حين صوت مجلس الشيوخ الأميركي في 26/9/2007 على قرار بتقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات، شيعية وسنية وكردية، كان هذا تعبيراً عن اتفاق نادر بين الحزب الجمهوري في السلطة والحزب الديموقراطي في المعارضة انعكس في حصول القرار على 75 صوتاً لصالحه مقابل 23 ضده. وتراوحت ردود الافعال على هذا القرار بين اتجاهات شتى. الاتجاه الأول لم يعط قرار مجلس الشيوخ الأميركي أهمية كبيرة، استنادا إلى أن القرار صدر بصفته غير ملزم للإدارة الأميركية، وإلى أن الإدارة نفسها عارضته، سواء على مستوى البيت الأبيض أو مستوى السفير الأميركي في بغداد. فوق هذا وذاك فقد واجه القرار رفضاً سريعاً من رئيس الحكومة العراقية ومن المرجع الشيعي البارز علي السيستاني في مقابل ترحيب القيادة الكردية في شمال العراق. هناك اتجاه آخر رأى أن الإدارة الأميركية، وإن عارضت القرار علناً، إلا أنها لم تبذل جهداً جاداً في معارضته داخل مجلس الشيوخ خلال عملية المشاورات، ما قد يعني أن صدور القرار ربما يكون مفيداً للإدارة بطريقة غير مباشرة، من حيث رسالته التهديدية الضمنية للقوى السياسية الحاكمة في العراق حتى تبذل جهدا أكبر لتهدئة العنف الموجه ضد القوات الأميركية في العراق. والشيء نفسه ينطبق على الدول المجاورة للعراق، والتي تسعى الإدارة الأميركية إلى حشدها لتلعب دورا أكبر للتهدئة داخل العراق، لأن البديل سيكون تقسيم العراق وهو تقسيم لا بد بالضرورة أن يكون طافحا بدمويته على الدول المجاورة للعراق ذاتها. هناك اتجاه ثالث رأى أن صدور قرار بتقسيم العراق من مجلس الشيوخ الأميركي ربما تستخدمه الإدارة الأميركية عملياً كبالون اختبار لفكرة مطروحة أميركيا منذ سنوات بشكل متقطع وتريد الإدارة الأميركية الحالية أن تمتحن بها مواقف الأصدقاء والخصوم. لكن النظرة الأشمل لقرار مجلس الشيوخ الأميركي قد تساعد على وضعه في الإطار الصحيح. فمشروع القرار تبناه من الأصل جوزيف بايدن العضو البارز في مجلس الشيوخ الأميركي وهو في الوقت نفسه أحد مرشحي الحزب الديموقراطي للرئاسة، وشاركه في إعداده ليزلي جيلب الرئيس الأسبق لمجلس العلاقات الخارجية في نيويورك. ومع أن فكرة تقسيم العراق التي يدعو إليها القرار كانت متداولة أميركيا منذ نحو سنة، إلا أنها تعود إلى الأسابيع الأولى للغزو الأميركي للعراق في آذار مارس سنة 2003. في حينها كان ليزلي جيلب نفسه هو أول من كتب متنبئاً بأن الحل النهائي للمسألة العراقية سيكون تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات، شيعية وسنية وكردية. وقتها بدت تلك الدعوة صادمة ومفاجئة حيث الموقف الرسمي الأميركي كان يتحدث فقط عن تحويل العراق، كدولة مركزية موحدة، إلى منارة للديموقراطية تقتدي بها دول المنطقة. مع ذلك ففي حينه أيضا انطلقت أصوات أميركية أخرى من المحافظين الجدد تدعو إلى، وتدعم، التوجه إلى تقسيم العراق بحجة أن العراق كدولة مركزية موحدة هي كيان حديث النشأة خلقته المصالح البريطانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى تعبيرا عن أمر واقع جديد يخدم مصالح الإمبراطورية البريطانية. وبما أن بريطانيا الإمبراطورية تراجعت في الشرق الأوسط منذ وقت طويل، والآن تتقدم الإمبراطورية الأميركية كي تضع أيديها على هذه المنطقة، فمن اللازم أن تبادر أميركا إلى تغيير الأمر الواقع البريطاني ليصبح أمرا واقعا مختلفا يخدم المصالح الجديدة لأميركا في طبعتها الإمبراطورية المستجدة. وفي حينها، خصوصا في سنتي 2003 و2004، كانت صحيفة"وول ستريت جورنال"الأميركية هي المنبر الذي تتلاحق فيه دعوة"المحافظين الجدد"إلى تقسيم العراق. في أرض الواقع أثارت تلك الدعوة تخوفات حقيقية في منطقة الشرق الأوسط وتحديدا في دول بعضها حليف للولايات المتحدة. من تلك الدول تركيا مثلا، التي رأت أن أي تقسيم للعراق سيفتح بالتأكيد شهية أكراد تركيا من جديد للانفصال عن تركيا والانضمام إلى الكيان الكردي المستقل الوليد في شمال العراق. مصر والسعودية أيضاً عارضتا أي تقسيم للعراق، وكررتا هذا الرفض في مناسبات عديدة، آخرها في أعقاب صدور قرار مجلس الشيوخ الأميركي الأخير بتقسيم العراق. وحينما قدمت"مجموعة دراسة العراق"برئاسة جيمس بيكر ولي هاملتون تقريرها إلى الإدارة الأميركية في 6 كانون الأول ديسمبر الماضي تمخض التقرير عن 79 توصية في أساسها رفض تقسيم العراق، وحذرت المجموعة في تقريرها من أن أي تقسيم للعراق يمكن أن يتسبب في هجرة جماعية للسكان وانهيار قوات الأمن العراقية الهشة وعمليات تطهير عرقي على أيدي الميليشيات. ومع أنه جرى تشكيل اللجنة أصلا من خمسة أعضاء من الحزب الجمهوري وخمسة من الحزب الديموقراطي رغبة في التعبير عن توافق سياسي عريض بالنسبة للمسألة العراقية، إلا أن الإدارة الأميركية لم تبد في أي وقت أي قدر من الحماس للجنة أو تقريرها أو توصياتها. مع ذلك استمر الموقف الرسمي الأميركي حريصاً على عدم الاقتراب من فكرة تقسيم العراق، مفضلاً بدلاً من ذلك التغطي بالدستور العراقي الذي كانت أميركا نفسها هي القوة الدافعة في صوغه وإصداره، ثم أقره العراقيون في تشرين الأول أكتوبر سنة 2005 أخذاً بفكرة الفيديرالية كأساس جديد للدولة العراقية، إلا أنه في الممارسة العملية طرح هذا الدستور مشاكل جديدة أكثر مما قدم حلولاً لمشاكل قائمة واستمرت صياغته الأميركية مستعصية على التجذر في التربة العراقية رغم كل المقويات الاصطناعية. لكن التربة العراقية شهدت عملياً دفعاً قوياً منهجياً نحو إعادة الفرز والتقسيم. لم تكن هناك مشكلة في الشمال الكردي الذي يمارس استقلالية فعلية على أرض الواقع منذ سنة .. ووصل الكيان الكردي في شمال العراق حالياً إلى أن أصبحت له حكومته المستقلة وبرلمانه المستقل وعلمه المستقل وإيراداته المستقلة وحتى قوات أمنه المستقلة التي ترفض وجود أي قوات أمنية أو عسكرية، ولو رمزية، من الشرطة والجيش العراقيين بل إن العكس جرى حينما ذهبت قوات من الميليشيات الكردية إلى قلب بغداد للمشاركة في أمن العاصمة. وفوق هذا كله فإن الإقليم الكردي في العراق أصبحت له لغته الرسمية الخاصة الكردية ويمنع استخدام أو تعليم اللغة العربية وهي مسألة يتفادى أعضاء الحكومة العراقية مناقشتها حينما يزورون دولاً عربية. وزاد على ذلك أن دخلت كردستان العراق في اتفاقات بترولية مع شركات أجنبية من دون إخطار أو موافقة حكومة بغداد أو الحصول على تصديق برلمان بغداد. بل إن لإقليم كردستان العراق مطاراته الخاصة التي يستخدمها وصولاً إلى - واستقبالاً من - دول أخرى من غير تدخل أو علم سلطات الدولة في بغداد. وفوق هذا كله فإن لدى الولاياتالمتحدة قواعدها العسكرية الخاصة في إقليم كردستان العراق، وهي أقيمت على أساس أنها تعبير عن وجود عسكري أميركي دائم لا يرتبط بأي مجريات أخرى في العراق، الآن أو مستقبلا. هذا يعني أن الثلث الشمالي من العراق أصبح - برعاية أميركية - منفصلاً ومستقلاً فعلاً ولا ينقصه سوى اعتراف دولي وعضوية الأممالمتحدة. أما باقي العراق فقد ابتكرت له السياسة الأميركية علاجا لم يخطر على بال الإمبراطورية البريطانية سابقاً ولا حتى أي امبراطورية أخرى في التاريخ. فإلى جانب 160 ألف جندي أميركي يمثلون الاحتلال الأميركي رسميا في العراق يوجد 120 ألفاً من المرتزقة الذين تعاقدت معهم نحو مئة شركة اختارتها وتعتمد عليها وتمولها وزارة الدفاع الأميركية وتحتفظ ببياناتهم ومهماتهم سرية حتى عن الكونغرس الأميركي. هؤلاء المرتزقة مسلحون بالكامل ولديهم في بعض الحالات طائرات هليكوبتر وشبكات اتصال خاصة متطورة كما هي الحال بالنسبة لمستخدمي شركة"بلاك ووتر". وهم لا يخضعون في ممارسة مهماتهم لأي ضوابط ولا يحتسب ضحاياهم ضمن الأرقام الرسمية الأميركية، لأنهم رسمياً غير موجودين. فالفكرة كلها من الأساس هي أن وزارة الدفاع الأميركية تريد أن تكلفهم بالمهمات التي لا تريد تحمل مسؤوليتها وعواقبها علناً. وقبل مغادرته أصدر بول بريمر الحاكم المدني الأميركي للعراق مرسوماً خاصاً رقم 14 لسنة 2004 بضمان وجود حصانة خاصة وكاملة لشركات الأمن الخاصة تلك وللمرتزقة الذين تستخدمهم بما يجعلهم غير خاضعين بالمرة للقوانين أو السلطات العراقية مهما ارتكبوا من جرائم. وحينما هدد رئيس وزراء العراق أخيراً بسحب الترخيص من شركة"بلاك ووتر"عقب إحدى جرائمها كان الرد عليه بسيطا وحازما: أنت لا تملك سحب ترخيص الشركة لأنها من الأساس لم تحصل على أي ترخيص من أي سلطة عراقية. حصلت فقط على تكليفات من وزارة الدفاع الأميركية، وهي مستمرة في العمل بغض النظر عن أي جرائم ترتكبها. من المهمات المسندة إلى تلك الشركات ترويع السكان المحليين بما يؤدي بالتدرج إلى نزوح الشيعة بعيداً عن مناطق السنة ونزوح السنة بعيداً عن مناطق الشيعة، وهو ما يخدم عمليا سياسة تقسيم العراق. وإذا كانت العملية لم تكتمل بعد حتى الآن فلوجود اختلاط كبير تاريخيا بين الطوائف العراقية بدءا من العاصمة بغداد التي يسكنها خمسة ملايين شخص. لكن حتى هنا دفعت أعمال العنف الدموي المجهولة المصدر إلى قيام القوات الأميركية بفرض أسوار محيطة ببعض الأحياء بحجة حمايتها ولكن السكان يرون أن الهدف عزلها. وذكر بعض مؤيدي قرار مجلس الشيوخ الأميركي بتقسيم العراق أن أملهم هو أن يحقق هذا القرار ما نجحت في تحقيقه اتفاقات دايتون 1995 التي هندستها الولاياتالمتحدة لتقسيم البوسنة بين عناصرها الثلاثة المتخاصمة: الصرب والكروات والمسلمين. لكن اتفاقات دايتون تلك كانت في الواقع ذروة التدخل الأميركي لتفكيك دولة يوغوسلافيا الاتحادية. ذلك التفكيك بدوره كان قفزة أميركية أرادت بها الولاياتالمتحدة استثمار انتهاء الحرب الباردة وانكماش موسكو إلى طبعتها الروسية الجديدة انفصالا عن طبعتها السوفياتية السابقة وصولاً إلى دخول غير مسبوق لقوات حلف شمال الأطلسي إلى كل يوغوسلافيا السابقة. في العراق لم تعد السياسة الأميركية تخفي أن هدفها هو البقاء العسكري الدائم باتفاقات طويلة المدى. ولأن إحدى مهمات هذا الوجود ستكون الضغط على بعض الدول المجاورة تأكيداً وتجديداً لسيطرة أميركية على بترول المنطقة فإن السؤال هو: هل البقاء عسكرياً في عراق مقسم هو الأكثر أمنا والأقل تكلفة بالنسبة لأميركا؟ وهل انشغال العراق المقسم بعضه بعضاً تراه السياسة الأميركية تأميناً إضافياً لها في وجودها الإمبراطوري المستجد؟ سوف نرى. * كاتب مصري