليه بالحنان. هي التي تمده بالورق والقلم ليكتب رسائل قصيرة لربه:"عزيزي الرب، أنا اسمي أوسكار وعمري عشر سنوات. يروح أوسكار يحكي لربه عن كل شيء. عن مرضه وآلامه ووحدته وأبويه اللذين يزورانه بين الفينة والفينة ولكن يتجنبان البقاء معه طويلاً لئلا يريا الحال الذي هو عليه. يكتب أوسكار الرسائل ليبث شكواه إلى ربه لأن ليس له أحد غيره يستمع إليه. ولكنه يفعل ذلك، بوعي أو من دون وعي، تمضية للوقت في انتظار الموت. أيامه الباقية في الدنيا معدودة وعليه، قبل أن يختفي من الوجود، أن يقص حكايته. العزلة تصيب الفتى الصغير جوزيف، أيضاً، بطل قصة"ابن نوح". جوزيف، الصبي البالغ سبعة أعوام يضطر للاختباء ويترتب عليه ألا يتكلم قط عن ماضيه وألا يكشف عن مشاعره وألا يلفظ اسمه. هو صبي يهودي دخل مدرسة كاثوليكية داخلية، في بلجيكا، بعد أن أنقذه، من فرق الموت النازية، كاهن مسيحي. أخذ الكاهن على عاتقه الحفاظ على التراث اليهودي وذلك بأن ينقله إلى الأطفال الذين أنقذهم من الموت في المحرقة. في السرداب السفلي للكنيسة أقام الأب كنيساً خاصاً لليهود. هناك يتعلم ويعلم التوراة والكابالاه والنصوص اليهودية الأخرى. لا ينقذ الأب الصبي جوزيف وحسب بل يعيد إليه توازنه ويلقنه تعاليم التوراة التي كان سيتلقاها من أهله لو لم تأخذهم المحرقة. الصبي موسى، في قصة"مسيو إبراهيم وزهور القرآن"، وحيد هو الآخر بعد أن ترك أباه الفظ وأخذ جانب الحانوتي إبراهيم، الذي يملك دكاناً في زاوية الشارع. موسى، المتوفاة أمه يفتقر إلى الحنان والرعاية. كان يفتقده ميلاريبا أيضاً. وميلاريبا نص مسرحي في واقع الحال غير أنه مونولوغ طويل شبيه برواية قصيرة أو قصة طويلة. قصة كاهن بوذي يمكث على قمة جبل في التيبت. يبدأ المونولوغ في رواق كنيسة للرجوع إلى ذلك العالم السحري الغامض في بلاد البوذيين الأصلي في قمم جبال الهمالايا. غير أن الحديث يعكس الحال في قمة روح الإنسان، هناك حيث الخير والسعادة الداخلية العميقة. التأمل من أعالي جبال التيبت ومن أعالي جبال الروح يدفع إلى البحث عن سبيل الخلاص في هذا العالم. ولكن من هو ميلاريبا حقاً؟ هو شخص انتقل من الحد الأقصى في الشر إلى الحد الأقصى في الخير. كان شقياً، عاصياً، لصاً، قاطع طريق ثم اهتدى إلى النيرفانا في داخله فتحول إلى قديس. الشخصيات الكبيرة أشبه بلاعبي الأكروبات يستهويهم البقاء على الحبل المشدود الممدود بين الحدين. من طرف يقفزون إلى الطرف الآخر في رحلة بالغة الخطورة تكلفهم أحياناً أرواحهم. إنهم في بحث دائب عن السعادة من قلب البؤس وعن النجاة من رحم التهلكة. كتب إيمانويل النص بعد أن شاهد عرضاً مسرحياً للمخرج برونو إبراهام كريمر. كان العرض عبارة عن مونولوغ طويل يؤديه ممثل بارع. المونولوغ مأخوذ من الكابالاه حول أسطورة الغوليم اليهودية. سحره العرض المسرحي فاندفع إلى غرفة الممثلين وهناك أخذ كريمر في حضنه. صارا صديقين. نص ميلاريبا كتبه هدية لكريمر. كلاهما مأخوذ بالسحر والدين والفلسفة والطاقة الروحية التي تختفي في مكان ما. علينا أن نبحث عن تلك الطاقة. هذا هو الدرس الذي يبثه إيمانويل في نصوصه. مثلما يفعل باولو كويلو. ثمة إشارات مبثوثة هنا وهناك ويتعين علينا الذهاب إليها. تماماً مثلما يقترح نص الخيميائي. ليس غريباً أنه كتب نصوصاً أدبية تنهل من الفلسفة واللاهوت:"طائفة الأنانيين"وپ"الإنجيل تبعاً لبيلاتوس"وپ"الداعرة"وسواها. تعلم من ديديرو والفلاسفة التنويريين الحرية والجرأة. غير أنه لا يمكث طويلاً عند النص الدوغمائي بل سرعان ما يهرب إلى النصوص الجانحة، الهرطوقية، تلك التي تحلّق في سماء الرؤيا الحالمة والتأمل الحر. لهذا تعلق بالصوفيين الكبار في كل الأديان. ولد إيمانويل أريك شميدت في عائلة ملحدة. وجرى تعميده وفاء للتقاليد فحسب. ثم أرسله أهله إلى مدرسة يوم الأحد لأن"من المهم أن تعرف التاريخ قليلاً"كما قالوا. في المدرسة تعرف إلى اللاهوت والفلسفة والعقيدة والإلحاد. قرأ نيتشه، وفرويد وسارتر ومن ثم استدار نحو ديكارت وكيركغهارد وليبنتز. منذ ذلك الحين وهو يتأرجح بين الشك والإيمان متأملاً في مصير الكائن البشري الذي، على رغم عمره القصير في هذه الدنيا الفانية، يواجه من العذابات والأهوال، في الروح والجسد، ما تعجز عن حمله الجبال.