فيض من المسلسلات الدرامية يجتاح حواسنا في كل موسم رمضاني فتتسابق الفضائيات لعرض أهم انتاجات الدراما التاريخية والاجتماعية والكوميدية. ولعل مسلسل"باب الحارة"السوري، الذي تعرض قناة"أم بي سي"جزءه الثاني، بعد أن قدم مخرجه المميز بسام الملا جزءه الأول في الموسم الرمضاني الماضي، من أكثر المسلسلات متابعة من جانب الجمهور. فالطفل والمراهق والأب والأم والابنة يتسمرون أمام الشاشة الصغيرة لمتابعة أحداث المسلسل التي تدور في حارة شامية قديمة يعيش سكانها في بيئة تقليدية مُغلقة يتصارع فيها الخير والشر في حبكة درامية مشوقة. والسؤال المطروح: لماذا يحظى مسلسل كهذا يبتعد زمنياً وحضارياً من عصرنا بنسبة مشاهدة عالية؟ لعل الإجابة، وعلى رغم خروج السؤال عن سياق الاهتمامات المجتمعية والسياسية والفكرية الأكثر أهمية، تضعنا أمام حقيقة مجتمعاتنا وتركيبتها النفسية والحضارية المعقدة. فالمسلسل يقدم مجتمعاً يحكمه الزعيم بمعاونة وجهاء الحارة تجارها والأثرياء فيها وشيخها. أما بقية الشرائح الفقيرة فلا رأي لها، تنفّذ ما يُطلب منها وتغيّب كلياً عن دائرة اتخاذ القرار. انه إذاً ثالوث السلطة والمال والدين يتحكّم بالحارة وبمصائر سكانها وحياتهم. واللافت هو خضوع الناس وقبولهم سطوة هذا الثالوث من دون الاعتراض لو همساً. العائلة مختصرة بشخص الأب الذي يقرر مصير أبنائه ويتحكّم بتصرفات زوجته، هو الآمر الناهي والمطاع لا جدل معه ولا نقاش، وحين يحاول أحد أفراد الأسرة الخروج عن السياق الذي رسمه - كما فعلت الفنانة صباح الجزائري والتي برعت بدور زوجة حلاق الحارة الفنان عباس النوري، كان عقابها الطلاق. الأولاد يهابون الأب وينصاعون لأمره على رغم أن لهم زوجاتهم وأسرهم، إلا أنهم يستمرون تحت ظله ويدورون في فلكه. الاختناق الاجتماعي في الحارة يظهر في دور مقموع للمرأة مقتصر على الأعباء المنزلية والثرثرة ضمن حلقات نسائية مغلقة. وعلى رغم وجود شخصية ضعيفة بين رجال الحارة تتحكم به زوجته وتسيطر عليه، إلا أن المسلسل يحتفي بالذكورة المريضة المتسلطة عبر معظم رجال الحارة، والتي تمجد القسوة وتقدس أفكاراً سلفية عفنة. أخطر ما في هذا المجتمع الصغير هو القبول الذي يبديه سكانه واعتياد العيش في واقع محدد وأكثر من ذلك الشعور بالسعادة والرضى وانتفاء أي شعور تحريضي للتغيير. فلو افترضنا أن هذا المجتمع مثالي بالفعل، يتسابق فيه الناس على مساعدة بعضهم بعضاً وتربطهم أواصر الإلفة والمحبة والأخوة، ويتعاونون في مواجهة عدوهم الخارجي، هل وجود هذه البيئة يرتبط بقمع المرأة وتقديس الأب وسحق شخصية الأبناء؟ لا شك في أن مشاهدة المسلسل بكثافة من جانب الناس تؤشر الى حنين ما الى زمن مضى في شكله واستمر في جوهره. فالرجال يجدون في المسلسل مرآة لما في داخلهم من رغبة في التسلط والتجبر وإعلاء شأن ذكورتهم، أما النساء فيجدن أنفسهن امتداداً لحلقات الثرثرة النسائية الشامية بما تحمله من لذة النميمة واستغياب الآخرين. وجهة النظر هذه قد تكون قاسية وتحمل الخطأ بقدر ما تحمل الصواب، ولكن لو افترضنا أن مسلسلاً آخر يصور مجتمعاً مختلفاً يعيش فيه الأولاد بحرية ويبنون شخصياتهم ومستقبلهم بأنفسهم وتلعب فيه المرأة دوراً محورياً إبداعياً، وكل انسان فيه حرّ يتحكم بنفسه من دون وصاية من أحد.. هل كان سيُشاهد بالنسبة ذاتها التي يُشاهد بها باب الحارة الآن؟"باب الحارة"هو جهد درامي إبداعي تمثيلي متكامل برع مخرجه في التقاط أدق الحيثيات وتصويرها بتميز. إنه بالفعل يستحق المشاهدة، ولكن أي نوع من المشاهدة؟ تلك التي ترى فيه صورة مثالية لواقع مرتجى أو مشاهدة نقدية تفصل بين قيم انسانية لا يختلف عليها أحد وبين نظام اجتماعي أبوي محافظ يمنع الفرد من تحقيق ذاته. لا بد من أن تحرّضنا مشاهدة"باب الحارة"على فتح هذا الباب على آفاق التغيير والإبداع والديموقراطية والحداثة، لا أن ندعه مغلقاً ونستمر في مدح جهلنا وتخلفنا وذكورتنا المريضة. إيلي عبدو - بريد الكتروني