للمرتاد المكتبات الباريسية، أو سواها من المكتبات الفرنسية، سهولة أن يلاحظ طغيان حضور أسماء بعينها في الواجهة وما بعدها بقليل. والمحصلة أربعة أسماء تتكرر هنا وهناك يقبل عليها القراء من دون تردد. أربعة مؤلفين لا يجمع بينهم سوى أنهم جميعاً يكتبون الرواية. من بعد هذا يختلفون في كل شيء: في مواضيع رواياتهم وفي الآراء الخاصة وفي مسلكياتهم الفردية وعلاقاتهم بالناس والمجتمع والعالم من حولهم. أولهم، أريك إيمانويل شميدت، يكتب في الدين والروح. الثاني، ميشيل هويلبك، يقارب الدنيا الفانية والجنس. الثالث، ماكسينس فيرمين، يذهب صوب الملحمة والأسطورة. آنا غافالدا، هي الطرف الأخير في هذه الرباعية المتنافرة، تخاطب التعب اليومي والعيش العادي. وفي حين تدور روايات أريك شميدت في فلك الطفولة والقدر والموت والشك والقلق الوجودي، فإن روايات ميشيل هويلبك، بالعكس، تحتفل بالحياة والمتعة وتنهمك في النقاش اليومي الصاخب عن قضايا راهنة. مثله تلاحق آنا غافالدا التفاصيل الصغيرة في العيش اليومي الرتيب والممل. أما ماكسينس فيرمين فيمضي إلى البعيد الأقصى، في المكان والزمان. يذهب صوب اليابان والصين والأصقاع المجهولة ويرجع إلى الوراء ليحكي عن نابليون وحروب الأفيون والصراعات التاريخية بين الأمم والشعوب. روايات أريك شميدت بسيطة ومعقدة في آن معاً. يدور السرد الهادئ حول الوجود البشري والنفس الإنسانية. يشتبك الراوي مع الحياة والموت. باع المؤلف حتى الآن أكثر من سبعة ملايين نسخة من كتبه التي تتراوح بين المسرح والنثر شبه الروائي. إنه يلاحق معضلات الإيمان والشك والموت والبقاء والشر والخير والحب والكره. كتبه يكمل بعضها بعضاً وتبدو كأنها فصول في كتاب واحد. "السيد إبراهيم وزهور القرآن"تشبه"أوسكار والسيدة القرمزية"وكذلك"أبناء نوح"من جهة المناخ والشخصيات والموضوع والسرد. وروايته الأخيرة"حياتي مع موزارت"تكاد تتبع الأثر نفسه. هناك دائماً البطل الصغير، الفتى الحائر، الذي أوقعته الحياة الصعبة في شبكتها الآسرة. هناك ذلك الانشداد الروحي نحو الروح والدين. هناك سعي الفتى إلى مخاطبة الله والتوجه إليه بالشكوى والعتاب، في هيئة رسائل مؤثرة تنضح بالحب والألم. موسى أو مومو، كما ينادى، هو الصبي اليهودي البالغ الثانية عشرة من عمره، يسكن الشارع الأزرق في حي باريسي، وقريباً من بيتهم تقوم"بقالية"السيد إبراهيم، العربي، الساكن هنا منذ أمد بعيد. ولكن الأشياء قد لا تكون كما تلوح في الواقع. فالأرجح أن الصبي ليس يهودياً والبقال ليس عربياً والشارع ليس أزرق والحي ليس باريسياً. قد تكون الوقائع مجرد صور خادعة. بل قد تكون الأشياء معكوسة تماماً. فربما كان الصبي عربياً والبائع يهودياً والحي ألمانياً... إلخ. وليس من دليل على ثبوت شيء على ما هو عليه. الأشياء تتأرجح ويلفها الغموض. ومع هذا، فإن الغموض ينطوي على مخزن للصور التي تنمطت وترسخت في الذاكرة. ذاكرة الكتب. ذاكرة الحكايات الشعبية. ذاكرة التصورات الجاهزة التي تجافي حقيقة الكائن البشري. الصبي الصغير أوسكار في"أوسكار والسيدة القرمزية"مصاب بمرض عضال يعرف الجميع أنه سيموت. هو أيضاً بات يعرف ذلك وبهذا أخذ يبعث رسائل قصيرة ولكن حزينة إلى الله. والفتى الصغير جوزيف في رواية" أبناء نوح"يضطر للاختباء في مكان آمن بعيداً من أعين أولئك الذين يمكن أن يأخذوه ليلقى حتفه. في"حياتي مع موزارت"يخبرنا السارد أن موزارت أنقذ حياته، فقد كان على وشك الانتحار في سن الخامسة عشرة. شأنه شأن أوسكار وجوزيف، فإنه يخاطب موزارت في شكل رسائل: في موسيقاك أسمع أغنيتين: أغنية الخلق وأغنية الله. بالعكس من شميدت يدير ميشيل هويلبك وجهه صوب الدنيوي بأفصح معانيه. يخوض في الملموس والحسي. يكتب بشبق عن اللذة في العيش والجنس والسجال والأفكار. يوصف بأنه تسونامي أدبية: تترجم كتبه في وقت واحد إلى كل اللغات الأوروبية وتباع بملايين النسخ وتقوم وسائل الاعلام المسموعة والمرئية بتغطية واسعة لنتاجاته حال صدورها. تتصارع دور النشر على شراء حق نشر كتبه"مثلما تتصارع النوادي الرياضية على شراء نجوم كرة القدم". كتابته بزنس. نال جائزة شوبنهاور في اسبانيا وجائزة دبلن في ايرلندا. فاتته جائزة غونكور حتى الآن. آراؤه المتطرفة وسلوكه الغريب وأفكاره غير العادية تجعله في دائرة الضوء أكثر مما تفعل كتبه. الهجوم على الإسلام. الدفاع عن البغاء. الترويج لسياحة الجنس. التبشير بدين جديد. التنبؤ بمستقبل البشرية. الاهتمام بالجينياتيك والخيال العلمي. هذه مواضيعه المفضلة. أعماله مترجمة إلى 63 لغة. أقواله مثيرة للاستفزاز: يعيش في إيرلندا الشمالية للتخلص من دفع الضرائب. يقول ناشره الإسباني خوان غونزاليس انه أكبر كاتب فرنسي في عصرنا. ولا يتردد بعضهم في مقارنته بكامو وسارتر. روايته الأخيرة"احتمال جزيرة"تعاود طرق المواضيع المعهودة: الجنس، المال، السياسة. وبطلها شخص شوفيني وتهكمي يفتقر إلى الرحمة ولا يسعى إلى كسب أي تعاطف. الديانات في رواياته تحتضر ويحتاج الأمر إلى أشكال جديدة من العقائد مثل التصورات العلمية وطائفة الرائيل. يهتم كثيراً بالخلاصات المتطرفة للعلم من قبيل الاستنساخ البشري. يكذب في شأن يوم ميلاده الحقيقي، إذ يعمد إلى تصغير عمره. برجه هو برج أسامة بن لادن كما تقول الفلكية فرنسواز هاردي. يقول هويلبك: جئت لأبشر بالموت وأنشر الهلاك. يصفه بعضهم بأنه فاشي، ستاليني، كاره للإسلام، عنصري. الحقيقة فاضحة، يقول، ملمحاً إلى أن المرء مدفوع بدافع داخلي إلى قول الأشياء عارية من دون مواربة أو مداهنة وأن التكلف الاجتماعي المصطنع هو الذي يحول دون الخوض في لب الأشياء عارية من كل رداء. هل للحياة الخاصة لهذا الكاتب، المولود عام 1958، أثر في ما يكتبه؟ ربما. هو كان تزوج من زميلة في الدراسة وأنجب منها ولداً قبل أن ينتهي زواجهما إلى الفشل. وقد تعرض نتيجة ذلك لأزمة نفسية دخل على أثرها إلى مصح نفسي. ويبدو أن هذه الحادثة تشكل الخلفية لكل كتاباته. تولدت عنده نزعة تدميرية تجره إلى فضح كل شيء والتهكم من كل شيء وكل شخص بمن في ذلك من هم حوله وحتى من نفسه ومن القراء معاً. كان ماكسينس فيرمين بلغ الثلاثين من عمره حين أصدر روايته الأولى"ثلج"عام 1999. وهو ما لبث أن أصدر أخريين:"الكمان الأسود" وپ"أفيون". لفتت هذه الروايات الأنظار إليه كأحد الروائيين الجدد الموهوبين في فرنسا. روايات قصيرة، قليلة الصفحات، تمكن قراءتها في جلسة واحدة. وهي خالية من الصور المبتكرة واللغة الأدبية الباذخة. روايات سهلة القراءة، بسيطة. ومع هذا فقد أقبل عليها القراء بحماسة ومحضها النقاد الاستحسان والتشجيع. يتمتع المؤلف بموهبة واضحة في سبك المتن الروائي. كما أنه يجعل من البساطة فنّاً يضفي على اللغة رشاقة حتى تبدو العبارات، بسهولتها وكثافة قولها، قريبة من مقاطع شعرية. وشيء آخر يساهم في الانجذاب إلى كتابته: الحكايات الغريبة التي تطلع من التاريخ البعيد وتقع في الأماكن القصية. ثمة حضور دائم للأسطورة والملحمة والتاريخ. في رواياته الثلاث، يعتمد ماكسينيس فرمين على تقنيات الحكايات المتداخلة حيث تقود القصة إلى قصة أخرى وينفتح السرد على مفاصل متشابكة بحيث يبدو الأمر، في الأخير، وكأنه يتعلق بلغز يبحث عن حل. ها هنا أثر من ألف ليلة وليلة. وقد يكون هذا الأثر وراء تعمد الذهاب إلى الأماكن القصية ركضاً وراء الغرائبي والأكزوتيكي. يحضر التاريخ ويحضر المكان البعيد، اليابان وإيطاليا والصين. يصفي الكاتب التاريخ. يرقق أطرافه. يحرره من الحدث ويحوله إلى إطار جمالي للوحات كتابية دقيقة. تبدو الروايات وكأنها حلقات مسلسلة في نص كتابي واحد. ثمة تشابه في الأجواء وأسلوب السرد وطريقة استحضار التاريخ. آنا غافالدا تشبه كتبها. ثمة حزن وأسى وشجن. في رواياتها حياة رتيبة هادئة مسكونة بالأليف والعادي والقريب. حياتها مثل حياة أبطالها. عاشت في أسرة متوسطة الحال ثم انفصل أبواها فاضطرت للعيش مع جدتها. بدأت تعيش منطوية تقرأ وتحلم. كبرت وتزوجت ولكنها، مثل أمها، انفصلت عن زوجها وأخذت تكتب وتعتني بأطفالها. روايتها"كنت أحبه"تسرد شيئاً من هذا القبيل. إمرأة مطلقة مع طفليها تمارس عيشاً رتيباً موزعة بين المطبخ والصالون. تتكلم مع والد زوجها في حوار حنون ونوستالجي. أربعة روائيين وأربعة اتجاهات. ذلك ما يتصدر اهتمام القارئ الفرنسي. كأن هؤلاء يستنفدون ما في نفس القارئ وذائقته من تعدد في مشارب العيش.