يحظى الجزء الثاني من مسلسل"باب الحارة" للمخرج بسام المللا، المتخصص في استعادة البيئة الشعبية الشامية، بمتابعة واسعة. هذا الحكم لا يقوم على إحصاء دقيق، وإنما يمكن الاستدلال عليه من خلال الأحاديث التي تدور في المقاهي، وأماكن العمل، وعبر الهاتف، وكذلك من خلال التقارير والمتابعات الصحافية. والسؤال ما السر وراء هذه المتابعة؟ لطالما عرفت البيئة الشامية، خصوصاً مرحلة العشرينات التي يتناولها العمل، بالانغلاق والتزمت والخشية من كل جديد، وطارئ، فالحياة التي كانت تسير بصخب خلف الجدران العالية، وتسيل بعذوبة حول"البحرة"التي تتوسط فناء المنازل، يصعب معرفة تفاصيلها. حتى أن مصمم أزياء المسلسل، حكمت داوود، أقر بما لاقاه من"معاناة لمعرفة شكل وطبيعة الألبسة التي كانت ترتديها المرأة الشامية داخل الأسوار العالية"، فالمرأة في الخارج كانت تلبس السواد من الرأس حتى أخمص القدمين، أما في الداخل فلا مصادر أو مراجع أو صوراً توثق ذلك! حين يتصدى عمل درامي لاقتحام تلك العزلة، وخرق المحظورات الكثيرة المتمثلة في العادات والتقاليد والأعراف التي كانت تتمتع بسطوة طاغية، فإن ذلك يخلق فضولا للمراقبة. ولكن هل استطاع المسلسل، الذي اقترب من حلقاته الأخيرة، ان يحقق هذا الاقتحام، وذلك الخرق؟ المسلسل لا يخرج في تركيبته، وبنائه الدرامي عن الجزء الأول، وبدا ان نجاح الجزء الاول النسبي، كان الدافع الرئيس لإنجاز جزء ثان، إذ يكتفي المخرج برصد جانب من تفاصيل البيئة الشعبية الشامية، ويركز على ثرثرات النساء، وطقوس رمضان والعيد، والمهن التي كانت سائدة... غير ان كل ذلك بدا منقطعاً عن السياق الاجتماعي والتاريخي والاقتصادي، فطلاق ابو عصام عباس النوري لزوجته سعاد صباح جزائري هو الحدث الجلل الذي ينشغل به سكان الحارة من صبي الحمام حسام الشاه، وصولاً إلى قبضاي الحارة،"العكيد"ابو شهاب سامر المصري، فبدت الشخصيات وكأنها تعيش خارج الأحداث والوقائع التي كانت تعصف، آنذاك، بمدينة دمشق والمنطقة عموماً. وحتى الخط الدرامي الذي يظهر بعض ثوار الغوطة الذين كانوا يقاومون الانتداب الفرنسي بدا مقحماً، ولا يتناغم مع مجريات الأحداث الاساسية التي تجرى في بيئة مغلقة، موصدة بباب خشبي كبير وثقيل يغلق دوماً في وجه الغرباء، ويحرسه ابو ماجد حسام تحسين بك بوصفه المؤتمن على أسرار الحارة، وخفاياها. المسلسل من زاوية أخرى يظهر تخلف البيئة الشامية عبر اعتماد افرادها على الغيبيات، والخرافات، واللجوء إلى السحر والشعوذة، وتصوير المرأة كائناً خاضعاً، لا يملك أي رأي أو حضور. والمفارقة اننا لا نجد شخصية واحدة تحاول التمرد على هذا الواقع الراكد لا مسرح، لا صحافة، لا ثقافة، لا تعليم... فقط حكواتي الحارة هو الوحيد الذي يحمل كتاباً سميكاً، عتيقاً، ويتلو على اسماع الحضور في المقهى الشعبي حكايات عنترة والزير سالم... وسواها، فضلاً عن ان الشخصيات تظهر وفق ثنائية حادة، مفتعلة فإما ان تكون شريرة بلا حدود، وإما ان تكون خيرة بلا حدود، ولا حلول وسطاً هنا. بهذا المعنى يمكن اعتبار هذا العمل نموذجاً مثالياً، للدراما التاريخية المعقّمة، والنظيفة، والساذجة في آن، والتي تنهمك بالثرثرات المجانية، وبالملامح السياحية الباهتة، وتدير الظهر لتلك الصراعات، والسجالات، والنقاشات التي كانت تغلي في مجتمع يتطلع إلى الانعتاق والتحرر.